تطرح الحرب والحرب الأهليّة، السؤال الأكثر مباشرةً عن الدولة، كما أنّه في تاريخ الفكر السياسيّ، أيضاً، ظلّ التفكير في القانون والدولة مسكوناً بالحرب كحقيقة أو كخيال. كانت الحربُ الطرفَ المقابل للدولة في عالم السياسة، فالدولة كخيال قانونيّ موجودة، أو أنّها وُجدت لكون حالة الحرب غير صالحة للعيش والبقاء. ليس من الغرابة أنّ مثل هذه "المحاججة" عن ضرورة الدولة هي مقولة شائعة تستخدم من قبل رجال الدولة والسلطة وجنودهما عبر التاريخ، فلطالما قُويِضَ الناس بهذه الدولة أو بتلك. وكانت الدولة بمعناها القديم تقف في مقابل الفتنة والضياع والحروب الأهليّة، ثمّ مع تحوّلها إلى بنيّة مجرّدة غير محصورة التمثّل في عصبة أو سلالة أو ملك، صارت الدولة بما هي كذلك تُقايض بنقيضها؛ حرب الجميع ضدّ الجميع كحقيقة متمثّلة في حرب أهليّة أو كخيال في الحالة الطبيعيّة.
تُشعِل الثورات العربيّة والحروب الأهليّة التي سبقتها ولحقتها السؤالَ المتعلّق بالحرب والدولة؛ سؤالٌ قد يكون نظرياً وفلسفيّاً محضاً، وقد يكون اجتماعياً وسياسياً عملياً مبثوثاً في الخطاب والممارسة اليوميّة، وجزءاً من الجدل والصراع في الحالات المختلفة: سوريا أو اليمن أو ليبيا. في الحالة العربيّة عموماً، يبقى تاريخ الدولة الحديثة مثارَ جدلٍ وخلاف على مستويات عدّة، وذلك فيما يتعلّق بالدولة والحداثة، والدولة وحداثتها على حدّ سواء.
تكمن مقدمة ذلك في أهميّة تنظير علاقة الدولة الحديثة، بما هي كذلك، بالحرب عموماً، وعلاقة الدولة الحديثة الأوروبيّة المتطورة بالحرب. وهذا على علاقة مع تاريخنا العربيّ المعاصر، حيث كانت البلدان العربيّة موضوعاً لحروب تلك الدولة؛ في شكلها الحديث منذ حروب نابليون، وفي شكلها القروسطيّ ممثلّاً بالحملات الصليبيّة.
فيما يخصّ فلسطين، يمكن مثلاً اختبار علاقة الدولة الأوروبيّة بالحرب الاستعماريّة من ناحيّة مقولة "أرض بلا شعب" في ذهنيّة رجل الدولة والقانون الأوروبيّ، وتطوّرها عبر التاريخ. وإن كانت الولايات المتحدّة الأميركيّة هي الغازيَ الأخير لبلدانِنا، فيمكن تنظير علاقة رأس المال بالدولة والحرب، والتغيّرات التي أحدثتها الحرب العالميّة الأولى في هذا المجال. وإن كانت "حروبنا الأهليّة" الحديثة هجينة، فيمكن الحديث عن الحاجة إلى تنظير مختلف للحروب الأهليّة في البلدان العربيّة. وهي هجينة من حيث أنّها تُحدّد عموماً بمحددين اثنين: الأول، كمّير Chimera الدولة والمجتمع العربيّ بين مكونات قديمة وحديثة في السؤال السياسيّ. والثاني، حجم وطبيعة التدخل الأجنبيّ في بلداننا منذ حملة نابليون حتى الغزو الأميركيّ.
ما تقوم به هذه المقالة هو العودة قليلاً إلى الخلف والذهاب أبعد من ذلك قليلاً، لمحاولة التنظير للعلاقة بين الدولة والحرب. إذ تعرض هذه المقالة مقاربتين مختلفتين للعلاقة المتطوّرة بين الدولة (الدولة الحديثة أو الأوروبيّة)، والحرب. الأولى؛ مقاربة كارل شميت مستفادة من كتابه "ناموس الأرض" Der Nomos der Erde، والثانية؛ مقاربة جيل دولوز وفيليكس غاتاري مستفادة من كتابهما "الحروب ورأس المال" Wars and Capital.
مقاربة كارل شميت مقاربةٌ قانونيّة سياسيّة تأتي في سياق تحليله للتغيرات الحاسمة في مفهوم القانون الدوليّ ومفهوم الحرب، والتي توجّتها الحرب العالميّة الأولى وتُرجمت كما يرى بنهاية القانون الدوليّ الأوروبيّ العام. يعود شميت بمقاربته هذه إلى أوروبّا القرون الوسطى، حيث كان القيصر والبابا يرعيان الحرب والسلم، فيشير على سبيل المثال إلى "مجلس لاتيران" Lateran-Konzil عام 1139، والذي حاول لأجل الوقاية من الحروب بين الشعوب والأمراء المسيحيّين فرض حظر استخدام الأسلحة البعيدة Weittragenden Pfeilen und Maschinen.
كان هذا الحظر معروفاً وتم اقتباس نصّه بشكل واسع، لكن ما بقي بحسب شميت غير مذكور، وما هو أبلغُ دلالةً، هو أنّ حاشية هذا الحظر صارت إشكاليّة، وربما تمّ تحريف معنى الحظر، حيث حصر في "الحروب غير العادلة". لم يكن مفهوم "الحرب العادلة" يومها مرتبطاً بالدولة بما هي كذلك، كما أنّ الدولة السياديّة لم تكن قد تشكلّت بعد. ويتابع شميت شارحاً أنّ بنيّة القانون الدوليّ الأوروبيّ بين القرنين السادس عشر والعشرين من خلال "فتح" Conquista العالم الجديد. فرانسيسكو دي فيتوريا Francisco de Vitoria مثال يضربه ويدرسه شميت ليفحص التنظير القانونيّ الدوليّ.
دي فيتوريا لاهوتيّ كاثوليكي من المدرسيين/ السكولائيين الإسبان Scholasticism، عرف باهتمامه بمسائل سياسيّة قانونيّة مثل الموقف الأخلاقيّ اللاهوتيّ من "فتح" أو "اكتشاف" العالم الجديد. وتعكس مواقفه التنوع والجدل الذي ساد في عصره. ويجمل شميت ذلك في أن دي فيتوريا وإنّ كان قد رفض مواقف سائدة آنذاك من اعتبار تلك الشعوب وحشيّة، ليسوا ببشر، أو بشر دون البشر، أو رفض بعض التبريرات والتوصيفات الأخلاقيّة القانونيّة لـ"الفتح" مثل "اكتشاف"، وهذا الوصف الأخير ساد بين القرنين 16 و18 فيما يتعلّق باستعمار أميركا؛ لكنّ كل ذلك لا يعني البتّة أنّه لم يعتبر الـConquista شيئاً حميداً.
في المجمل، كان ثمة اتفاق على أنّ استعمار العالم الجديد جزءٌ من التبشير الرسوليّ وجزء من رسالة مقدّسة، ودي فيتوريا لم يشذّ عن ذلك، بل تبناه بإيمان تام. لكنّ شميت يعكسُ تنوّعَ التبرير العمليّ لحملات الاكتشاف أو الفتح أو الحروب؛ تنوعٌ تغيّر من حالة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر. جزءٌ من هذه التبريرات يقارنه شميت بمهمّات التدّخل الإنسانيّ لإنقاذ القبائل والشعوب المضطهدّة، وجزءٌ منها جاء لاحقاً لحماية الأقليّة المسيحيّة، وجزءٌ منها كان كردّ على مقتل "ملّاحة" و"تجّار" إسبان وهكذا.
ما يهمنا هنا هو أنّ الحرب عموماً، والحروب مثل الحملات الصليبيّة والتبشيريّة ضد اليهود والمشرقيّين، عُدّت من حيث هي كذلك حروباً عادلة ووُصفت من قبل دي فيتوريا وجميع القانونيّين واللاهوتيّين بإنّها حروبٌ ضد أعداء أبديّين Hostes Perpetui. أمّا الحروب بين الشعوب والأمراء المسيحيّين فاختلف توصيفها القانونيّ باختلاف الوقائع والمصالح (البادئ أظلم...). مع اندلاع الحروب الأهليّة الدينيّة في أوروبّا نهاية القرن السادس عشر، لم يكن ثّمة تفريق بين الحرب العادلة والحرب المقدّسة إلّا على أساس مسيحيّ وغير مسيحيّ.
فُهمت الحروب على العالم غير المسيحيّ بشكل أساسيّ بإنّها حروب عادلة ومقدسّة، واقترن ذلك بالوعيّ بالعالم غير المسيحيّ عموماً على أنه بلدان يستهدفها التبشير، ومظانّ العداوة والخصومة الأبديّة (اليهود والمسلمين)، أو خالية مشروعة للفتح والاستعمار كما في أفريقيا وأميركا. ثم يقيم كارل شيمت تزامناً وتعالقاً بين العلمنة، أو ما يسميه نزع اللاهوت Entthiologisierung، الذي امتد ليشغل الحياة بكليّتها. إنّ نزع اللاهوت عن الدولة وعن الحرب عنى من بين أشياء عدّة عقلنة وأنسنة الدولة والحرب الذي يظهر لشميت كحدثيّة تاريخيّة هدفت إلى تطويق الحروب الأهليّة الدينيّة التي اشتعلت في أوروبا نهاية القرن السادس عشر. في فرنسا السباقة لمثل ذلك كما يشير شميت كان سيادة الملك وسيلة لرأب الصدوع المذهبيّة، وتعديل البنيّة الأناركيّة الإقطاعيّة. تأخر ذلك نسبياً في إنكلترا وألمانيا.
في المحصلة، تطوّرت الدولة السياديّة وبالتالي نقلت الحروب من حروب مذهبيّة وأهليّة إلى "حروب بين دولتيّة" "مقوننة" في سياق القانون الدوليّ الأوروبيّ. لكنّ هذا القانون نظر بدوره (وبالمقارنة مع سوابقه لاهوتيّة الأصل والطابع) إلى جزء من العالم خارج أوروبا كأراضٍ بلا أسياد وبلا ملّاك وبلا دول لا تنسحب عليها أعراف وقوانين الحروب الأوروبيّة، وإلى جزء آخر كبلدان وشعوب غير متحضرة تنتظر الرجل الأوروبيّ بتبريرات مختلفة إنسانيّة وسياسيّة (حماية المصالح وطرق الملاحة والتدخل الإنسانيّ لصالح الأقليّات والمضطهدين).
إنّ مفهوم الحرب العادلة هنا لم يكن حاضراً على المسرح الأوروبيّ. فالحروب بين الدولة الأوروبيّة السياديّة التي تتبادل الاعتراف ببضعها البعض بوصفها شخوص قانونيّة متكافئة، لم ينسحب عليها مبدأ الحرب العادلة أو غير العادلة، بمعنى أنه لم يُنظر للحرب بما هي كذلك كجرم بالمعنى الجنائيّ للكملة. أمّا الحروب خارج أوروبا، فمّا يسجله شميت عموماً، هو أنّ النقاش حول الاستعمار تركز قانونياً في الجدل بين الأوروبيّ، أي من حيث شرعيّة أو لا شرعيّة هذه الحملة أو تلك الحركة كان محور الجدل بين-دولتيّ أوروبيّ، ولم يتوجّه للاهتمام من حيث القانونيّة والشرعيّة عموماً إلّا في وقت متأخر جداً، أي بعد تطور "مماثلات للدولة السياديّة" في بلدان المستعمرات السابقة أو الحاليّة، حيث صارت أي حركة سياسيّة أو حملة عسكريّة تستهدف "دولة" لها "حكومة"، بصرف النظر عن كون هذه الدولة والحكومة دولةً مستوردة أو منقولة أو حكومة استعمار. الحرب العالميّة الأولى، و"معاهدة فيرساي"، حازت في مقاربة شميت على نصيب واسع من الدرس، الذي كان محوره تحوّل الحرب بما هي كذلك إلى جرم، وهي سابقة يعود شميت إلى المراحل السابقة لينفي وجود مماثلاتها. ويرى شميت في تحوّل النظر إلى الحرب والعدوّ كجرم ومجرمين مسألة خطيرة تهدد السياسيّ بما هو كذلك.
من جانبهما، يرى دولوز وغاتاري في البدايات فصل الحرب والدولة عن آلة الحرب، فمنطق الدولة وأصلها وغايتها مختلف عن ذلك الذي لآلة الحرب. آلة الحرب كانت بحسبهما اختراع الرحّل والخارجيّ. لقد كان على الدولة امتلاك آلة الحرب عبر تطويعها ومأسستها وتحويلها ضدّ الرحّل والخوارج الذين يهددونها من الخارج وفي النواحي البعيدة. ولكنّ مأسسة وحرفنة آلة الحرب لم يكن يوماً عمليّة خطيّة متصاعدة. فالسيطرة على آلة الحرب كان يعني السيطرة على واقع اجتماعيّ زاخر بالتوتّر والخصومة. وبهذا يريان أنّ هذه السيطرة ليست أخيرة وللأبد وأنّ آلة الحرب تبقى بوصفها جسماً أجنبيّاً متفلّتة من الدولة.
إنّ تطوّر العلاقة غير الخطيّ بين الدولة وآلة الحرب يجلي نفسه عبر العلاقة بين الدولة ورأس المال والحرب. ولقد عمل دولوز بين 1979 و1980 في دروس تزامنت مع عمله على "ألف مستوى" A thousand Plateaus على تحليل طبيعة الحرب وتحولّها من خلال ديناميّة رأس المال. وحاول أن يظهر تشابه منطق حركة الحرب ورأس المال عندما تصبح حرباً صناعيّة. ومختصر ما ذهب إليه هو مقارنة التفريق الكلاوزفتزي (نسبة إلى كلاوزفتز Clausewitz) بين هدف الحرب وغاية الحرب مع منطق مماثل لرأس المال، أي هدف رأس المال وغرض رأس المال.
يقوم تفريق كلاوزفتز على أنّ للحرب هدفاً عسكريّاً هو هزيمة العدوّ (الجيش العدوّ) وغاية سياسيّة (تحقيق مصلحة للدولة). الغاية السياسيّة مختلفة تماماً عن الهدف العسكريّ، فهي تتعلقّ بالأجل أو المدى الذي تعطيه الدولة لنفسها حين تدخل الحرب؛ إعادة "التوازن الأوروبيّ". هذا التفريق يعكس ما كان يراقبه و"يضطلع به" كلاوزفتز؛ أيّ ذلك التطوّر في مأسسة وحرفنة "آلة الحرب" وإلحاقها بالدولة كجهاز. وهذا التفريق أو هذا الفرق يبقى كامناً.
يشرح دولوز وغاتاري في "الحروب ورأس المال"، بإنّ هدف رأس المال هو التراكم (الإنتاج للإنتاج) وغايته هي النمو أو ربح الملكيّة الخاصّة (الإنتاج لرأس المال). في الحالتين الحرب ورأس المال فإنّ الهدف غير منتهٍ وغير محدود، والغاية هي شيء منذ البداية له حدّ ومحدّد. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ لرأس المال حدّ، وهذا الحدّ محايث، أي ليس بعامل خارجيّ، وإنّما داخليّ حيث إنّ رأس المال ينتج ويعيد إنتاج حدوده. إنّ هذا التناقض الجوهريّ والداخليّ في ديناميّة رأس المال (وسائل الإنتاج، المواد الخام، العمال...) بين الهدف والغاية وبين المحدود وغير المحدود هو ما ينتج الأزمات الدوريّة لرأس المال (ماركس).
إنّ التحول الحاسم بالنسبة لدولوز هو الحرب العالميّة الأولى حيث تصير الحرب حرباً شاملة Total War. يرى دولوز وغاتاري أنّه مع نهاية القرن التاسع عشر استحوذ رأس المال على آلة الحرب ودفع بتطورّها الماديّ شوطاً بعيداً، وتحوّلت الحرب إلى حرب شاملة [تلك الحرب التي تكون الأهداف المدنيّة والبنى التحتيّة جزءاً صميماً من استراتيجيّتها]، وهذا التحوّل حمل في طياته نوعاً من التعارض الداخليّ بين الهدف والغاية. فما إنّ أصبحت الحرب شاملة حتى أصبحت حرباً بلا نهاية، فلم يعد الهدف العسكريّ كسر جبهة وجيش العدوّ، وإنّما صار يستهدف كاستراتيجيّة الحياة بكليّتها. وبهذا لم يعد الهدف العسكريّ تبعاً للسياسيّ كما في نموذج كلاوزفتز في الحرب بين الدولتيّة الأوروبيّة. فما رصده كلاوزفتز في تطوّر الحروب النابليونيّة هو التفريق بين الحروب البسيطة والحروب المطلقة Absolute Wars، وهذه مختلفة عن مفهوم الحرب الشاملة كما تمثلّت في الحربين العالميّتين.
الحروب المطلقة هي تلك الحروب المحترفة الممأسسة وذات الكفاءة، وهذا التوصيف هو على أيّة حال أقرب إلى فلسفة للحرب منه إلى دراسة واقع الحرب، خلافاً لتلك الحروب الضعيفة أو العشوائيّة أو غير الاحترافيّة السابقة للثورة الفرنسيّة والحروب النابليونيّة. فآلة الحرب مع الحرب العالميّة الأولى، ومع الحكومات النازيّة والفاشيّة خرجت عن سيطرة الدولة. إنّ تطوّر آلة الحرب الرأسماليّ خلق هذا التعارض بين الهدف العسكريّ غير المحدود، والغرض السياسيّ المحدود. وبالطريقة ذاتها التي يحلّ بها رأس المال مشكلة التعارض بين المحدود واللامحدود (من عمالة ومواد خام ونمو وربح وربا وإنتاج للإنتاج) بين الهدف والغرض؛ يجملها ماركس في "الاستهلاك الدوريّ لرأس المال وخلق رأسمال جديد"، أي من خلال تضخيم رأس المال؛ بالطريقة ذاتها يحاول دولوز وغاتاري حلّ مشكلة التعارض بين الهدف والغرض في الحروب الشاملة رأسماليّة المنشأ عبر تنظير ماركسي، أي من خلال تضخيم الحرب.
لكن بما أنّ الحربين العالميتيّن استنزفتا رأسمال الحرب، يشير مؤلّفا"الحروب ورأس المال"؛ فقد صار "السلام" هو هدف آلة الحرب الرأسماليّة. هذا لا يعني أنّ آلة الحرب الرأسماليّة لم تعد ترغب في الحروب. يتابع مؤلفا الكتاب في شرح دولوز، وإنّما "حدث شيء ما" غيّر مفهوم الحاجة إلى الحرب. فجعل "السلام" هدفاً لآلة الحرب. فآلة الحرب لم تعد ترى في الحرب موضوعاً لها، طالما أنّها تجد هذا الموضوع في "السلام": من الإرهاب. "السلام" يحلّ هذا التعارض الداخليّ في الحروب الشاملة رأسماليّة المنشأ عبر شكل تضخيميّ. فحيازة الرأسماليّة لكلّ الحرب وآلة الحرب امتلاكاً وتنظيماً وإدارةً لم تحدث تاريخياً إلّا من خلال ما يسميّه شميت وحنة آرنت "الحرب الأهليّة العالميّة". "الحرب التي غرضها السياسيّ اقتصاديّ مباشرٌ وهدفها الاقتصاديّ سياسيّ مباشر". هذا التضخيم وجد مصدره وسببه في "السلام المهدد بالردع النوويّ"، وما يسميّه بول فيريليو Paul Virilio السلام الشامل Total Peace. وفي الحقيقة، إنّ آلة حرب هذا السلام الشامل ليست إلّا أداة الرأسماليّة المطلقة وغير المحدودة المعولمة. إنّ هذه الاستمراريّة بين الحرب والسلام، أو قل اللاتمييز بين الحرب والسلام، وجدت أصولها عند كلاوزفتز. فنهاية حرب ما بإعلان السلام لا يعني نهاية الحرب بل نهاية العهد.
ما يُستخلص من المقاربتين هو الاعتماد جهراً أو سرّاً على كلاوزفتز منطلقاً لتأريخ مفهمة الحرب في السياق الأوروبيّ والحديث، كما يقول شميت في موضع آخر عن كتاب عن الحرب Vom Kriege: "الوثيقة الأهم في تاريخ العالم وتاريخ الأفكار". ويلاحظ توازي مساري المقاربتين مع تقاطع في بعض مقدماتهما ونتائجهما. فكلا المقاربتين تصلان إلى أنّ امتلاك آلة الحرب من قبل الدولة السياديّة مثّل منعطفاً حاسماً في العلاقة بين جهاز الدولة وآلة الحرب. وكلاهما يصل إلى الحرب العالميّة الأولى بوصفها بدّلت معنى الحرب كلّ مبدّل. فهي الحرب التي افتتحت العالم أمام الحرب الشاملة. كما أنّ تأويل مفهوم السلام العالميّ في المقاربتين جدير بالاهتمام. فهو عند شميت نابع من تجريم الحرب بما هي كذلك، وتولي دول بعينها دور القاضي والشرطيّ على المسرح العالميّ، فلم يعد هناك من حرب عادلة أو حرب غير عادلة، ولا من مقاومة مشروعة أو غير مشروعة، فالحرب من حيث هي حرب جرمٌ بالمعنى الجنائيّ، وفي ذلك يرى شميت افتتاح العالم أمام حرب لا تنتهي عبر إلغاء العدوّ السياسيّ، والسياسيّ بكليّته، وشن حروب بحجة حماية الإنسانيّة والسلم العالميّ. وبالمثل يرى دولوز أنّ الحرب الشاملة رأسمالية المنشأ تحلّ أزمة تناقضها الداخليّ عبر لعبة تضخيم السلم، مما يفتتح عصراً إمبريالياً تتوسع الحرب فيه بلا نهاية وإن على شكل اختزان الدمار الشامل بهدف صيانة سلام مرعب.