17 يونيو 2023

دينٌ متخفٍّ اسمه الإنسانيّة

دينٌ متخفٍّ اسمه الإنسانيّة

تطفح المصطلحات التي نتداولها في حياتنا اليوميّة بالحمولات الأيديولوجية الحداثية، وأقصد بهذه الحمولات، التوجهات الفكرية التي نتجت عن المشروع الحداثي الغربي، ومن ثمّ شاعت وهيمنت على لغات أهل الأرض. مصطلحاتٌ تُزخرِف أقوالنا، وتجعلها أكثر سجعاً، فقولها يَرِنُّ في أُذن السامع، ووقعُها كالحجّة القاطعة والقول الفصل، خاصةً إذا ما جاءت في مقام سجالٍ وجدال. مصطلحاتٌ نسمعُها في العمل والجامعة والمؤسسات المختلفة، يظنّ قائلها إنّها بريئة، فيما غالباً تُستعمل دون علمٍ بخلفياتها، فضلاً عن قصد تلك الخلفيات. 

"الإنسانية" إحدى تلك المصطلحات الرنانة، التي يجري تداولها بصيغٍ مطلقة، دون تخصيصٍ أو تقييد، في سياقاتٍ تتطلب أحكاماً أخلاقية، كأنها قيمةٌ بذاتها. يوحي هذا التداول بالقيمة المرجعية والمعيارية لهذا المصطلح في وعي الناس، فأن تتحلى بالإنسانية اليوم، يعني أنه على الرغم من الاختلافات بين الناس، قرّرت أن تكون إنسانياً=أخلاقياً، إيعازاً من إنسانيتك، وفقط منها، وهذا عين الفضيلة! 

إن الاستعمال الشائع لهذا المصطلح غير مفصول عن دلالته الفلسفية، بوصفه مذهباً ورؤيةً معينةً للعالم، وإن لم نقصد هذا الاستعمال. ففي زمن تهيمن فيه منظومة حقوق الإنسان على مفاهيمنا الأخلاقية، التي نُناهض ونُناصر القضايا من خلالها، كان حقاً أن نتساءل عن الإنسان الذي صدّرته لنا هذه المنظومة وحضارتها المزعومة، تحديداً وأن العالم ينشد من خلفها: الإنسانية الإنسانية.  

يُشير آلان سوبيو في كتابه "الإنسان القانوني: بحث في وظيفة القانون الأنثروبولوجية"، إلى أن غاية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هي إعادة تأسيس دينٍ للإنسانية قادر على توحيد كل الشعوب على وجه البسيطة!1آلان سوبيو، الإنسان القانوني: بحث في وظيفة القانون الأنثروبولوجية، 86. فهل "الإنسانية" مفهوم أخلاقيٌ بريء؟ وهل حقاً يُعبّر عن المشترك الأخلاقي لجميع البشر؟

من أين تأخذ الإنسانية قيمها؟ 

تُرجمت كلمة (Humanism) إلى عدة ترجمات بالعربيّة، منها الإنسانية والإنسانوية والنزعة الإنسانية والهيومانية والمذهب الإنساني وغيرها، وكلها تقصد صيغة المصدر، للتعبير عن رؤية معينة. بحسب "الجمعية الإنسانية الأميركية"، فإنّ الإنسانية: "رؤية تقدميّة إيجابيّة للعالم قادرة على تحويل الحياة السياسية والثقافية إلى حياة تحتضن العدالة والمساواة، ومعيشة أفضل للجميع". لا يقف التعريف عند هذا الحد، بل تُضيف الجمعية فتقول إنّه "من المهم الدفاع عن الحقوق المتساوية في ظل مجتمع يتحيّز ضدّ غير المؤمنين بالآلهة أو أية قوى خارقة للطبيعة، فالإنسانيون وغير المؤمنين هم ضحايا للتمييز في كثير من جوانب الحياة".

هذا مثالٌ على تعريفٍ معاصرٍ للنزعة الإنسانيّة من جمعية اتخذت هذه النزعة عنواناً لها، وتعريفها يساوي بين أصحاب النزعة الانسانيّة وغير المؤمنين من حيث "التحيز الاجتماعي" ضدّهم. ولهذا التصوّر، خلفيّات تاريخيّة تعود إلى ما يُسمّى عصر "التنوير الأوروبي"، إذ النزعة الإنسانيّة الحديثة تنطوي على التزامٍ واضحٍ بمبادئ هذا العصر.2ستيفن لو، الإنسانوية مقدمة قصيرة جداً، 24-29. هذا العصر الذي كان مشروعه المركزيّ "إزاحة الأخلاق المحليّة والعرفيّة والتقليديّة وكل أشكال الإيمان المتجاوز، من خلال أخلاق نقدية وعقلانية،[…]، وهذه الأخلاق [الجديدة] ستكون العلمانية والإنسانية".3John Gray, Enlightenment's Wake: Politics and Culture at the Close of the Modern Age,185-186. إنّه الأساس الذي قامت عليه الأيديولوجيات الحداثية، فهو "الذي بعث الحياة في الماركسية والليبرالية بكل ما فيهما من تنوعات، وهو يُشكّل أساساً لكل من الليبرالية الجديدة واتجاه المحافظين الجدد… [كما] يشترك فيه مفكرو عصر التنوير كافة"4John Gray, Enlightenment's Wake، بواسطة وائل حلاق، الدولة المستحيلة، صفحة 41..

اقرؤوا المزيد: الإكراه على دين الليبراليّة!

من الواضح تعارض النزعة الإنسانية مع الأديان المُنزلة، لكن من الواضح أيضاً أن الأمر لم يبقَ في حيز التعارض والاختلاف الفكري، فمشروع "التنوير" جعل العلمانية وإنسانيتها المنظومات "الأخلاقية" المرجعية التي يُحتكم إليها اليوم. بذلك، فإن "المشروع التغريبي للنزعة الإنسانية التنويرية كان مشروعاً تدميرياً للثقافات التقليدية وبيئاتها الطبيعية في كل جزء من العالم".5Enlightenment's Wake, 267.

 حتى إذا افتقد الإنسان الإيمان بالدين، اخترع إيمانه..

إحدى حجج جون غراي المركزية في كتابه "صحوة التنوير: السياسة والثقافة في نهاية العصر الحديث"، أن النزعة الإنسانية هي استمرار للتصوّرات المسيحية للبشرية والعالم، مع تعديلٍ كبيرٍ عليها.6المصدر السابق، 237. وهذه الفكرة، لا يمكن تجاهلها تحديداً إذا ما نظرنا إلى مسألة حقوق الإنسان، لأننا سنجد ذات النزعة الإنسانية، القادمة من رفات المسيحية الأوروبية ونور الحداثة. "لقد كان تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر سنة 1948 معاودةً لقيم موروثة عن المسيحية، قامت بتنقيتها فلسفة عصر الأنوار".7الإنسان القانوني، 86. 

لنأخذ مفهوم التقدّمية (Progress) كمثالٍ آخر، لفهم طبيعة علاقة النزعة الإنسانية بالمسيحية الغربية. التقدّمية هي إحدى مصطلحات العصر الرنانة أيضاً، ولا تكتمل إلا بوجه عملتها الآخر، "الرجعية"، فكل من ليس بتقدميّ يوصم بالرجعية. والتقدميّة هي نظرة معينة للتاريخ ترى فيه "مشروع بناء يأتي دائماً على التحسينات في وضع الإنسان"،8وائل حلاق، لماذا ندرس الشريعة وكيف، مؤتمر قراءات في الفقه والفلسفة، كلية القاسمي، 157. صحيح أنه توجد نكسات في التاريخ، لكنه على المعدل -حسب هذه النظرة- مشروع زمني يتقدّم فيه الإنسان من السيء إلى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن، إلى ما لا نهاية، وتجعل هذه النظرة من التقدم الماديّ والتقنيّ المعيارَ الوحيد للتقدم.9المصدر السابق،158. 

إن التقدّمية هي إحدى المكونات الجوهرية للنزعة الإنسانية، بل يعتبرها غراي تعريفاً لها، قائلاً: "النزعة الإنسانية يمكن أن تعني أشياء كثيرة، لكنها بالنسبة لنا تعني الإيمان بالتقدم".10Gary, Straw Dogs: Thoughts on Humans and other Animals, 4. ويقول إنّ "فكرة التقدم هي نسخة علمانيّة من الإيمان المسيحي بالعناية الإلهية"،11المصدر السابق، xiii. فإذا كانت العناية الإلهية المسيحية قبل تنوير الحداثة هي التي ترعانا، فإنّ التقدم الماديّ والتقنيّ في الحداثة هو الذي يرعانا ويحلّ جميع مشكلاتنا!

يكفي النظر إلى عالمنا اليوم لإدراك وهم مقولة التقدم، فالحقيقة أنَّ هذا التقدم وضعنا في مرحلةٍ متقدمةٍ من الدمار والتدمير، لكل شيء، البيئة الطبيعية وتوازنها، ومنظوماتنا الاجتماعية والأخلاقية.

إن الطبيعة الميتافيزيقية للنزعة الإنسانية ليست نابعةً بشكلٍ جوهريّ من علاقتها بالمسيحية وإن كانت غير منفصلة عنها، فهي نسخة علمانية من المسيحية الغربية. بهذا نكون أمام دين جديد قائم بذاته، تكون فيه العلمانية والتقدّمية عقائد وفي التاريخ الحديث مُبشرّون كُثر بهذا الدين، لكن يبدو أنّ منظومة حقوق الإنسان أكثرهم استمرارية. 

اعتنق دين الإنسانيّة، ثمّ اعتنق ما شئت..

تتمركز النزعة الإنسانية حول الإنسان، كأنَّه القيمة الوحيدة في هذا العالم، ومصادر هذه المركزية تنبع من الذات، كقوّةٍ إنسانيّة داخليّة، لا كانبعاثٍ من المصدر الإلهي، وهي بهذا المعنى المنغلق على نفسه تكون نزعةً علمانيّة بالضرورة. بكلمات أخرى، إنها تسعى لنزع القدسية عن الأديان المُنزلة، من ثم لكي تتحول هي إلى دينٍ يُقدّس فيه الإنسان نفسَه ويمنحها الحقَّ في السيادة على الأشياء. لنا أن نتخيل مدى مرض ونرجسية الإنسان الذي أنتجته هذه النزعة ومشروعها التغريبي.

إنّ النزعة الإنسانية تشتبك بنيوياً مع العنف على البيئة الطبيعية، ومن ثم يمتد هذا العنف إلى ذواتنا الجمعية والفردية بطبيعة الحال، كما لا يقتصر على الاستعمار الكلاسيكي الذي اجتاح العالم. المقصود إعادة تشكيل ذواتنا بطريقة حداثية، فهذه النزعة هي "أساساً تبرير وترسيخ لصناعة فرد معين يفهم العالم كلياً من خلال قوالب حديثة".12وائل حلّاق، قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي، 31.

في عالم اليوم مؤسسات ومنظمات تتبنى النزعة الإنسانية كرؤية للوجود، وهناك أناس يعتنقونها بوصفها مذهباً وديناً، لكن ما قصدته هذه المقالة، أنّ في لحظتنا المعاصرة الطافحة بالهويات الاجتماعية، لا يرغب كثيرٌ من الناس خاصةً في عالمنا العربي الإسلامي بتعريف أنفسهم كعلمانيين مثلاً، لكن قد يقبلون بتعريف أنفسهم كإنسانيين، وغالباً ما يكون بتأثير من خطابات حقوق الإنسان.

بل أكثر من ذلك، فالحاصل أن المحاولات التدميرية للمنظومات الأخلاقية لبني البشر مستمرة عن طريق محاولات إعادة تعريفها من خلال النزعة الإنسانية، بوصفها المنظومة الأخلاقية لهذا العصر. فغير خفيٍّ عنا مثلاً، خوض البعض محاولات الدفاع عن الدين لإثبات إنسانيته، بل ويجادلوا بأن الدين يشجّع على القيم التي تبثها منظمات حقوق الإنسان، كأن لسان حالهم يقول: ونحن إنسانيون أيضاً! أليس هذا يفترض النزعة الإنسانية ويضعها المعيار الأعلى للأخلاق.

يبدو أن العلمانية، تعيد إنتاج نفسها في وعينا المعاصر بطرق كثيرة، أحدها هو مفهوم الإنسانية، الذي يُقدَّم للبشرية كمفهومٍ أخلاقيّ بريء وجميل، لكن الحقيقة، أنّ في طياته من الإمكانات الدافعة إلى أن يتعامل الإنسان مع إيمانه بطريقة علمانية، كأنه دينٌ موازٍ لدينه، فاعتنق الإنسانية أولاً، ثم لا يهم، اعتنق ما شئت من الأديان، إذ نضمن لك نسخاً علمانية منها!