22 مايو 2024

الأصابع المحروقة في نتساريم

الأصابع المحروقة في نتساريم

صورةٌ لدبابةٍ إسرائيلية مقلوبة ومُشتعلة بالنيران، وفوقها جزءٌ من الآية الكريمة "بضاعتكم رُدّت إليكم". كانت هذه عناصر التصميم الذي استخدمته "كتائب القسّام" للإعلان عن "كمين المغراقة"، وتحديداً في شارع السكة، أواخر نيسان/ أبريل 2024. 

وفي التفاصيل، أنّ الكتائب نجحت في إعادة استخدام صواريخ إسرائيلية غير متفجرة أُلقيت على القطاع من طائرات إف-16 الإسرائيلية، وأعدت بها كميناً مفخخاً، استدرجت إليه قوّة إسرائيلية، وفجّرته فيها، بالإضافة إلى استهداف الجنود بقذائف الهاون الثقيلة. أوقع الكمين حسب الكتائب 14 جندياً وضابطاً ما بين قتيل وجريح، فيما اعترفت "إسرائيل" على ما يبدو بـ4 قتلى.

وعدا عن "إعادة التدوير" هذه، فإنّ ذلك الكمين يكتسب أهميّته العسكريّة من كونه استهدف قوات الاحتلال في أبرز نقاط تمركزها في القطاع؛ "محور نتساريم"، الفاصل بين شمال القطاع وجنوبه. ومحور نتساريم هو إعادة بناءٍ لمحور وموقع عسكريّ إسرائيليّ قديم، كان يخدم الهدف ذاته؛ السيطرة على الطرق الرئيسة في القطاع وفصل جنوبه عن شماله. وقد فُكّك ذلك الموقع بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزّة عام 2005، على إثر ضربات المقاومة في انتفاضة الأقصى. وها هم عادوا، وها هي المقاومة تعود.

في هذا المقال نحكي بعضاً من قصص البطولة التي أزاحت "نتساريم" ومحورها الأول.

من الكيبوتس وحتى الحصن

في العام 1972، أُسس كيبوتس "نتساريم" جنوب مدينة غزّة، ولاحقاً أصبح جزءاً من مجمع "غوش قطيف" الاستيطانيّ الذي ضمّ 21 مستوطنةً. كان مستوطنو "نتساريم" يزرعون البطاطا والمانجا، ويستولون على مساحة من الأراضي تصل إلى 4300 دونم، شملت مساكنهم وأيضاً الأراضي الزراعية، والأراضي التي يُستولى عليها بحجة التحصين وتوفير "الأمن". 

شكّلت نتساريم ومواقع انتشار القوات الإسرائيلية حولها ممرّاً قاطعاً يفصل جنوب مدينة غزّة عن دير البلح، وكانت تمتد على مسافة عرضية طويلة، ما بين شارع صلاح الدين شرقاً، وشارع هارون الرشيد جنوباً، مما يعني أنّها حرفياً تقطع القطاع نصفين. 

إثر هذا التقطيع، تحكّم جيش الاحتلال بحركة الناس من وإلى شمال قطاع غزّة، وأصبح مفترق نتساريم عنواناً للمعاناة والتنكيل والتفتيش المذل، إذ تضاعف الوقت الذي يحتاجه المرء للانتقال من شمال القطاع إلى أوسطه، من 10 دقائق إلى خمس ساعات.

ومع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، تحوّل اسم المفترق إلى "مفترق الشهداء" لكثرة ارتقاء الشهداء حوله من جماهير الانتفاضة الغاضبة، وعلى ذات المفترق ارتقى الطفل محمد الدرة وأصيب والده.

الأصبع الاستيطاني المحروق

كان إنشاء نتساريم ضمن خطّة إسرائيليّة أشرف عليها أريئيل شارون، وأُطلق عليها "الأصابع الخمسة"، هدفها إحكام السيطرة على قطاع غزّة، ونشر خمسة أصابع استيطانيّة عسكريّة فيه. كانت نتساريم الأصبع الأول شمالاً، فإذ بها تتحول من أصبع سيطرة إلى أصبعٍ محروق. فمع عسكرة الانتفاضة الأولى أوائل التسعينيات، كان استهداف المستوطنات عنواناً رئيساً في عمليات المقاومة، وكانت نتساريم في دائرة الاستهداف.

في آذار/ مارس من العام 1993، نفّذت إحدى مجموعات كتائب القسّام إطلاق نارٍ قرب نتساريم، أسفر عن 4 جرحى من المستوطنين. ثمّ تبع ذلك بعد شهور قليلة، عملية الاستشهادي أيمن عطا الله، الذي اقتحم بسيارة مفخخة الشارع الرئيس لنتساريم وفجّرها بالقرب من سيارة إسرائيلية، فأوقع أيضاً عددا من الجرحى. تبعه الاستشهادي أشرف مهدي، غير أن سيارته المفخّخة انفجرت قبل وصوله لهدفه في نتساريم بفعل خللٍ فني.

على الدرب ذاته، أرسلت "حركة الجهاد الإسلامي" مجاهدها هشام حمد في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1994 متحزِّماً بالمتفجرات، ففجّر نفسه في دوريّةٍ لجيش الاحتلال تحرس نتساريم، فأوقع ثلاثة قتلى وأربعة جرحى1مقاتل من الجهاد يفجر نفسه بسيارة عسكرية، فيصرع 3 ويجرح 6"، جريدة السفير في عددها الصادر 12 تشرين الثاني 1994، العدد 6933.

الشهيد هشام حمد.

وأثناء مكوثه في غزّة خلال عام 1995، لم يفوت المهندس يحيى عيّاش فرصةَ استهداف نتساريم، فكان مسؤولاً عن نصب الكمائن المفخّخة في أحد البيوت البلاستيكية داخل المستعمرة، فوقع في الكمين لأول مرة مستوطن، ثمّ تبعه خبراء متفجرات جاءوا لتفكيكها فأُصيبوا بها. كما شارك عيّاش في ضبط المتفجرات في سيارة عماد أبو أمونة المفخخة التي تفجّرت في جيب عسكريّ مخصص لحماية نتساريم، وأوقعت من كان به بين قتيل وجريح2ورد ذلك في مذكرات الشهيد عوض سلمي، المنشورة إلكترونيّاً، والشهيد سلمي هو أحد أوائل عناصر القسام ورفيق الشهيد عماد عقل، استشهد في كانون الأول 2000 أثناء زراعته عبوةً ناسفة.

العودة بنارٍ أعظم

مع انطلاقة انتفاضة الأقصى في العام 2000، افتتحت السواعد المُقاتلة في غزّة ضرباتها بتنفيذ هجومٍ بالقنابل على سيارات المستوطنين قرب نتساريم، فأُصيب مُستوطنان بالهجوم3إصابة إسرائيليين في انفجار قنبلتين قرب مستوطنة نتساريم"، جريدة السفير في عددها الصادر 28 أيلول 2000، العدد 8716

وسرعان ما أصبح تنقل المستوطنين من وإلى المستوطنة مشروطاً بحماية عسكريّة، فكثيراً ما كانت القوات العسكرية ترافق تحركات المستوطنين لحمايتهم. وقد وصل الأمر إلى مرافقتهم من قبل الدبابات، فأصبح هدفاً لعناصر المقاومة. وقد شهدت نتساريم أول عملية تفجير لدبابة ميركافا الإسرائيلية، مطلع عام 2001. 

اقرؤوا المزيد: "رحلة تدمير الدبابة".

تبع هذا الحدث أحداثاً مشابهة استهدفت فيها الدبابات والقوافل العسكريّة التي تحرس نتساريم، فأصبحت تكلفة حماية المستعمرة دمّاً يدفعها جند شارون كل يوم. وأبرز تلك العمليات عملية تفجير "ميركافا 3"، في 14 شباط/ فبراير 2002، إذ زرع كل من جمال أبو سمهدانة ومصطفى صباح عبوةً ناسفةً أسفل الدبابة ففجّروها مُوقِعين 3 قتلى من الجنود.

من التفجير إلى الاقتحام

بعد العام الأول من انتفاضة الأقصى، بدأت جهود الفصائل تتركّز على ضرورة اقتحام المستوطنات التي تحوّلت إلى حصونٍ شديدة الحراسة. وكانت نتساريم الأشدّ تحصيناً وحماية في مستعمرات غزّة، فقرر القائد العام لكتائب القسام آنذاك، صلاح شحادة، اختراق نتساريم، فأرسل ليلة 12 آذار/ مارس 2002، ابن أخيه الاستشهادي بلال شحادة، والاستشهادي أحمد حلس، وكان الهدف نقطة حراسة للجيش تحرس نتساريم.

 

خرج بلال وأحمد ببندقيتي كلاشنكوف و16 قنبلةً يدويّة، وعند وصول قوّة راجلة يتراوح قوامها بين 16 و20 جندياً، ألقيا القنابل وفتحا النار على الجنود، ثمّ استمر بلال وأحمد بالتقدم نحو نقطة عسكرية وإطلاق النيران إلى أن استشهدا.

كانت تلك العملية الأولى التي تخترق حصون نتساريم، ثمّ تبعتها سلسلة من عمليات إطلاق قذائف الهاون واستهداف دوريات الحراسة بالعبوات الناسفة، فضربت المقاومة جهود جيش الاحتلال المضنية لحماية نتساريم، وكلّفته المزيد من المعدات والجنود. 

ثمّ حصل الاقتحام الثاني لنتساريم بالتشارك بين سرايا القدس وكتائب القسّام في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2003، نفّذه الاستشهادي سمير فودة من القسام إلى جانب مقاتل آخر من سرايا القدس، وقد أجهزا على ثلاثة جنود. وقد استشهد سمير في الاشتباك فيما نجح المقاتل الآخر بالانسحاب.

 

تبِعَت هذه العمليات عشراتُ عمليات إطلاق الصواريخ محليّة الصنع كصواريخ "قسام 1" باتجاه نتساريم. خلال تلك الفترة صرح رئيس وزراء الاحتلال شارون أنّ نتساريم كتل أبيب من حيث أهميّتها الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية، غير أنَّ تكلفة الدماء والجهود التي دفعها شارون وجنوده في سبيل حماية نتساريم ومستوطنات غزة كانت أثقل مِن أن تُحتمل، فجاءت خطته بالانسحاب من غزّة، بعد أن أحرقت نيران المقاومة أصابعه الخمسة، فكانت نتساريم من أواخر المستوطنات المخلاة في غزّة.

وإن عدتم عدنا

مع تعمق العدوان البريّ الإسرائيليّ داخل قطاع غزة في خضم معركة طوفان الأقصى، أعاد الاحتلال التمركز عند مفترق الشهداء (مفترق نتساريم سابقاً)، شاقّاً طريقاً أطلق عليه "794"، يفصل من خلاله شمال القطاع عن وسطه وجنوبه، ويتحكم بحركة الناس، ويستهدفهم بالاعتقال أو الإعدام الميداني. 

ينتهي هذا المحور بكانتونات عسكرية، يتموضع فيها جيش الاحتلال قبالة الرصيف البحريّ العائم التي أنشأته أميركا.  ويرى جيش الاحتلال أن السيطرة على هذا المحور تُمكّنه من شن عمليات عسكرية في قطاع غزّة بشكلٍ أكثر مرونة،  والسيطرة على أكثر الشوارع حيوية.

وبحسب التقارير الإسرائيلية، فإن المحور يتكون من 3 مسارات طرق لعبور الدبابات والآليات المجنزرة والجيبات العسكرية، مع تحصين المحور بالسواتر الترابية وأجهزة المراقبة والتمشيط الناري المستمر. 

وكما كانت نتساريم سابقاً هدفاً دائماً للمقاومة، فقد أصبح المحور الحديث هدفاً لكافة الفصائل التي تدكه بقذائف الهوان بشكل شبه يوميّ، فضلاً عن عمليات القنص والكمائن المفخخة والقصف المستمر بصواريخ قصيرة المدى "رجوم".

ويترافق هذا التركيز العسكريّ على قصف المحور مع استخدامه من قبل الاحتلال كورقة ضغطٍ في المفاوضات مع حركة "حماس"، فيما ترفض الحركة أي اتفاق هدنة دون انسحاب الجيش منه، باعتبار إخلائه مركزياً في عودة الناس إلى الشمال وفي فك السيطرة على القطاع، ولذلك تكثف ضربه بين الحين والآخر. 

ويبقى السؤال: هل سيستمر نتنياهو بإصراره على وضع جيشه في المحور أم سيأخذ العبرة من شارون عندما تنازل عن نظريته "نتساريم كتل أبيب" على أثر ضربات المقاومة؟