أعلن منسق الاحتلال، مساء السبت الماضي (09.04)، عن منعٍ تام لدخول الفلسطينيّين من الأراضي المحتلّة عام 1948 إلى جنين، عن طريق إغلاق حاجزي الجلمة وبرطعة الذي يفصل بين المنطقتين. مع العلم أنّ أهالي الداخل يُشكّلون ما يزيد عن نصف القوة الشرائيّة لأسواق جنين.
وكذلك يُمنع، وفق الإعلان، كبار التجار وأصحاب تصاريح الـBMC من محافظة جنين من الدخول إلى أراضي الـ1948، ويُمنع نقل "الحصمة" من كسّارات جنين، إحدى أبرز المنتجات في جنين، إلى الداخل عبر آلية "باب لباب". كما تُلغى إمكانية التقدم بالحصول على تصاريح لزيارة العائلات (حوالي 5 آلاف تصريح)، وهذا ينطبق على كل من يسكن في محافظة جنين بمدينتها وقراها.
فيما أبقى الإعلانُ على تصاريح العُمّال كما هي، إذ يبدو أنّ ورش العمل الإسرائيليّة في الداخل والدورة الاقتصاديّة المتعلقة بهم لا تحتمل غيابهم. وأيضاً، منع الاحتلال الزيارات العائليّة للأسرى الفلسطينيين في سجونه من محافظة جنين.
تندرج هذه العقوبات ضمن أدوات الضبط والقمع والهندسة الاجتماعيّة التي تتبناها سلطات الاحتلال منذ عقودٍ طويلة في تعاملها مع الفلسطينيّين، والتي يتكثّف استخدامها في أوقات الهبّات والمواجهة، وضدّ القرى والمدن التي تتصاعد فيها عمليات المقاومة. تقوم هذه الأداة على فكرة ما يُسمّى "منح التسهيلات" في مقابل "المنع الأمنيّ"، وفق معادلةٍ أمنيّة تُحددها مصالح الاحتلال المُتمثلة فيما تُسمّيه "حفظ الهدوء".
اقرؤوا المزيد: "حين يصبح الاحتلال مُدرّب تنمية بشريّة".
وفق هذه المعادلة: من يجرؤ على مقاومة "إسرائيل" فإنّه سيدفع الثمن شخصيّاً هو وأهله، وعشيرته، وقريته، ومحافظته، وصولاً إلى جميع شرائح شعبه، وسيُحاصر في لقمة عيشه. في المقابل، تُخفّف القيود على من "ينأى بنفسه عن ذلك" في انعكاس واضح لابتزاز الناس في لقمة عيشهم، والتي وإن نالوها وفق هذا الشرط، فإنّها مغموسةٌ بالذلّ والتنكيل.
باستخدام هذه الأداة، تسعى "إسرائيل" إلى وضع المقاومة على النقيض من سعي الناس لتحقيق المكتسبات الاقتصاديّة، لا بل على النقيض من سعيهم لتأمين متطلبات المعيشة الأساسيّة. ومن خلال ذلك تعمل "إسرائيل" على ضرب النسيج المجتمعيّ وخلق شروخٍ فيه، وترمي بذورها لمحاولة تأليب الناس، وبالأخصّ أصحاب المصالح الاقتصاديّة الضخمة، على خيار المقاومة.
تتكثف هنا أدوات كي الوعي التي تحاول القول: إنّ مصلحة الفلسطينيّ تقتضي أن يرفض العمل المقاوم، لأنّه ذو كلفةٍ عالية لا يقدر على احتمالها. كما أنّها تحاول تصوير المقاومة الفلسطينيّة على أنّها الحاجز الذي يقف أمام "تطوّر" الفلسطينيين وتحقيقهم مستوى معيشيّ مقبول.
أنتم وحدكم.. انظروا إلى غيركم
وفي حين تختار "إسرائيل" أن تعاقب مدينة أو قرية أو عائلة بعينها دوناً عن غيرها، فإنّها تهدف إلى خلق تمايزات اقتصاديّة داخليّة، بحيث يرى الفلسطيني أمام عينه، في قلب قريته، وربما في القرية المجاورة، وفي كلّ يومٍ "النموذج" الذي كان من الممكن أن يكون عليه لو لم ينحز للمقاومة أو لم يكن قريباً لأحد المقاومين.
يُذكر أنّه منذ الأيام الأولى لموجة العمليات الفدائيّة الحالية، وفي ظلّ التحذيرات الإسرائيلية المتكررة من إمكانية اشتعال مواجهة شعبيّة، حرص الاحتلال على ما يُسمّيه سياسة "الفصل بين الميادين". يعني ذلك أنّه يتعامل مع كلّ منطقة فلسطينيّة جغرافيّة على حدة، ويتصرف فيها بشكلٍ مختلف.
مثلاً، بعد يومين فقط من عملية الشهيد محمد أبو القيعان في بئر السبع، أعلن الاحتلال عن زيادة عدد تصاريح العمل لعمّال غزّة في أراضي الـ1948 من 12 ألف إلى 20 ألف تصريح. وكذلك الأمر، بالنسبة لعملية الشهيد رعد خازم، ففي اليوم التالي، الجمعة، لم تسارع سلطات الإحتلال إلى إلغاء إعلانها السابق بخصوص قيود الدخول إلى القدس. في اليوم ذاته، ذكر بعض من حاول الوصول إلى القدس من أهالي جنين أنّهم أُرجعوا على الحواجز ولم يسمح لهم بالدخول، رغم انطباق المعايير العمرية عليهم، في حين سُمح لغيرهم من بقية مناطق الضفّة الغربيّة.
يُعزّز هذا الفصل من سياسة الاستفراد بالبؤر المقاوِمَة في فلسطين، ومحاولة عزلها عن بقية محيطها الفلسطينيّ وتدفيعها ثمناً يوميّاً شخصيّاً، وبالتالي محاصرة أي امتداد للهبّة الشعبيّة أو إمكانية لاشتعال المواجهة في ميادين أخرى. هكذا تريد "إسرائيل" تكثيف محاصرة جنين، من جهة جنود وآليات يقتحمون المخيم ويعتقلون الشبان ويقتلونهم، ومن جهة تخنق الرئة الاقتصاديّة التي منها تتنفس المدينة، في ظلّ أزمةٍ متصاعدة من غلاء الأسعار وتأخر الرواتب الحكوميّة أو دفعها غير كاملة.
المدينة المتمردة على الركود
تأتي حزمة العقوبات هذه بعد أن عكست جنين بمخيّمها وقراها على مدار العام الأخير حالة نضاليّة متقدمة إذا ما قورنت بحالة الركود في سائر مدن وقرى الضفّة الغربيّة. فعملية "حومش"، وعملية "بني براك"، وعملية تل أبيب الأخيرة، كلها جرت في الشهور الأربعة الأخيرة، ومنفذوها جميعاً من جنين، جرادات، حمارشة، وخازم. هذا عدا عن اغتيال الشبان الثلاثة؛ سيف أبو لبدة، وصائب عباهرة، وخليل طوالبة، والاثنان الأخيران من جنين، بعد اشتباكهم مع قوّة من جيش الاحتلال كمنت لهم، انتهت باستشهادهم جميعاً مطلع الشهر الجاري.
اقرؤوا المزيد: "لا تطلقوا رصاصكم في الهواء".. من هي كتيبة جنين؟"
تربّعت هذه العمليات المتتالية على رأس جبلٍ من التطورات الميدانيّة، منها الإعلان خلال العام الماضي عن تأسيس "كتيبة جنين"، المحسوبة على الجهاد الإسلاميّ، والتي يُنسب لها تنفيذ عمليات إطلاق نار ضد الحواجز، والتصدي لاقتحامات مخيمّ جنين.
وقد وصل عدد الشهداء في جنين وحدها منذ مطلع هذا العام إلى يومنا هذا 11 شهيداً. فيما قال نادي الأسير الفلسطيني إنّ الاحتلال اعتقل منذ مطلع عام 2022 إلى اليوم أكثر من 200 فلسطينيّ من جنين وحدها. هذا عدا عن عشرات الاعتقالات من أبناء جنين ومخيمها لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية والذين تعرّضوا لتعذيب شديد سعياً للحصول منهم على معلومات تخصّ نشاط المقاومين.
كما برزت في جنين خلال الأشهر الأخيرة حالة شعبيّة تحتضن المقاومين وتلتف حولهم. من مظاهر ذلك، ما شهدته المدينة في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 من مراسم تشييع جماهيريّة لافتة للقيادي في حركة "حماس" وصفي كبها، بحضور مسلحين ملثمين تحت رايات "كتائب القسّام" و"سرايا القدس". ومن ذلك، الالتفاف الشعبي حول عائلة جرادات في السيلة الحارثية بعد إعلان الاحتلال نيّته هدم منزل الأسير محمود جرادات، إذ سبقت عملية الهدم مسيراتٌ شعبيّة بالسيارات، ورابط الناس حول المنزل طوال الليل.
مقاومون مُسلّحون لا تستطيع السّلطة الفلسطينية الوصول إليهم أو ترويضهم، وعمليات مقاومة نوعيّة تخرج من جنين، والتفاف شعبيّ حولها، وجوٌّ عام من التحديّ والاستعداد للتضحية. في ضوء كل هذه المعطيات، جعلت سلطات الاحتلال من تأهبها المُعلن أصلاً بمناسبة شهر رمضان، جعلته منصباً على جنين، وبدا أن جنين باتت "عنوان موجة الإرهاب" الحالية، كما عبّر عن ذلك عنوانٌ في صحيفة "هآرتس".
ويُذكر أنّ "إسرائيل" استخدمت أدوات العقاب هذه على مدار سنوات طويلة، دون أن تنجح في خلق حسمٍ كاملٍ لصالحها. فها هي جنين تنهض من بين ذكريات الانتفاضة الثانية والدمار الذي شهدته فيها، ومن بين ركام الضبط والقمع والرقابة وحالة الموت للتنظيمات الفلسطينية في الضفّة، وتحاول فرض نموذجها من جديد، مُستندةً إلى إرثٍ نضاليّ غنيّ ومغرق بالتضحيات.
ويُذكر كذلك أنّ مما يحبط تأثير هذه الأدوات الإسرائيليّة وفعلها أن يلتف الناس من سائر المدن والقرى في الضفّة وأراضي الـ1948 حول جنين، وقد بدأت مظاهر ذلك بدعوات انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي تدعو إلى التسوق من جنين وتحدي قرارات الاحتلال. كما أنّ إحباط هذه الأدوات يتأتي في أن تتنقل الحالةُ النضاليّة التي تعيشها جنين إلى بقية مدن فلسطين، فتغرق "إسرائيل" في الميادين التي أرادت فصلها.