26 ديسمبر 2022

الاقتراب من الموت.. مناقشاتٌ مع رافضي الإضراب الفرديّ (2/3)

الاقتراب من الموت.. مناقشاتٌ مع رافضي الإضراب الفرديّ (2/3)

(هذه المقالة، هي الجزء الثاني لسلسة من ثلاثة أجزاء، يتناول فيها الأسير المحرّر علاء الأعرج، الذي سبق له وأن خاض تجربة طويلة في الإضراب الفردي، بعضاً من تجربته، يفنّد من خلالها إدعاءات تُساق ضدّ هذا النوع من الإضراب. هنا رابط المقالة الأولى، والمقالة الثالثة).

في اليوم الثمانين من الإضراب، زارني في عيادة الرملة وفدٌ من قيادة استخبارات السجون الإسرائيلية، وألقوا عليّ محاضرةً هزيلةً تتضمن الأسباب التي لأجلها عليّ ألّا أستمر في الإضراب. اللافت أنّ النقطة الأساسية التي كانوا يحاجّوني بها: أنني بعملي هذا قد أموت، وهذا ضرب من الانتحار، وعليه فالنار مثواي، ولأنني لا أريد دخولها فالواجب الشرعي أن أرجع عن الإضراب. هكذا بالنص، بلا زيادة ولا تحريف!

وقد كانت هذه الشبهة أيضاً من جملة ما يحمله بعضٌ من قومنا، ويجعلونها ضمن تحفظاتهم على الإضراب. وفي هذا الجزء من المقالة، سنناقش ذلك مع ادعاء ثانٍ يُرفعان دائماً في وجه من يستعين بالإضراب الفرديّ عن الطعام لصدّ الظلم عن نفسه، على أنّ نناقش ثلاثة ادّعاءات أخرى في جزء ثالثٍ وأخير. ولأن المسألة كثيرة التفاصيل، فإننا نركز على أهمّ النقود الموجهة لتجربة الإضراب الفردي تجنّباً للإطالة.

توضيحٌ لا بدّ منه

عند تناول فكرة بالنقد فإننا نكون بين توتُّرين: واحد متعلق بالخشية من فقدان الهيبة أو القدسية للفكرة إذا ما نوقشت في الفضاء العام، وآخر متعلق بتضييع فرصة تطوير الفكرة وتلافي الخلل والارتقاء بها، بل وربما ترويجها وإزالة اللغط عنها، إذا ما اخترنا إحاطتها بالأسوار وتحصينها من الآراء.

وقد اخترتُ في هذه السلسلة، وأنا أعالج عينةً من أبرز التحفظات المطروحة على مسألة الإضراب الفردي، ألّا أصنع هذه الحُجُب حول فكرة أؤمن بقدسيتها إيماناً دفعني أن أسقيها من عمري، وأن أُقارب فيها الموت قناعةً ورضىً بما أصنع، لا لشيءٍ إلا لضرورة النقد والنقد المقابل في الحفاظ على قدسية الفكرة وتطويرها.

ينقسم الإضرابُ من حيث عدد المشاركين فيه إلى: فردي، ونخبوي، وجماعي. ورغم كون الإضراب الفردي نخبوياً في حقيقة الأمر، إلا أننا نفصلهما عُرفاً لما جرى عليه الاصطلاح الاعتقالي من جعل الإضراب النخبوي ما شاركت فيه نخبةٌ تتجاوز مفهومَ الفردي وتقلُّ عن مفهوم الجماعي، كما كان الحال في إضراب الأسرى الإداريين عام 2014، إذ شارك فيه من بدئه إلى آخره ما يقارب الـ80 أسيراً، واستمر نحو 63 يوماً.

أما الإضراب من حيث الهدف فواحد من اثنين: الأوّل؛ "إضراب مطلبي"، سواء كانت مطالبه داخل أو خارج أسوار السجن، لكنه لا يتعلق بحال من الأحوال بتحديد سقف الاعتقال، ولا يطالب بالإفراج الفوري أو المؤجل. والثاني؛ "إضراب الحرية" -إن صح التعبير- وهو متعلّق بمطلب الإفراج الفوريّ أو الآجل من خلال تحديد سقف الاعتقال.

كان لا بدّ من توضيح هذه التمايزات بين الإضرابات المختلفة، ففهمها يساعد في مناقشة الادعاءات.

إدعاءٌ أوّل: الإضراب الفرديّ رفع سقف الإضراب

يقول أصحابُ هذا الطرح إنَّ الإضرابات الفرديّة كانت سبباً في رفع السقف الزمني للإضراب بشكل عام، فطالت مدده أياماً طوالاً فوق ما كان معتاداً في الإضرابات الجماعية. بالتالي، فإنّها عوّدت المجتمع الفلسطيني، كما العدو، على تقبل تلك الأرقام الكبيرة، ما عنى أنَّ أي إضراب جماعي مستقبلي سيكون محكوماً بالوصول إلى هذه الأرقام حتّى يُستجاب له. 

غير أنّ مقارنة الإضراب الفردي بالجماعي ودعوى رفع السقف، تخلط -عن غير قصد- بين تصنيفي الإضراب، وتُغفِل الفكرة المحورية المتعلّقة بهدف الإضراب ودور ذلك في تحديد سقفه. إذ تتم المقارنة فعلياً بين إضراب مطلبي وإضراب حرية، ثم لا يُلتفَت إلا لعدد أيّام الإضراب دون هدفه، فتصير المقارنة بين إضراب جماعي وفردي مجحفة.

والحقيقة أن كل الإضرابات الجماعية دارت حول مطالب آنية أو بعيدة المدى ضمن ظروف الاعتقال، ولم تناقش فكرة الإفراج. ولا مشكلة لدى إدارة السجون، بل وحتى لدى الـ"شاباك"، من إقرار الأسرى على مطالبهم كلّها أو جلّها، فتكلفة ذلك دون تكلفة ارتدادات الإضراب الجماعيّ على المنطقة، واحتمالية تفاعلها وتطورها من مطالب تحسينيّةٍ لظروف داخل حدود المعتقل إلى معضلةٍ أمنيّةٍ ميدانيّة خارجه.

وقد رأينا نتائج إضراب الإداريين النخبوي عام 2014 على الأمن الإسرائيلي العام، إذ تحرّك الشارع الفلسطيني غضباً وتأثراً، ثمّ وقعت عملية خطف المستوطنين الثلاثة في الخليل، وتدحرجت الأمور بعد حرق المستوطنين للطفل محمد أبو خضير، وردّت فصائل المقاومة على الجريمة بمعركة "العصف المأكول". لاحقاً، تبيّن أنّ اللجنة المفاوِضة من قبل الـ"شاباك" أجّلت اقتراحاً كان الجهاز قد أقرّه داخلياً مضمونه تحديدُ سقف الاعتقال الإداري بسنة، طمعاً منها بتحصيل اتفاق أفضل من ناحيتها. بيد أنّ التأجيل كانت نتائجه كارثية على الأمن الإسرائيلي، وأعطى لقيادة الـ"شاباك" درساً حول مسألة السماح لإضراب جماعي أو شبه جماعي أن يستمر مدة طويلة، بحسب تعبير نافذين في الجهاز من خلال لقاءاتهم بقيادات من الأسرى.

لهذا أيضاً، ومنذ عام 2018، رأينا إدارة السجون توافق على المطالب مراراً بمجرّد تلويح الأسرى بالإضراب، وكان آخرها تحصيل الأسرى لمطالبهم قبل ساعات من بدء الإضراب الذي كان مقرّراً مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي، حتى أنّ مراسل القناة 11 عبّر فقال: "بالفم الملآن، الأسرى أخذوا ما أرادوا، فقط لأن الشاباك لا يريد توتير المنطقة". وقد امتلأ الفضاء الإلكتروني بتغريدات القادة اليمينيين من أن هذا "خضوع من الدولة للإرهاب".

السؤال هنا: هل أثّر سقف الإضراب الفردي على تحقيق الأسرى مطالبهم بمجرد تلويحهم بالإضراب دون خوضه؟ بل وهل شهدنا من الأصل حالة إضراب جماعي على مدار السنوات الماضية منذ بدء الإضرابات الفردية عام 2011 حتى نرى تأثير الإضراب الفردي عليها؟! ولو افترضنا أن أضرب الأسرى جميعاً طلباً لحريتهم فهل إدارة السجون كانت ستعطيهم إياها لمجرد أنهم أضربوا عدّة أيّام؟ مثلاً، احتاج إضراب هداريم عام 2000 إلى 30 يوماً للموافقة على الهاتف العمومي والذي لم يتحقق بالفعل إذ بدأت انتفاضة الأقصى، واحتاج إضراب عام 2012 إلى 28 يوماً لإنجاز قضايا مطلبية، أبرزها إخراج عدد من كبار الأسرى من العزل الانفرادي وقضية الزيارات وغيرها، فكيف لو كان المطلب هو الإفراج عاجلاً أو آجلاً دون مدة الحكم؟

ومن ناحيةٍ أخرى، فقد كثرت الإضرابات الفردية المطلبية داخل المعتقل، ولم يسمع بها أكثرُ الناس لقصرها، ولم تجد إدارة السجون مشكلةً في التوصل سريعاً إلى اتفاقٍ مع الأسير يقضي بحلّ الإضراب، وكذلك لم يتحتم على المعتقل خوض إضراب مئوي لكي يحقق مطلبه، ولا ينبغي أن يُغفل هذا في التحليل. وآخر مثال على ذلك، كان في خوض الأسير سبع الطيطي إضراباً انتهى قبل أيام معدودة، إذ استمر 19 يوماً نال فيه ما أراده من إنهاء عزله عن بقية الأسرى.

خلاصة الأمر، أن فرق المطلبين (في حالة كل نوع مع الإضرابات) هو نقطة التحليل المركزية، أما إذا تساوت المقارنة -وهي مساواة نظرية- بين مطلبيّ ومطلبيّ، أو تحرّري ومثله -وليست هي حالة المقارنة القائمة-، فبالتأكيد أن زيادة عدد أيام الإضراب مدعاة لسرعة تحقيق الإنجاز، وتفعيل القضية شعبياً وفصائلياً، وإشراك شريحة أكبر في الحدث خارج حدود المعتقل..

هذه هي أداة التحليل الحقيقية لفهم المدّة الطويلة نسبيّاً لإضراب الإداريين النخبوي عام 2014، لا دعوى ارتفاع السقف قبلها، فهذا الإضراب النخبوي الأول من نوعه لمحاربة أداة الاعتقال الإداري، ولتحديد سقفها، ولا تصحّ مقارنته مع إضرابات مطلبية سابقة عليه، وهو نموذج يُضرب لدعم الفكرة التي نطرحها لا مناقضتها.

وإن كان ما ذكر كافياً في نظري للإجابة على التحفظ المشار إليه، إلا أنه ينبغي ألا يغيب عن القارئ الكريم مُسلّمة سابقة على النقاش الحالي ومؤسِّسة له، فثمّة دعوات لتقنين ملف الإضراب الفردي في جزئيته المتعلقة برفع السقف. تغدو هذه الدعوات ذات قيمة بالنقاش حين يكون الإضراب الفردي مضرّاً ببرنامجٍ وطنيّ جمعي نضالي، أما ولا رؤية جماعية في ملف الاعتقال الإداري، ولا اتجاه نحو الإضراب الجماعي لحلحلة هذا الملف الذي يتدحرج يوماً بعد يوم بوتيرةٍ متزايدةٍ بشكل جنوني، ولا أفق لأدوات ضغط أخرى نملكها، فإنّ هذه الدعوات تصير دعوةً للوهن، فكأنها تقول: لا يوجد برنامج جمعي، ومع هذا رجاءً ارضَ باعتقالك ولا تقاومه!

إدعاءٌ ثانٍ: الإضراب مهلكة للنفس وضرب من الانتحار

لا تسمعُ هذا الرأي في أروقة الحركة الأسيرة ولا في ميدان الفعل المقاوم، فهذه قضية محسومة عندهم منذ زمن، لكنك تسمعه من بعض العامّة أو رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وحتّى من بعض المنتسبين إلى تيارات -بعضها إسلامي- لا تؤمن بالفعل المقاوم أساساً، أو تؤمن به إيماناً "طَوباوياًّ" ولا تمارسه لمبرّرات تسوقها، تصنع من خلالها فجوة بين ما يصطلح عليه اليوم جهاداً ومقاومة وبين صورة "نوستالجية" للجهاد الغائب.

ومن حيث المبدأ، فلستُ مفتياً شرعياً حتّى أؤصّل للمسألة، فهذا دور أهل الاختصاص، وقد ناقشها كثر اختلفت نتائجهم باختلاف مشاربهم ومدارسهم؛ هنا أضع نموذجين لفتوى يوسف القرضاوي وعصام تليمة. وإنّي وإن كنت فيما أرفقه من فتاوى، أجد فيها كفايةً عن القول، إلا أنني سأركز في الردّ بإيجاز على هذه الشبهة، من زاوية المضرب نفسه -على بساطته- وقد حسم خياره بعد دراسة هذه النقطة كما غيرها.

لا يملك المضرب أن يفهم المسألة كما يفهمها أهل دعوى الانتحار، وذلك نُلخّصه في ثلاث نقاط سريعة:

أ. الجهاد الشرعي نكاية للعدو المحارب للأمة، ولا شك أنّ الإضراب داخل في صلب هذا المقصد، ولولا ذاك ما كان الإضراب أساساً وسيلة ضغط على العدو، وما كان أعارها اهتماماً، وما وجدناه مضطراً في كل مرة أن ينزل على ما يقبل به المضرب نفسه من حلول، وما كانت الشبهة وسيلةً يستخدمها العدو نفسه في محاولة كسر الإضراب.

إننا هنا لا نقول فقط أن المضرب لا يرى في فعله انتحاراً، بل إنه على ثقة بأنه في جهاد صرف، وعمل صالح يُثاب عليه، وتطبيق محض لقول الله عز وجل: "وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ". ولو أدى فعله إلى الموت فهي عنده وعند الله شهادة، هكذا هي خاتمة الجهاد، ولا يكون العمل صالحاً حتى إذا ما مات فيه صاحبه جُوزي بثواب المنتحر. 

ب. إنَّ قياس المُضرِبِ بالمُهلك نفسَه، وشهيدِ الإضراب بالمنتحر، قياسٌ مع الفارق وما أوسعه من فارق، إذ لو أراد المرء أن ينتحر لسهل الانتحار عليه، وما لزمه كل هذا العناء والتعب ليصل إلى نهايته. فالموت وإنهاء الحياة ضجراً منها ويأساً من روح الله ليس مقصد المُضرب كما مقصد المنتحر، بل إن المجاهد في المعركة لا يخرج للموت ابتداءً، لكنها نتيجة محتملة. هذه المراغمة للعدو، تطيب فيها النهاية حتى لو كانت الموت، لكن كيف تقنع بهذا من لم يخرج في حياته مُراغماً لعدوه مرةً، ولا رأى في جهاده واجباً يدفعه للفعل؟! 

ج. إذا كان "منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ" فكيف بمن خرج دون ذلك كله؟! ولا يدرك هذا إلا من أكلت سنواتُ الاعتقال الإداري من عمره، ورسمت مسار حياته قهراً فوق قهر.

هكذا باختصار، لا يجد المضربون أنفسهم مضطرين أن ينفوا عن أنفسهم تهمةً ليست لهم ابتداء، وأن ينسفوا هذا الفارق ليجدوا أنفسهم في مكان غير مكانهم.