27 أبريل 2019

الضابط "أبو يوسف" يصفّي حساباته داخل جيش الاحتلال

الضابط "أبو يوسف" يصفّي حساباته داخل جيش الاحتلال

عام 2009 أنهى يعكوف ساباغ (55 عاماً) خدمته الدائمة في جيش الاحتلال وتحوّل إلى ضابط احتياط. عام 2016، وبعد 21 عاماً من الخدمة العسكريّة في الإدارة المدنيّة في قطاع غزّة ومن ثمّ الضفة الغربيّة، خلع ساباغ بزّته العسكريّة فيما بدا وكأنه إقالة له بسبب انتقاداته للإدارة المدنيّة ونشاطها الذي وصفه ساباغ بأنه يخدم "أجندة اليسار".

أنهى الضابط الملقّب بـ"أبو يوسف" مهامَه إلا أنّه، على حدّ وصفه، لا زال يحمل أموراً علِقَت في روحه، أموراً "إن لم تخرج، ستنفجر". هكذا جاء كتابه "مذكّرات أبو يوسف" (زيخرونوت أبو يوسف) الصادر بالعبريّة عن دار"سيلاع مئير"، كأنه تصفية حساباتٍ بين مؤسسات وشخصيّات عسكريّة إسرائيليّة احتدمت بينها الخلافات حول كيفيّة قمع الفلسطينيين.

لكتاب "مذكّرات أبو يوسف" أهميتان؛ الأوّلى أنّه يعرض لطبيعة العلاقات والديناميكيّات داخل المؤسسة العسكريّة الإسرائيليّة، وللعلاقات بين الأخيرة وبين الحكومة الإسرائيليّة، في قمع النضال الفلسطينيّ. وثانياً، أنّه يكشف إحدى وجهات النظر الهامّة، على صعيد المعلومات والقراءة، للعقدين (من نهاية الثمانينيات حتى أواخر الانتفاضة الثانية) الأشدّ في نضال شعبنا في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.

في هذا الكتاب، يستعرض الضابط ساباغ، من وجهة نظره، أزمة الثقة بين القيادات العسكريّة من جهة وبين ضباط الإدارة المدنيّة من جهة ثانية، وكذلك اختلاف الأولويّات بين قيادة الجيش وبين قرارات الحكومة الإسرائيلية. بحسب الكاتب، فإنّ المؤسسة العسكريّة "تهاونت" مع الفلسطينيين وحافظت على أجندات يسمّيها "يساريّة" تتناقض مع سياسات الحكومة.

"كنتُ وزملائي أدوات لتحقيق أغراض سياسيّة مخالفة لتلك التي تجنّدنا لأجلها"، يقول الكاتب، ويضيف: "كنّا أدوات بيد الضبّاط الكبار لتنفيذ سياسة مختلفة عن تلك التي ألزمتهم الحكومة بتنفيذها". يكمل:"يمكن القول إنّ السياسة تجاه الفلسطينيين تجاهلت توصيات الإدارة المدنيّة (...) ووجدتُ نفسي أقف فيما بعد ضدّ إخلاء المستوطنات في عوفرا وعامونا". بحسب الكاتب، فإن القيادة العسكريّة نظرت إلى قسم الإدارة المدنيّة بريبةٍ وشكٍّ، واعتبرته جسماً عميلاً ولا يمكن الوثوق به، وامتنعوا عن مشاركة أي معلومة حساسةٍ أو أسرار دولةٍ مع هذا الجهاز خشية تسريبها للفلسطينيين.

"تحت عين الرقيب"

في أحد فصول الكتاب يستعرض الضابط ساباغ الخلافات داخل المؤسسات الأمنية حول التعامل مع صعود "حماس" نهاية الثمانينيات. يستهل ساباغ ذلك الفصل بالحديث عن ندوةٍ حاولت الإدارة المدنيّة عقدها عمّا أسمته "التطرّف الدينيّ" في أوساط الفلسطينيين، والخطر الكامن في حركة الإخوان المسلمين. إلا أنّ الـ"شاباك" رفض المشاركة بالندوة وادّعى بأنها "غير مجدية"، وأنّ "كلّ من لا يحمل سلاحاً ولا يطلق النار لا يشكّل خطراً"، إذ كانت حركة "حماس" في حينه لم تنخرط في المقاومة المسلّحة بعد. لم يكن، بحسب ساباغ، لدى المؤسسة العسكريّة وعيٌ بمدى تأثير التيّارات الإسلاميّة في المنطقة. أما فيما يتعلّق بالسماح لها بأن تتشكّل كقوّة بوجه حركة "فتح"، فقد وُجد داخل الإدارة المدنيّة رأيٌ مغايرٌ دعا لعدم السماح للتيّارات الإسلاميّة بالانتشار بأي شكلٍ من الأشكال حيث أنّها ستكون "قوّة ضدّ إسرائيل". إلا أن هذا الرأي، بحسب الكاتب، قد كُتِم.

يضيف الكاتب أيضاً أن حركة "فتح" اتّهمت "إسرائيل" بدعم "حماس" مستخدمة سياسة "فرّق تسد"، وصار المنتمون لحركة "فتح" يطلقون على المنتمين لـ"حماس" تسمية "أولاد أبو صبري" (نسبةً للقب رئيس الإدارة المدنيّة للاحتلال في غزّة والذي اتّهم بأنّه لم يكن حازماً مع "حماس"). بحسب الكتاب، فقد أكّد "أبو صبري" لساباغ بأن حركة "حماس" كانت تحمي المخاتير المتعاونين مع الإدارة المدنيّة من تنظيم "فتح"، ولهذا السبب لم تمس الإدارة المدنيّة "حماس"، وأن ما حصل كان سوء تقديرٍ للخطر الاستراتيجيّ المتصاعد.

ضمن ما يسمّيه الكاتب سوء تقدير للخطر الاستراتيجيّ، يتطرّق الكتاب إلى تأسيس الجامعات الفلسطينيّة في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة. حيث أتاح موشيه آرنس، وزير الأمن الإسرائيليّ بداية التسعينيّات، بناء الجامعات في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، والتي أصبحت الحاضنة الأكبر لتنظيم الكوادر والنشاط السياسيّ. إذ تحوّلت الجامعة الإسلاميّة بؤرةً لتنظيم "حماس"، وجامعة الأزهر بؤرة لتنظيم "فتح". يرى الكاتب أنّ السماح بإنشاء الجامعات كان "سذاجة" من وزير الأمن الإسرائيلي الذي يصفه بأنّه كان "لعبةً بيد ضباط الجيش".

كذلك يذكر الكاتب مجال الصحافة، والذي تطوّر "عن طريق الصدفة" ودون أن تحكم الإدارة المدنيّة السيطرة عليه. إذ بدأت صحيفة الفجر بالصدور في غزّة ورفضت التعامل مع الإدارة المدنيّة، ومن ثم جريدة القدس رفضت كذلك التعاون مع الاحتلال. إلا أنّ صحيفة النهار تعاونت مع السلطات الإسرائيليّة، وقدّمت لها الإدارة المدنيّة بالمقابل لوائح بأسماء الشباب المعتقلين ومواعيد محاكماتهم، حتّى تتمكّن عائلتهم من متابعة أخبارهم، وهو ما زاد الإقبال الجماهيريّ على هذه الصحيفة التي خدمت الإدارة المدنيّة والاحتلال في غزّة. كذلك يروي الكتاب كيف كانت الصحافة الفلسطينيّة تموّل جزئياً من منظّمة التحرير الفلسطينية، وكيف مثّلت الصحف الأجنحة المختلفة للقيادة في تونس. ويذكر الكتاب عمل طاهر شريتح صحفياً لوكالة رويترز في غزّة، وكان محسوباً على حركة "حماس"، ونقل في حينه صور غزّة والانتفاضة وممارسات الاحتلال إلى العالم، إلا أنّه وبالوقت ذات "قيل أنه كان قناةً بين المخابرات الأمريكيّة وحماس".

شواهد على أزمة الثقة بين "الإدارة المدنيّة" والـ"شاباك"

واحدة من الروايات التي يقدّمها الكتاب تتعلّق بخلافٍ نشب بين أسعد صفطاوي (وكان زميلًا لعرفات أيّام الدراسة) وزكريا الآغا على تولّي مناصب قياديّة لمنظّمة التحرير في غزّة. وعكّس هذا الخلاف شرخًا بين "اللاجئين" ومنهم صفطاوي و"أهل البلد" ومنهم الآغا. كان صفطاوي من بين مجموعة طالبت بالسماح لهم بالسفر إلى تونس لإقناع عرفات بمبادرة السلام الإسرائيليّة، والتي تنصّ على منح استقلال للفلسطينيين في الضفّة وغزّة في حال تشكّل قيادة محليّة تقود الدولة. ورغم حظر السفر المفروض على كوادر "فتح"، إلا أنّ الإدارة المدنيّة أتاحت لصفطاوي السفر. عند عودة صفطاوي من تونس، اختطفه الـ"شاباك" وحقّق معه ليكون جهاز المخابرات أوّل من يستقي معلومات حول موقف عرفات، وهو ما اعتبرته الإدارة المدنيّة إهانةً لها من قِبَلِ الـ"شاباك".

قصّة أخرى تبيّن انعدام التعاون والثقة بين الإدارة المدنيّة وبين جهاز الـ"شاباك" هي قصّة العميل "م" – وهو عميل مزدوج من داخل تنظيم "فتح" يعمل لصالح "إسرائيل" والأردن ومصر في آن واحد، وكان على علاقةٍ أيضاً بالإدارة المدنيّة. أوصل "م" معلومات إلى الإدارة المدنيّة مفادها أن عرفات يُجهِّزُ لانتفاضة قصيرة الأمد، والتي قامت بدورها بإيصال المعلومة إلى الـ"شاباك". ثم تبيّن كذب هذه المعلومة حين أخضع الـ"شاباك" العميل "م" إلى آلة كشف الكذب، إلا أنّه لم يُبلِّغ الإدارة المدنيّة بعدم صحّة هذه المعلومة، وكُتمت مستجدّات القضيّة إلى أن عُرفت لضباط الإدارة المدنيّة عن طريق الصدفة. لاحقاً، وفي محاولةٍ لاسترضاء جهاز المخابرات، قدّمت الإدارة المدنيّة قائمة عملاء ليختار منها الـ"شاباك" من يريد، ووعدت الإدارة المدنيّة بعدم التواصل مع العملاء الذين يختارهم الـ"شاباك". إلا أن الأخير رفض هذا التعاون من طرف الإدارة المدنيّة.

الإدارة المدنيّة شريكاً في منظومة الفساد

شارك جيش الاحتلال الإسرائيليّ في منظومة الفساد التي نشأت في الضفّة وقطاع غزّة. إذ يدّعي الكاتب أن الإدارة المدنيّة كانت تجمع الضرائب دون أن تطوّر أي مرفقٍ في المدينة، بل كانت الأموال تذهب إلى جيوب القيادات الفلسطينية، كما كانوا يتقاضون الرشاوى عن كلّ تصريحٍ أو طلب لم شمل. كذلك، فقد شهدت فترة التسعينيات وما بعدها تعاوناً مع المافيا الإسرائيليّة بقيادة ميكي آسلن، والتي هرّبت الوقود إلى الضفّة الغربيّة بأسعارٍ أدنى من أسعار المورّد الرئيسيّ "دور آلون". من جهة، كان رجل المافيا ميكي آسلن مدعوماً من وزير إسرائيليّ كبير. ومن جهة أخرى، فقد كانت قوّات محمد دحلان متعاقدة مع شركة محمد رشيد، والتي تعاقدت بدورها مع المورّد الإسرائيليّ الرسميّ للمحروقات "دور آلون". تناقض المصالح أدّى بقوّات دحلان إلى التوعّد باغتيال ميكي آسلن، وقد تم تنفيذ هذا الاغتيال فعلاً في "إيلات"، ولم يُكشف القاتل حتّى اليوم. بحسب الكتاب، فإن أغلب شركات الوقود كانت مملوكة من قبل ضبّاط في الـ"شاباك" والجيش، ولذلك فقد امتنع الجيش عن مواجهة تهريب الوقود إلى الضفّة بقبضة من حديد.

بحسب الكتاب، بعد توقيع اتفاقيّة أوسلو استُقبل دحلان "استقبال ملوك" في غزة، وشغل منصب رئيس جهاز الأمن الوقائي هناك، بينما استلمه جبريل رجّوب في الضفّة الغربيّة، ومصباح أبو صقر المسؤول العام عن الضفة والقطاع.  بحسب "أبو يوسف" آمن الإسرائيليّون بشريكهم "المخلّص" دحلان، يدّعي الكتاب، وكانت أهم الفرضيّات في المؤسسة العسكريّة تقول بأن سيطرة دحلان على أهل غزّة يمكنها أن تحقق "السلام". بحسب الكاتب، كان من المعتاد أن يبلّغ دحلان الـ"شاباك" عن عمليّات فدائيّة قبل وقوعها، والمشاركة في إلقاء القبض على الخلايا والتحقيق معهم. بحسب "أبو يوسف"، فقد اعتبرت المؤسسة العسكرية دحلان "بطلًا إسرائيليًا".

إلى جانب دحلان برزت شخصية محمد رشيد (خالد سلام)، إذ كونا شبكة علاقات واسعة مع الـ"شاباك" وقيادة منطقة الجنوب في الجيش الإسرائيليّ وأصبحا من أصحاب الثروات. بدأ محمد رشيد ينتفع من المنصب (رسميا لُقّبَ بمستشار ياسر عرفات الاقتصادي ومدير صندوق الاستثمار في منظمة التحرير الفلسطينية حتى عام 2005)، فأقام كازينو في أريحا بالتشارك مع الملياردير اليهودي النمساوي مارتن شلاف (وهو بحسب ادعاء الصحف الإسرائيلية من المبادرين لإقامة اتصالات بين "حماس" و"إسرائيل"). وهكذا تقريباً أصبح كلُّ قائد في "فتح" رجل أعمال أو انضمّ للعمل مع رجل أعمال، وجهاز الأمن الوقائي كان أكبر المنتفعين.

"محاربة الانتفاضة بمعزل عن الشعب"

يرى الضابط ساباغ في كتابه بأنّ العملية السياسيّة التي قاداها إيهود باراك، رئيس حكومة الاحتلال السابق، خلال الانتفاضة الثانية كانت غير مجدية. بحسبه، فقد وجدت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية نفسها أمام هبّة جماهيرية، فعملت على مدار الساعة للحصول على صورة حقيقة عما يجري. أشارت التقديرات إلى صحوة في تنظيم "فتح" قادها مروان البرغوثي، ونشطت بموازاتها حركة تهريب الأسلحة. إثر ذلك، جاءت التوصيات المخابراتيّة والعسكريّة بأن استعمال القوّة المفرطة سيعطل العملية السياسية ويُضعف صورة "إسرائيل" في العالم. لذلك بدر توجّه بإحداث شرخ بين القيادة الفلسطينيّة والشعب، وإظهار "إسرائيل" على أنّها تقف مع الشعب، وكان ذلك من خلال استصدار آلاف تصاريح العمل داخل "إسرائيل". في كتابه، يصف أبو يوسف هذه السياسة بأنّها "حمقاء"، إذ اختارت "محاربة الانتفاضة بمعزل عن الشعب، والشعب بمعزل عن الانتفاضة".

على خلفية الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، بدأت نقاشات تقدير الموقف في المؤسسة الأمنيّة الإسرائيلية، وظهر الشرخ مرةً أخرى بين تقديرات المخابرات وتقديرات الإدارة المدنيّة. توقع أبو يوسف فوز "حماس" في الانتخابات فوزا ساحقا، واعترض على هذه الجملة ضابط الـ"شاباك" قائلاً: "حماس لا تنوي الفوز بالانتخابات"، أما ضابط الإدارة الأمنيّة فاتهم الـ"شاباك" بأنّ مصادره "غير صادقة". وعلى عكس توقّعات المؤسسة الأمنيّة وبشكلٍ مفاجئٍ، فازت "حماس" بالانتخابات التشريعية. لم يكن لدى الإسرائيليين خطة أو سيناريو لفوز "حماس" وما بعده، وبدأ التفكير "بما سنفعله مع حماس" من لحظة الصدمة التي انتابت المؤسسة، ولم يكن إثر ذلك أي مفر سوى السعي لإسقاط حكومة "حماس" عبر عزلها وقطع التمويل عنها ومحاصرتها في القطاع.

يكشف هذا الكتاب الديناميكيّة المركّبة لاتخاذ القرار الإسرائيليّ في قمع الفلسطينيين، ويكشف كيف تعمل وتتفاعل التوجّهات المختلفة في ذات الآلية الاستعماريّة المجرمة. كذلك فهو يكشف دور العملاء ليس في جمع المعطيات الميدانيّة فحسب، بل في مساعدة العدو على تكوين استراتيجيّته وسيناريوهاته المستقبليّة. وحتّى وإن لم يكن من الممكن أن نثق ثقة عمياء بكافة المعلومات التي يقدّمها هذا الكتاب، إلا أنّها لا تزال نافذة هامّة لفهم طبيعة العلاقات داخل جهاز السيطرة والقمع الذي يواجهه شعبنا.