17 يوليو 2025

الجنوب السوري: "عم نطرق جدران الخزان، هل من أحد؟"

الجنوب السوري: "عم نطرق جدران الخزان، هل من أحد؟"

يكاد ينسى محمود حسن، المزارع الشاب من ريف القنيطرة الشمالي، المرة الأخيرة التي عمل فيها في حقله المحاذي لشريط فض الاشتباك، الذي تم تحديده في عام 1974 ويفصل بين مدينة القنيطرة السورية والجولان السوري المحتل. 

وبقرار عسكري إسرائيلي غير مكتوب ولا معلن، لم تعد أرض محمود التي كانت مصدر رزقه؛ ملكاً له. يقول محمود: "لقد حرمتنا "إسرائيل" من الوصول إلى أراضينا وحقولنا، وبين ليلة وضحاها أصبحت هذه الأراضي منطقة عسكرية مغلقة ويمنع الاقتراب منها تحت تهديد الاستهداف المباشر أو الاعتقال".

تختصر قصة محمود ما تفعله "إسرائيل" منذ أكثر من عامين في جنوب غربي سوريا، والذي يتمثل في تنفيذ استراتيجية توسعية تبتلع مزيدا من الأراضي، وتُعيد ترسيم حدود "إسرائيل الكبرى" التي بدأت بغزو سوريا. فإلى أين وصل توغل جيش الاحتلال في القرى والبلدات السورية؟ ماذا وراء هذا التوغل اليومي؟ وكيف تبني "إسرائيل" وجودها على الأرض السورية؟ وكيف يتصدى الأهالي وحدهم لجيش الاحتلال؟ 

"صوفا 53" بداية الغزو 

خلافًاً للانطباع السائد، لم يكن التوغل الإسرائيلي في الجنوب السوري وليد لحظة سقوط النظام. فقد بدأت عمليات التوغل حين باشر جيش الاحتلال تنفيذ مشروع "صوفا 53" في عام 2022، وهو ساتر ترابي يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار وبعرض مماثل، بحيث لا يستطيع أحد عبوره، مما سيشكل خط الدفاع الأول عن الأراضي المحتلة. وفي الأول من حزيران/ يونيو 2022 توغلت جرافات الاحتلال بعمق 400 متر غربي قرية الحرية، وجرفت أشجاراً حرجية في تلك المنطقة.

تقوم آليات ثقيلة تابعة للجيش الإسرائيلي تقوم بأعمال بالقرب من مدينة القنيطرة، في ظل استمرار التقدم العسكري الإسرائيلي. (تصوير: بكير قاسم/الأناضول)
تقوم آليات ثقيلة تابعة للجيش الإسرائيلي تقوم بأعمال بالقرب من مدينة القنيطرة، في ظل استمرار التقدم العسكري الإسرائيلي. (تصوير: بكير قاسم/الأناضول)

ارتفعت وتيرة التوغلات بشكل ملحوظ بعد حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وفي الربع الأخير من عام 2024، تراوحت عمليات التوغل بين 100 متر وكيلومتر واحد في قرى الحرية وجباثا الخشب في الريف الشمالي للقنيطرة، وكودنة والعشة في الريف الجنوبي، من أجل شق الممر العسكري "صوفا 53".

اقرؤوا المزيد: "فلسطين الكبرى".. عن استحالة التسوية

كما عملت قوات الاحتلال على منع اقتراب أي شخص من شريط "فض الاشتباك"، عن طريق إطلاق الرصاص الذي أدى إلى وقوع إصابات وضحايا بين المزارعين والرعاة خلال وجودهم بالقرب من الشريط الشائك، أو اعتقال من يقترب من منطقة انتشارهم حتى لو كان طفلًا. ولا يزال الطفل صدام من قرية جباثا يقبع في سجون الاحتلال منذ شهر نيسان/ أبريل 2024 بعد اعتقاله من داخل الأراضي السورية خلال رعيه الأغنام في مكان قريب من عمل وحدات الاحتلال.

الدبابة في قلب القنيطرة 

مع انهيار نظام الأسد وانسحاب جيشه والجيش الروسي من جميع النقاط العسكرية في محافظة القنيطرة، تحول المشهد إلى غزو معلن. ففي غضون ساعات من إعلان السقوط، توغلت دبابات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القنيطرة المهدمة وفي عدة قرى من ريف القنيطرة، ووصلت إلى مركز المحافظة (مدينة البعث سابقاً)، وتمركزت في مبنيين حكوميين، هما مبنى المحافظة ومبنى المحكمة.

كما وصلت وحدات الاحتلال إلى مرصد جبل الشيخ الذي يعد أعلى نقطة فيه، ومن هناك ظهر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ليقول إنهم استعادوا أرضاً كانت لهم وسوف يبقون فيها إلى الأبد، وإن مدة بقائهم في الأراضي السورية غير محددة. وأعلن نتنياهو، في ظهوره هذا، انهيار اتفاقية "فض الاشتباك" عام 1974، وتوالت بعد ذلك تصريحات المسؤولين الإسرائيليين المشككة في الحكام الجدد لدمشق، ووصفتهم "بالجهاديين المتطرفين"، كما منح الإسرائيليون أنفسهم الحق في الوجود داخل المنطقة العازلة لحماية حدودهم من أي تهديد ممكن، وطالبوا بنزع السلاح من كامل مناطق جنوب دمشق.

تقدم دبابات إسرائيلية في منطقة الحمادية بالقرب من مرتفعات الجولان في القنيطرة، في 16 كانون الثاني/ يناير 2025. (تصوير: إرسين إرتورك/الأناضول)
تقدم دبابات إسرائيلية في منطقة الحمادية بالقرب من مرتفعات الجولان في القنيطرة، في 16 كانون الثاني/ يناير 2025. (تصوير: إرسين إرتورك/الأناضول)

تحت شعار "الدوافع الأمنية" و"منع وصول جماعات متطرفة"، تكشفت الأهداف الحقيقية على الأرض. وكان السلاح الذي جمعه الأهالي من الثكنات العسكرية بعد انسحاب جيش الأسد ذريعة لاقتحام القرى ونزعه - رغم أنه لا يشكل تهديداً لـ"إسرائيل" - إضافة إلى ذريعة البحث عن أنفاق وأسلحة لـ"حزب الله"، لفرض حظر التجوال وتحديد أوقات الدخول والخروج في بعض القرى. والأخطر من ذلك، تنفيذ عمليات تهجير وهدم، فقد أجبر سكان قرية "رسم الرواضي" على ترك منازلهم قبل هدم منزلين فيها، وبعد عدة أسابيع عاد سكان القرية إلى منازلهم.

اقرؤوا المزيد: هل تنجح "إسرائيل" في تغيير وجه المنطقة؟

وهجر جيش الاحتلال الإسرائيلي بعض السكّان من قرية الحرية، قبل أن يعودوا إليها بعد أسابيع قليلة، كما هجر أهالي حي كامل من قرية الحميدية وقام لاحقاً بهدم منازلهم البالغ عددها 15 منزلاً، وكان ذلك تحديداً في 16 حزيران/ يونيو 2025، وهدم جيش الاحتلال أيضاً منزلين خلال توغله في قرية الرفيد بريف القنيطرة الجنوبي، في خطوات أقرب إلى أن تكون تطهيراً ديموغرافياً لخلق منطقة آمنة له.

محو التركة العسكرية 

انقسمت أعمال جيش الاحتلال إلى مرحلتين متزامنتين تهدفان إلى إعادة هندسة الجغرافيا العسكرية على طول خط وقف إطلاق النار.

المرحلة الأولى: كانت عملية واسعة لنزع السلاح وتدمير الإرث العسكري للنظام السابق، وسبقت هذه العملية موجات من الغارات الإسرائيلية على أغلب المواقع التي تحتوي على أسلحة استراتيجية في كامل سوريا، لمنع وقوعها في أيدي عناصر متطرفة وتهديد أمن دولتهم كما ادعوا.

حظيرة طائرات تعرضت للقصف في اليوم التالي لقصف الجيش الاحتلال الإسرائيلي مستودعات أسلحة بالقرب من قاعدة المزة الجوية العسكرية، خارج دمشق، في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2024. (بكر القاسم/وكالة الصحافة الفرنسية)

طالت عملية محو الإرث العسكري أغلب الثكنات والنقاط في محافظة القنيطرة من أقصى ريفها الشمالي إلى جنوبها، وحتى منطقة حوض اليرموك بريف درعا الغربي على الحدود مع الأردن. ووصلت هذه العملية إلى نقاط استراتيجية، مثل: تل المال وتل الشحم الواقعين في منطقة مثلث الموت بين أرياف درعا والقنيطرة ودمشق. وأيضاً شملت مناطق عسكرية في جبل الشيخ، مثل: الفوج 36 في قلعة جندل ونقاط أخرى على مقربة من قطنا. وخلال تلك العمليات، قام جيش الاحتلال بسحب بعض الدبابات والعتاد الثقيل وتفجير مستودعات الأسلحة والذخائر وتدمير الدشم لمنع وقوعها بيد أي طرف كان.

اقرؤوا المزيد: الدولة القلقة.. سيناريوهات التهديد الوجودي لـ "إسرائيل"

المرحلة الثانية: وهي الأشد خطورة وتأثيراً على مستقبل الجنوب السوري، لأنها كانت تهدف لترسيخ الوجود العسكري الإسرائيلي والسيطرة النارية عبر إنشاء شبكة من القواعد العسكرية. وكانت المصادر الميدانية وثقت إنشاء 9 قواعد ونقاط تتوزع على الشكل التالي:

  • قمة عرنة (جبل الشيخ): تعد هذه النقطة أهم ما سيطرت عليه "إسرائيل" أخيراً، فمن هذا المكان يمكن رصد كل مربع في دمشق، كما أنه يوفر قدرة فائقة على رصد مساحات شاسعة من الأراضي اللبنانية، مما يعزز السيطرة الإسرائيلية في المنطقة. وفور انسحاب قوات جيش النظام السابق، دخل جيش الاحتلال المنطقة، وبدأ على الفور شق طرقات، وبناء ثكنة عسكرية جديدة، وجلب غرف مسبقة الصنع لإسكان الجنود.
  • تلول الحمر (شرق بلدة حضر): تقع تلول الحمر في ريف القنيطرة الشمالي مقابل بلدة مجدل شمس في الجولان المحتل. استغل الاحتلال انسحاب القوات الروسية من هذه النقاط الاستراتيجية الهامة بعد سقوط النظام، وبدأ إنشاء ثكنة عسكرية تراقب المنطقة المحيطة بوضوح تام.
  • قرص النفل (شمال غرب حضر): في سفح جبل الشيخ، وفي موقع يطل مباشرة على الشريط الحدودي وقسم كبير من ريف القنيطرة الشمالي، تم شق وتعبيد طريق جديد يصل إلى الحدود، مع مد أعمدة كهرباء وأسلاك لإنارة وتأمين النقطة بالكامل مع إنشاء مهبط للطائرات المروحية.
  • نقطة جباثا الخشب: أقيمت في ريف القنيطرة الشمالي، بالقرب من "برج الزراعة" في محمية جباثا الخشب الطبيعية، وهي نقطة متقدمة تحوي مهبطًا للمروحيات، ونقاط مراقبة، وغرفاً مسبقة الصنع، إضافة إلى شق طريق جديد يربطها بالحدود، كما قامت قوات الاحتلال بقطع الأشجار في هذه المحمية من أجل تأمين كشف واسع للمناطق المحيطة.
  • نقطة شمال بلدة الحميدية: بعد أن انسحبت القوات الإسرائيلية من مبنى المحافظة والمحكمة في مدينة البعث، اتجهت إلى هذه النقطة التي تم تجهيزها وإنارتها وشق طريق لها، وهي تكشف المنطقة بشكل تام وتُعدُّ مركز قيادة متقدما.
  • نقطة منطقة العدنانية: تقع بالقرب من سد المنطرة (أكبر سد في الجنوب السوري) على تلة مرتفعة في ريف القنيطرة الأوسط، وتم تجهيزها من قبل جيش الاحتلال بغرف مسبقة الصنع وأعمدة إنارة وتحصينها بسواتر ترابية مرتفعة، كما منعوا الدخول إلى منطقة السد باستثناء العاملين فيه.
  • نقطة داخل مدينة القنيطرة: بالقرب من "برج القنيطرة" الشهير في منتصف المنطقة العازلة، أنشأ الاحتلال نقطة عسكرية جديدة لترسيخ وجوده في وسط المدينة المهدمة.
  • نقطة تل أحمر غربي: تقع جنوب بلدة كودنة في ريف القنيطرة الأوسط، في موقع استراتيجي شديد التحصين كشف كامل ريف القنيطرة الجنوبي وجزءاً كبيراً من ريف درعا الغربي.
  • ثكنة الجزيرة: تقع في قرية معرية بريف درعا الغربي تحديداً منطقة حوض اليرموك، ويمثل وجودها توغلاً إدارياً وعسكرياً واضحاً داخل محافظة درعا، وليس القنيطرة فحسب.

"كرمٌ" إسرائيلي: مساعدات غذائية وعروض عمل!

لم تكن إقامة القواعد العسكرية مجرد تغيير في الخريطة، بل كانت بداية لخنق ممنهج لحياة السكان المحليين واقتصادهم. فبناء هذه المواقع على أراضٍ سوريَّةٍ أدى إلى قضم مئات الدونمات من الأراضي الزراعية والمراعي التي تعود ملكيتها لمواطنين سوريين أو للدولة السورية، وقطع أوصال بعض القرى عن بعضها، ما دفع السكان إلى سلك طرق زراعية أو طرق أطول، وبالتالي زيادة صعوبة التنقل في المحافظة.

كما أن منع المدنيين من الاقتراب من محيط هذه القواعد حوّل مساحات شاسعة تقدر بنحو ستة آلاف هكتار إلى مناطق محظورة، ما حرم الكثير من المزارعين من الوصول إلى حقولهم، والرعاة من المراعي الحيوية لقطعانهم، وكانت الكلفة الاقتصادية باهظة، فقد أصبحت محمية جباثا الخشب الطبيعية منطقة عسكرية مغلقة، وجرى تجربف ما يقارب ربع حراج الشحار في ريف القنيطرة الشمالي، بالإضافة إلى كامل حرش كودنة في ريفها الأوسط، مما قضى على مصادر رزق وغطاء نباتي هام.

إن هذا التضييق على مصادر الرزق هو جزء من سياسة يتبعها الاحتلال الإسرائيلي لإجبار السكان المحليين على القبول بالأمر الواقع وعم الاعتراض على الخريطة الجديدة التي يرسمونها للمنطقة. وقد تجلى ذلك بوضوح في التعامل مع رعاة الماشية، إذ يُمنعون من الرعي في أراضيهم القريبة من خط فض الاشتباك أو القواعد المستحدثة، ولا يتوقف الأمر عند المنع، بل يصل إلى المصادرة المؤقتة لقطعان الأغنام والأبقار إذا ما اقتربت من الأماكن المحظورة أو الاستهداف المباشر للماشية بالرصاص الحي، ما أدى إلى نفوق عدد كبير منها وتكبيد المواطنين خسائر فادحة.

اقرؤوا المزيد: كيف تتواطأ المنظّمات الأممية على العدوان على غزّة؟ 

في مقابل هذه القبضة الحديدية، يحاول الاحتلال بين الحين والآخر تطبيق استراتيجية "المصافحة بيد والضرب بالأخرى"، إذ تقوم الدوريات العسكرية الإسرائيلية، التي تتوغل في قرى ريف القنيطرة المحاذية لخط وقف إطلاق النار، بعرض المساعدات الغذائية والطبية وترميم البنية التحتية المتهالكة من شبكات مياه وكهرباء ووقود، والسؤال عن الاحتياجات وإجراء استبيانات وإحصاء لسكان القرى، وتقديم عروض عمل للشباب في الداخل المحتل.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يزور الجنود الإسرائيليين في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2024، في الأراضي التي يجتاحها الجيش الإسرائيلي في جنوب سوريا. ( المصدر: مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي)
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يزور الجنود الإسرائيليين في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2024، في الأراضي التي يجتاحها الجيش الإسرائيلي في جنوب سوريا. ( المصدر: مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي)

لكن هذه العروض، قوبلت برفض قاطع من الأهالي، الذين أدركوا أنها تهدف إلى منح شرعية لوجود المحتل. وفي أكثر من قرية قام جنود الاحتلال بوضع عدد من السلل الغذائية، إلا أن الأهالي سرعان ما أحرقوها في رسالة واضحة أن هذا المحتل مرفوض بجميع الوجوه، حتى بالوجه الإنساني الذي يحاول الظهور به.

وأقامت "إسرائيل" نقطة طبية مجهزة في قرية الحميدية، وأتبعتها بنقطة ثانية في قرية حضر ذات الغالبية الدرزية، وادعى الناطق باسم جيش الاحتلال، أن الهدف هو "تقديم العناية الطبية لأبناء الطائفة الدرزية". 

هنا، تتضح الاستراتيجية التي تتبعها "إسرائيل" في سوريا لخلق انقسامات، وعزل طائفة معينة وتقديم "إسرائيل" على أنها "حامية للأقليات"، كما تعهّد كثيراً مسؤولون إسرائيليون بعد سقوط نظام الأسد بحماية الطائفة الدرزية، عدا عن تنفيذ جيش الاحتلال هجماتٍ على أهداف سورية خلال مواجهات بين الجيش السوري ومسلحين دروز، بهدف ضرب النسيج الوطني، وإشعال فتن داخلية، وبالتالي إغراق سوريا في الفوضى، ومنع الدولة الوليدة من لملمة جراح أربعة عشر عاماً من الحرب والنهوض من جديد.

القنيطرة تُسيج أرضها بالدم 

لم تتوقف التوغلات الإسرائيلية عند تدمير الثكنات وسحب السلاح، بل سرعان ما تحولت إلى شكل جديد من الانتهاك اليومي، إذ أصبحت المداهمات وحملات التفتيش، التي تجري غالباً من دون أي مبرر واضح، مشهداً متكرراً في ريف القنيطرة وبعض المناطق في ريف درعا الغربي.

وغالباً ما كانت تنتهي هذه الحملات باعتقال العديد من الشبان، وبالرغم من أن معظمهم كان يُفرج عنه بعد ساعات أو أيام قليلة من التحقيق، فإن 27 من أبناء محافظة القنيطرة، بينهم طفلان، ما زالوا قيد الاعتقال في سجون الاحتلال بتهم جاهزة مثل "الانتماء لحزب الله" أو "التبعية لإيران" أو "عناصر إرهابية" أو حتّى من دون توجيه أي تهم.

أهالي القنيطرة يشاركون في تشييع جثمان أحد شهداء القرية والذي ارتقى برصاص جيش الاحتلال، في 16 كانون الثاني/ يناير 2025. (تصوير: مالك أبو عبيدة/الأناضول)
أهالي القنيطرة يشاركون في تشييع جثمان أحد شهداء القرية والذي ارتقى برصاص جيش الاحتلال، في 16 كانون الثاني/ يناير 2025. (تصوير: مالك أبو عبيدة/الأناضول)

أمام هذه الاستفزازات المتواصلة، لم يقف شبان القرى صامتين. ففي البداية، خرجوا في مظاهرات سلمية ضد قوات الاحتلال في العديد من قرى ريفي درعا والقنيطرة، مطالبين بوقف الانتهاكات واحترام كرامتهم. لكن هذه الاحتجاجات قوبلت بالرصاص الحي مرتين على الأقل، ما أدى إلى إصابة عدد منهم.

اقرؤوا المزيد: فلسطينيّو سوريا والفراغ الكبير.. من يمثّلنا؟

وكانت نقطة التحول في بلدتي كويا ونوى بريف درعا الغربي، حيث تطورت المواجهات إلى اشتباكات مسلحة. هناك، قاوم شبان المنطقة قوات الاحتلال المدججة بالآليات والأسلحة الثقيلة، مستخدمين أسلحة خفيفة في معركة غير متكافئة لمنع تقدم قوات الاحتلال إلى داخل قراهم.

كان ثمن هذه المقاومة باهظاً، فقد سقط على إثر هذه المواجهات 6 شهداء في بلدة كويا و9 شهداء في مدينة نوى. لكن دماءهم لم تذهب هدراً، بل رسمت خطاً أحمر جديداً. فمنذ تلك المواجهات الدامية، لم تُسجل أي حالة توغل أو اقتحام لقوات الاحتلال في هاتين البلدتين حتى يومنا هذا، في رسالة واضحة بأن الأرض التي رويت بالدم لن يكون عبورها سهلاً.

ويواصل جيش الاحتلال إقامة حواجز طيارة بشكل شبه يومي في أنحاء متفرقة من ريف المحافظة ليفرض سلطته على حركة السكان، يتخللها تفتيش المارة وسياراتهم، وفي بعض الأحيان أجهزتهم المحمولة مع تدقيق هوياتهم وتصويرهم، في عملية تهدف إلى جمع المعلومات وترسيخ الشعور الدائم بالرقابة.

الصوت القادم من جدران الخزّان 

وكما أن مشروع ممر "صوفا 53" لا يزال قيد العمل إلى تاريخ كتابة هذا المقال، فإن عمليات الحفر وجرف الأشجار مستمرة غربي قرى بئرعجم وبريقة في ريف القنيطرة الأوسط، كما تقوم قوات الاحتلال بإنشاء خط دفاع أولي أمام ثكنة الجزيرة في قرية معرية في ريف درعا الغربي.

بالجرافات والدبابات والجنود، تواصل "إسرائيل" تمددها اليومي على الأرض السورية، وتقيم القواعد العسكرية إعلاناً بوجود سيطول، ولن يشبع من التوسع الجغرافي. في حين يواصل الجنوب السوري دق جدران الخزان، حتى لا تصل الدبابة الإسرائيلية إلى قلب دمشق، فهل سيسمعه السوريون؟