21 سبتمبر 2022

الجعبري ومنصور.. سيرة الحجر الذي صار صاروخاً

الجعبري ومنصور.. سيرة الحجر الذي صار صاروخاً

في شارع عمر المختار وسط مدينة غزّة، التُقِطت هذه الصورة بتاريخ 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، خلال مسير عسكريّ لـ"سرايا القدس"، الجناح العسكريّ لحركة الجهاد الإسلاميّ في فلسطين، نظّمته في الذكرى السنويّة الأولى للعدوان الإسرائيليّ على غزّة عام 2012، والذي أطلقت عليه السرايا في حينه "معركة السماء الزرقاء".

يظهر في يمين الصورة على الترتيب، القادة في "سرايا القدس"، خالد منصور، عرفات مرشد أبو عبد الله، بهاء أبو العطا، تيسير الجعبري، وجميعهم الآن في عداد الشهداء. بعد معركة "وحدة الساحات" في آب/ أغسطس الماضي، أصبحت هذه الصورة، من أقصاها إلى أقصاها، لوحةً لمن قَضَوا نحبهم، وسيرةً ذاتيّةً مختصرةً لِمَن كانوا قبل عقودٍ فتيةً آمنوا بالفكرة والوسيلة، والتحقوا بالمسيرة منذ خطواتها الأولى ليكونوا شهود المرحلة والتاريخ، بدايةً من الحجر والمنشورات، إلى الزمن الذي تُقصف فيه تل أبيب. 

في هذا المقال نُعرج على سيرة كلّ من تيسير الجعبري، وخالد منصور، القياديين الذين ارتقيا شهيدين بعد استهدافهما من جيش الاحتلال ضمن عمليته العسكرية التي حملت تسمية "بزوغ الفجر" في أغسطس/ آب 2022.

من السبورة إلى الراجمة

وُلِدَ الشهيد تيسير محمود الجعبري في الثامن عشر من كانون الثاني/يناير لعام 1972 في مدينة غزّة لعائلةٍ تعود أصولها إلى الخليل. في حي الشجاعية تحديداً نشأ الجعبري وبدأ مشواره التعليميّ الذي أنهاه بالحصول على البكالوريوس في الشريعة من الجامعة الإسلاميّة، ثمّ عمل في مدارس الحيّ مدرّساً للتربية الإسلاميّة. 

وفي مسجد عثمان بن عفان في الحي ذاته بدأ الجعبري منذ طفولته مسيرته الدعوية، إذ عرفه المسجد شبلاً في حلقات تحفيظ القرآن، ثمّ منشداً في فرقة "عُشّاق الشهادة" في سنوات شبابه، وتردّد في جنباته صدى ترتيله القرآن الكريم إماماً في الصلوات. 

شكّل عام 1990 نقطةَ الانعطاف في حياة الجعبري، فبعد اعتقال الاحتلال له لمشاركته في فعاليات الانتفاضة الأولى، خرج من سجن أنصار 2 وقد انضمّ إلى صفوف الجهاد الإسلامي. بعد انتهاء محكوميته التحق مُجدّداً بفعاليات الانتفاضة، مشاركاً في إلقاء الحجارة وزجاجات المولوتوف تجاه دوريات الاحتلال، وإغلاق الطرقات بالمتاريس. وفي العام 1996، كان الجعبري من أوائل نزلاء سجون مخابرات السلطة الفلسطينيّة، بعد ما عُرف بـ"ضربة عام 1996"، التي استهدفت فيها السلطة نشطاء حركتي الجهاد وحماس.

مع اندلاع شرارة انتفاضة الأقصى عام 2000، كان الجعبري قد أكمل عقدَه الأوّل في صفوف الجهاد الإسلامي، وقد طاف خلاله على مختلف الهيئات التنظيميّة للحركة، فكان مسؤولاً لإطارها الطلابيّ عام 1998، ثم عضواً في وحدة الاستشهاديين في جناحها العسكريّ السابق "قسم" التي تولّى تجنيد واختيار أفرادها، علاوةً على عمله في الجهاز الأمنيّ الذي تولّى مهام مطاردة وملاحقة العملاء خلال الانتفاضة الأولى.

 زمن الكورنيت 

شكّلت انتفاضة الأقصى بعثاً جديداً لقوى المقاومة وأجنحتها العسكريّة، ومع تأسيس "سرايا القدس" كجناحٍ عسكريٍّ لحركة الجهاد، كان الجعبري أحد قادة الرعيل الأول الذين حملوا على أكتافهم مهمة الانتقال من زمن الخلايا والمطاردين إلى زمن التشكيلات العسكريّة شبه النظاميّة، وما تطّلبه ذلك من قفزاتٍ على مستوى البناء التنظيمي، وتشييد خطوط الإمداد والتصنيع والتجنيد والتدريب.

تدرّج الجعبري في "سرايا القدس"، من قيادة كتيبة الشجاعية الشمالية مطلع انتفاضة الأقصى، ثمّ تكليفه بمنصب نائب قائد لواء غزّة، ليعمل تحت إمرة رفيق دربه الشهيد بهاء أبو العطا. وبعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005، اضطلع الجعبري في التخطيط والإشراف المباشر على عددٍ من العمليات البطولية، إذ كان أحد المشرفين على عملية كسر الحصار التي استهدفت موقع "ناحل عوز" العسكري شرق غزّة، في نيسان/ أبريل 2008، مُسفِرةً عن مقتل 3 من جنود الاحتلال وإصابة آخرين. 

كما توّلى مهام متقدّمة في الإشراف على إعداد وتجهيز الوحدات العسكريّة في "سرايا القدس"، ورفدها بالعتاد العسكريّ وتطوير ورشات التصنيع الصاروخيّ، التي حقّقت نقلاتٍ نوعيّة وأنتجت صواريخ السرايا التي وصلت تل أبيب عام 2012، رداً على اغتيال نائب القائد العام لكتائب القسام، الشهيد أحمد الجعبري.

الشهيد تيسير الجعبري، صورة نشرتها "سرايا القدس".

وفي العام 2019، توّلى الجعبري قيادة المنطقة الشماليّة في سرايا القدس، خلفاً لرفيق دربه الشهيد بهاء أبو العطا، الذي ارتقى في عملية اغتيال في نوفمبر من ذلك العام. كان من مسؤوليات الجعبري تطوير الإمكانيات القتاليّة للمنطقة الشمالية، وعُرف عنه أنّه كان قريباً من المقاتلين، ومتواجداً بينهم في ميادين التدريب والتطوير والتصنيع، حاضراً بدروسه الدينية، ومواعظه التي لم تُفقِدُه سنوات العمل الجهادي مَلَكةَ إلقائها، فقد حرص على الإعداد العقائدي لمقاتليه، جنباً إلى جنب مع الإعداد البدني واللوجستي. 

ومما يُنسب لأبي محمود في سيرته، إشرافه المباشر - وهو على مشارف عقده الخامس - على ضربة الكورنيت في أيار/مايو 2021، التي استهدفت فيها سرايا القدس جيباً لجيش الاحتلال شرق بيت حانون شمال قطاع غزّة، تزامناً مع الرشقات الصاروخيّة الثقيلة التي استهدفت بها كتائب القسّام مدينة القدس.

سيل دم يخطّ حدود القطاع 

"لم أشعر في يوم من الأيام أنني كنت قائداً، طوال هذا المشوار وأنا جندي على الأرض، لكن المهام تختلف"، بهذه الكلمات ظهر شابٌ ممشوق القوام، في الثلاثين من عمره، فوق ركام إحدى المستوطنات المحررة في القطاع، مرتدياً الزيَّ العسكريّ ومتوشحاً رشاشه، اسمه خالد منصور، بوصفه قائداً لأحد القواطع العسكرية في سرايا القدس، متحدثاً لقناة الجزيرة في وثائقي "في ضيافة البندقية".

وُلِد خالد منصور في رفح بتاريخ 14 آب/ أغسطس 1975، لعائلةٍ تعود أصولُها إلى قرية برقة المهجّرة، وقد عرّفه القطاع بطلاً في كمال الأجسام منتصف التسعينيات.

ومنصور أحد أعلام الجيل الذهبيّ لفصائل المقاومة في غزّة الذين عاصروا كافة المراحل التاريخيّة لأجنحتهم العسكرية، من الحجر والكارلو، إلى الكلاشنكوف والعبوات الناسفة، مروراً بحروب الأنفاق واقتحام المستوطنات، وليس انتهاءً بما وصلت إليه المقاومة اليوم من إمكانيات على الأرض، في مسار خضّبته الدماء وشيّدته الأرواح.

التحق منصور بصفوف حركة الجهاد الإسلاميّ عام 1987 حين كان طالباً في الإعدادية، ونشأ معها وعاصر كافة مراحل عملها الشعبيّ والعسكريّ، متنقلاً بين أذرعها العسكريّة الثلاث التي تشكّلت خلال مسيرة الحركة، من كتائب "سيف الإسلام"، إلى القوى الإسلامية المجاهدة "قسم"، وصولاً لسرايا القدس، التي مضى شهيداً وهو على رأس قيادة منطقتها الجنوبيّة في قطاع غزّة. 

في العام 1997، اعتُقل منصور في سجون السلطة الفلسطينية بعد تنفيذه عمليةً أسفرت عن مقتل 3 جنود إسرائيليين، ثم أُفرج عنه لاحقاً ليحط رحاله في ركاب انتفاضة الأقصى التي كانت شاهدة على مسيرة الرجل وعظيم أثره على الأرض. 

في مسيرته ضمن حركة الجهاد الإسلامي التي تخطت الثلاثة عقود، كان الشهيد منصور أحد مؤسسي ومدرّبي مقاتلي سرايا القدس في رفح عقب اندلاع انتفاضة الأقصى، مشاركاً ومشرفاً على عشرات العمليات الفدائية ضدّ الاحتلال. وقد عُرِف عن منصور حضوره في كل تفاصيل العمل العسكريّ، وحرصه الدائم على متابعة كل صغيرة وكبيرة عن قرب. 

كما عمل إلى جانب عدد من مهندسي السرايا في تطوير الترسانة الصاروخية، في نطاقات الكثافة النارية ومديات الإطلاق والقدرة التدميرية. وتذكر سرايا القدس في بيانها عن الشهيد، أنه عمل إلى جانب الشهيد عوض القيق في وضع اللبنات الأولى لسلاح "الطائرات المسيّرة" منذ عام 2008، التي كشفت السرايا رسميّاً عن امتلاكها وإدخالها الخدمة العسكرية عام 2019.

كما عُرِف عنه اهتمامه الشخصيّ النابع من كونه بطلاً رياضيّاً، بصحّة مقاتليه في لواء رفح ولياقتهم البدنيّة، فشيّد لهم نادياً رياضيّاً، ألحقه بتركيزه على تأمين العتاد الشخصي والإمداد. وفي العام 2003 شكّل الوحدة الخاصّة في سرايا القدس، لتضمّ أفضل المقاتلين، وأكثرهم كفاءةً، ومن قد حقّقت تلك الوحدة تحت قيادته المرتبة الأولى على مستوى كتائب سرايا القدس في قطاع غزّة.

اسم لا تنساه "إسرائيل" 

طوال ما يزيد عن عقدين من المطاردة، كان خالد منصور اسماً تذكره "إسرائيل" جيّداً، بوصفه المسؤول المباشر - إلى جانب مئات الهجمات الصاروخية وعمليات القنص واستهداف آليات الاحتلال - عن عدد من العمليات النوعية، التي أوجعت الاحتلال، وحصدت أرواح جنوده وضباطه داخل غزة وعلى حدودها، قبل وبعد الانسحاب من غزة. من تلك العمليات عمليةُ استهداف جيب قيادة عسكري قرب محررة "موراج" جنوب خانيونس في 8 آب/ أغسطس 2004، والتي قُـتِـل فيها جنديان من جيش الاحتلال، وأُصيب قائد اللواء الجنوبي في فرقة غزّة في جيش الاحتلال بجراحٍ متوسطة. ومنها أيضاً عملية موقع "كيسوفيم" في 26 آذار/ مارس 2010، التي قُتل فيها جندي إسرائيليّ، وضابطٌ برتبة رقيب.

"كان منصور أكثر عنفاً، وأكثر إجراماً، وأكثر نشاطاً - من الجيد لشعب إسرائيل رحيل هذا الرجل"، بهذه الكلمات علّق تامير هيمان، رئيس معهد أبحاث الأمن القومي، على نبأ اغتيال القائد خالد منصور. وفي صبيحة اليوم التالي، خصص الإعلام الإسرائيلي لقاءً مع والدة الرقيب المقتول لتعقيب على اغتيال منصور وصفته بـ "تصحيح الخطأ التاريخي". 

حتى مساء السبت الموافق 6 آب/ أغسطس 2022، وقبل أسبوعٍ واحدٍ من إكمال عامه الـ47، أمضى "أبو الراغب" كما كان يُكنّى، أكثر من ثلثي حياته جندياً وقائداً في معركة الاشتباك المتواصل مع الاحتلال، متدرجاً في المناصب والقطاعات العسكرية لسرايا القدس، مشاركاً وحاضراً في الخطوط الأولى في عمليات إطلاق قذائف الهاون والصواريخ، ونصب العبوات الناسفة، واقتحام المستوطنات، وصدّ الاجتياحات. 

"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً"، كانت هذه الآية ولا تزال، تسطر بيانات نعي المقاومة الفلسطينية لقادتها الشهداء، لترسم معالم طريق قادة العمل المقاوم، التي هي شهادة مع وقف التنفيذ. وإن كان كل من في الصورة التي افتتحنا بها المقال، من أقصاها إلى أقصاها، قد قضوا نحبهم، فإنّ أركان الصورة والحكاية يُكملها "من ينتظر".