29 أغسطس 2024

"ازكيهم".. المقاتل بعين واحدة

"ازكيهم".. المقاتل بعين واحدة

في انتفاضة الأقصى، وتحديداً في 27 نيسان/ أبريل 2004، استُشهد أشرف نافع "ازكيهم"، مقاتل "كتائب القسّام" في مخيّم طولكرم، الذي جاء لقبه تصديقاً لكثرة خوضه اشتباكات مع قوّات الاحتلال، وكذلك تشجيعاً من رفاقه بأن يُسقي العدوّ مزيداً من الرصاص.

بعدها بعامين، يولد الشهيد من جديد، بالاسم نفسه، وما هي إلا سنين معدودة، حتى يكتسب اللقب نفسه أيضاً. أشرف نافع "ازكيهم"، فتى ذو 18 عاماً، يصبح قائداً لـ"كتائب القسّام" في مخيّم طولكرم خلال طوفان الأقصى، وارثاً همّ عمّه وروحه وثأره، وأيضاً بأسه وشجاعته، وحاملاً على كتفه جعبته وبندقية الكلاشنكوف خاصته. 

في طوفان الأقصى، وتحديداً في 23 تموز/ يوليو 2024، لحق "ازكيهم" بعمّه. "ازكيهم ونار جهنم ورجيهم"، كان أهالي المخيم يهتفون له، وكان كذلك فعلاً1ازكيهم هي تحوير لـ"اسقيهم"، بلهجة أهل المخيم.

ولمعرفة كيف كان "ازكيهم" يسقي أعداءه نار جهنّم -كما في الهتاف-، أخذتُ عدّتي الصحفيّة، وتوجّهتُ إلى مخيّم طولكرم.  هناك، قابلتُه ورفاقه في الكتيبة. كانت المرّة الأولى في نيسان/ أبريل الماضي، والمرة الثانية في تمّوز/ يوليو الماضي، أي قبل استشهاده بثلاثة أيام فقط. 

تواعدنا استكمال المقابلة في زيارة ثالثة، لكنّي لما زرت المدينة في المرة الثالثة وجدتُ الجميع تقاسموه بالتساوي: أثره الذي بدا واضحاً في عيون الفتية، وصوته الصادح وسلاحه الساقي ورثه رفاقه المفجوعون لفقده، أما دمه فقد تشرّبته أرض المخيّم، إذ لم تحظَ باحتضانه. 

القبطان

20 تموز/ يوليو 2024، كان صوت طائرة المراقبة -التي لم تعد تغادر سماء المخيم- يزداد قرباً. توتّر الجميع، وسارعت لإنهاء لقائنا الصحفي. تأهب المقاتلون واستنفروا، وعمّموا على بعضهم أوامر الانتشار في المخيّم. وحده "ازكيهم"، المطلوب الأبرز بين المقاومين المتواجدين، كان هادئاً لا يبدو عليه التوتر. يمشي على مهله، ويستكمل حديثه معي. ثمّ يتوقف بين الحين والآخر، يلقي السلام على هذا، ويمازح ذاك. أغضب هذا الهدوء رفاقه، فاستعجلوه مجدداً. ابتسم وأومأ برأسه، وقال: "لا، مش اليوم رح أموت". 

"ازكيهم" صاحب هيئة مميزة بين رفاقه المقاتلين: أسمر، طويل ونحيف، حليق الرأس وكثيف اللحية، بسيط الهندام، يلتزم ارتداء الملابس السوداء على الدوام، ملابسه رياضية خفيفة، وساعة يد كبيرة، وينتعل "صندلاً" جلدياً، ويغطي إحدى عينيه بقطعة قماش جلدية تزيد من هيبة ملامح وجهه الحادة. لم يمنعه ذلك، من أن يكون مضيافاً، سريع الابتسام وسريع الخجل أيضاً، يفقد كلماته كلما سمع مديحاً ما، ويرتبك كلما حاول ترتيب حديثٍ مع ضيف غريب. وأكثر ما يضحكه، تقدير الناس المستمر أنه يبدو أكبر من عمره. يضحك، يضحك كثيراً. 

نجا "ازكيهم" من محاولتي اغتيال تركت ندوباً في جسده بات يباهي بها أقرانه. أما محاولة الاغتيال الأولى، فكانت في 6 أيار/ مايو 2023، بعد أيام من الإفراج عنه من سجون أجهزة السلطة الفلسطينية، عندما اشتبك متصدياً لقوات الاحتلال التي حاصرت رفيقيه سامر الشافعي وحمزة خريوش في منزل داخل مخيّم طولكرم قبل اغتيالهما. يُشير "ازكيهم" إلى ندبةٍ طوليّةٍ عميقة تتوسط يده اليسرى، ويكشف عن ندبة أخرى في أعلى كتفه: "بقيت في المستشفى 45 يوماً، كنت مصاب بعدة رصاصات في كتفي ويدي". 

الشهيد أشرف نافع "أزكيهم" في أحد أزقة مخيم طولكرم، يتناوب ورفاقه على حراسة المخيم. (تصوير: شذى حماد/ متراس)
الشهيد أشرف نافع "أزكيهم" في أحد أزقة مخيم طولكرم، يتناوب ورفاقه على حراسة المخيم. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

 وما إن غادر المستشفى، وبينما ما زال "البلاتين" مزروعاً في يده، انضم بعدما كان يقاتل منفرداً، إلى "كتيبة طولكرم" في المخيم، وقد كانت في أوج تشكلها، محتضنةً مقاتلين من معظم الفصائل. ولم تمضِ ثلاثة أسابيع، حتى تعرّض لمحاولة الاغتيال الثانية بمسيّرة مفخّخة، أُصيب حينها إصابة بالغة في معظم جسده، وفقد على إثرها عينه التي أصبح يغطيها بقطعةٍ جلديّة، وحمل بذلك لقبه الجديد: "القبطان". يقول "ازكيهم" لـ متراس: "وما زلت مستمراً، لآخر نفس لحتى ربنا يأخذ أمانته". 

لم يكن "ازكيهم" معروفاً كهدف للاحتلال لشهور عديدة تلت انضمامه للمقاومة، ولم يكن مطلوباً أو مشتبهاً به، حتى آذار/ مارس 2023، حين لاحقته قوّة لأجهزة السلطة في قرية عتيل شمال شرقي طولكرم قبل أن تعتقله. "أولها فكرتهم قوات خاصة، وبس وصلت الوقائي عرفت إني معتقل عند السلطة"، يقول "ازكيهم"، وقد احتُجز بعدها يومين في سجن الوقائي في مدينة طولكرم، ثمّ نُقِـل إلى سجن "الإصلاح والتأهيل" في بيتونيا قرب رام الله، ومكث هناك مدة 45 يوماً. يروي: "ما شفت الشمس، كنت محتجز تحت الأرض، واتهموني إني داعش فقط لأني كنت أحمل شعار (جند الله)". 

وفي 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، اغتال جيش الاحتلال أربعة مقاتلين، اثنين منهم شكّلوا الصف الأول في "كتيبة طولكرم" وقيادتها، وهما: عزّ الدين رائد عواد الذي كان يقود كتائب عز الدين القسّام داخل الكتيبة، وجهاد شحادة الذي كان يقود كتائب الأقصى فيها. "بعد استشهاد عز، أنا حملت من بعده.. عزّ ما لحق يجيش لكتائب القسام، اغتالوه سريعاً، فقررت أكمل على دربه"، يقول "ازكيهم".

الشهيد أزكيهم يجري مناورة تدريبية في مخيم طولكرم، برفقة الشهيد محمد بديع أحد مقاتلي كتائب الأقصى، وذلك قبل ثلاثة أيام على استشهادهما سوياً. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

ومنذ ذلك الوقت، أصبح "ازكيهم" قائد مجموعة كتائب عز الدين القسام في المخيم، يتقدم اشتباكاتها وعمليات تصديها لجيش الاحتلال، وينظّم مسيراتٍ عسكريّة داخل المخيم معلناً استمرار الكتائب وداعياً بشكلٍ علنيّ للالتحاق بها. "مشينا في كتائب عز الدين القسام لأنه عنا فكر وعقيدة، لأنه بدنا نوجع الجيش ونحقق فيهم ضربات"، يُعلّق.

لم يكن "ازكيهم" يفكر ورفاقه قبل طوفان الأقصى إلا بصد اقتحامات جيش الاحتلال في المخيم، والبدء بتأسيس حالة مقاومة رافضة لوجوده. إلا أنّ الطوفان نقله، كما كل مقاتلي الضفة، إلى مستوى آخر من الإعداد العسكريّ والعقائديّ، وإلى هدف وطموح أعلى: "إن شاء الله بدنا نحرر الأقصى بايدنا"، يقول، ثمّ يكمل: "الطوفان رفع معنوياتنا لأبعد الحدود، واحنا ما بنترك غزة لحالها، شو بعملوا احنا بنعمل زيهم، شو بطلع بأيدينا احنا رح نعمل أكثر وأكثر". 

سحر الكلاشينكوف

"احنا دايما سابقين الجيش بخطوة"، يقول "ازكيهم" وهو يتفقد سلاحه الـ "M16"، ويتأمله وكأنّه يراه أول مرّة، يقلّب مخازن الرصاص ويتأكد منها ثمّ يعيدها إلى جعبته. "هذا صاحبي.. بس أنا عندي كمان كلاشنكوف بطلع وقت المعركة"، يقول. ويعتبر "ازكيهم" من المقاتلين القلائل في طولكرم الذين يمتلكون سلاح كلاشنكوف، بسبب قلّة توفر ذخيرته، وارتفاع سعرها إذ تصل إلى 50 شيكلاً للرصاصة الواحدة، مما يجعل امتلاكه صعباً. 

وما إن حضرت سيرة الكلاشنكوف، حتى نصت المقاتلون، وتركّز حديثهم حول هذا السلاح الذي يتوقعون أنه سيُغيّر مجرى الاشتباكات فيما لو توفّرت ذخيرته بين أيديهم، وذلك لقدرته على اختراق آليات الاحتلال المحصنة من مسافة بعيدة. وكما قال لي "ازكيهم"، فإنه ذات مرّة في إحدى معارك التصدي لاقتحام المخيم، استطاعت رصاصة من سلاحه اختراق الزجاج المضاد للجرافة العسكرية.

وبينما يواصل "ازكيهم" تفقد عتاده، أَخرَج من حقيبة ظهره قنبلةً يدويّةً كبيرةً ملأت كف يده: "أنا صنعتها"، يقول مفتخراً. تشنّجتُ قليلاً خوفاً من انفجارها، قبل أن يعيدها ببطء لمكانها ويكمل شرحه: "حضّرتها لأضربها على الجنود من نقطة صفر، رح تقطعهم". وكما الكثير من المقاتلين، أصبح "ازكيهم" يُعدّ ويصنع العبوات، ويفخخ بها طرقات المخيم. "تمكّنا من تفجير عبوات بعدة آليات وجرافات خلال التصدي لاقتحام مخيم نور شمس ومخيم طولكرم، العبوات أقوى وسيلة للتصدي". 

الشهيد أشرف نافع "أركيهم" يحمل رشاشه الـ M16. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

لم يكن تباهي "ازكيهم" بسلاحه، إلا من باب امتثاله لـ "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم"، فهو متيقن بأنّ المعركة لا تخاض بالسلاح وحده: "حتى يكون عنا شجاعة نقاتل عدونا ونشتبك من الصفر، محتاجين إيمان ويقين بربنا، محتاجين نصوم ونصلي ونقوي علاقتنا مع ربنا.. محتاجين نصدق مع ربنا لحتى يصدق معنا". 

يزيح وجهه ويبتسم، ويعود ليكمل حديثه: "يا الله شو بحس الشهادة قريبة، وأنا مشتبك بحس بروحي طايرة.. بحس بشوق للقاء الله، ومن أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه.. احنا ماشين بهاد الدرب واحنا عارفين أنه بأي وقت بدنا نقابل ربنا، واحنا مستعدين لهاد اللقاء". 

التفقّد الأخير 

صباح 23 تموز/ يوليو 2024، ينقلُ جهاز اللاسلكي، الذي يحمله المقاتلون للتواصل فيما بينهم، خبرَ نجاحِ تفجير عبوات مزروعة بآليات جيش الاحتلال. الجرافات توقفت عن التقدم، وتكبيرات المقاومين تُسمع في كل مكان في مخيم طولكرم بعد أكثر من 10 ساعات على خوض مواجهة جديدة بالاشتباكات المسلحة والعبوات. 

عمّ الهدوء، قرر "ازكيهم" ورفيقاه من كتائب شهداء الأقصى محمد بديع ومحمد عوض، الخروج لتفقد محور قتالهم في حارة الحمام. كانت الجرافة الإسرائيلية قبل انسحابها، قد أسقطت بعض الشوادر التي من شأنها إخفاء المقاومين عن مرمى مُسيّرات جيش الاحتلال المفخخة، ومنها ما كان يغطّي حارة الحمام. برز الثلاثة في حارتهم، فطلعت المسيّرة في سمائها تحلّق فوق رؤوسهم، ثمّ هوت لتحدث انفجاراً.

يقف إيهاب أبو عطيوة، أحد مقاتلي القسام، والذي كان صديق "ازكيهم" وظله، في مكان اغتيال رفاقه الثلاثة. يبدو عليه التعب الشديد، إذ يواصل الضغط على رأسه الذي لا ينفكّ عنه الصداع. يقول لـ متراس: "صوت تكبيراتهم كانت عالية، كنا منتصرين، لحتى قصفوهم.. خسرنا زينة شباب المخيم، كانوا سندنا". ثمّ يستدرك: "إن شاء الله احنا على دربهم، مش رح يهزنا أو يرعبنا الكيان.. احنا بدرب إما الانتصار وإما الاستشهاد". 

"أنا مسكت مكانه، وإن شاء الله رح أخذ بثأره، وأعمل إلي عمله ازكيهم وأكثر"، هكذا قال إيهاب صديقه بعد أن انتقلت إليه قيادة كتائب القسام. وما إن وقف متحدثاً أمام كاميرا متراس، حتى بدأ بعفوية توجيه حديثه إلى صديقه الشهيد: "إن شاء الله بننتصر وبناخد بثأرك يا ازكيهم، مجموعتك موجودة في الميدان زي ما بدك وزيادة يا ازكيهم، وإن شاء الله كلنا على دربك".

الشهيد أزكيهم يوزع الحلوى في أزقة مخيم طولكرم في الذكرى الـ 20 على استشهاد عمه أشرف نافع. (تصوير: شذى حماد/ متراس)
الشهيد أزكيهم يوزع الحلوى في أزقة مخيم طولكرم في الذكرى الـ 20 على استشهاد عمه أشرف نافع. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

لم ينسحب جيش الاحتلال هذه المرة تاركاً جثمان "ازكيهم"، إذ خاف أن ينجو مجدداً، ويعود لقتاله كما عودّهم. فأرسل له ولرفيقيه، جرافةً عسكريّة جرفت أشلاءهم وحملتها معها، إذ اختلط تراب المخيم بدم المقاومين الثلاثة ولحمهم. ثمّ فتح جيش الاحتلال رشاشاته على المقاتلين، الذين حاولوا سحب أشلاء الشهداء. وعلى خلاف ما ظنّ الجيش، نجا "ازكيهم" هذه المرة أيضاً، ولكن إلى الشهادة، حيث لطالما أراد وسعى. 

كانت جدة "ازكيهم" قد تنبأت باستشهاد حفيدها فور بدء حالة المقاومة في مخيّم طولكرم، وطلبت من أبنائها أن يبعدوها إلى أحد منازل العائلة خارج المخيم حتى لا تجمع أشلاءه، كما جمعت دماغ ابنها الشهيد "ازكيهم" عام 2004. 

دار التاريخ مجداً، وهذه المرة ركضت العمة انتصار إلى مكان الاغتيال، وجمعت ما تبقى من أشلاء ودم الشهداء. تقول العمة انتصار لـ متراس: "قال ازكيهم أنه لن يستشهد خارج المخيم مثل عمه، رفض أن ينسحب، واستشهد كما سعى، مقاوماً داخل المخيم". 

وكما العادة، تقف انتصار على عتبة منزلها تنتظر مرور "ازكيهم" صدفة، لتقدّم له صحن الغداء الذي كان ينتظره منها، أو فنجان قهوة من يدها كما كان يحب دوماً. لن يمر هذه المرة، لكن طيفه ما زال يملأ أزقة المخيّم.. 

إلى الأبد..

ركض الطفل خلف المقاتل حتى وصله، وأخذ يمشي بجانبه في الزقاق، ويحدِّثه: "قلقت عليك، ما شفتك من أيام، خفت صار فيك إشي". كان الطفل مرتبكاً، فهذه المرة الأولى التي يكون فيها بهذا القرب من "ازكيهم"، وكانت عيناه تلمعان وهما تتأملان بطله وبطل بقية أولاد المخيّم، كأنه يحاول أن يحفظه فيهما إلى الأبد.

استشهد "ازكيهم"، لكن الطفل -كما باقي أطفال المخيّم- غالباً ما نجح في حفظ بطله في عينيه. بهذه الطريقة، يظلّ "ازكيهم" إلى الأبد. 



23 مارس 2022
بئر السبع: هل هي بوادر اشتعال؟

طائراتٌ لم تهدأ فوق سماء المنطقة في الآونة الأخيرة، تُقِلُّ السياسيّين من قوى المنطقة وما حولها من مدينةٍ إلى أخرى،…