5 أبريل 2020

إن كنّا نثق بمنظّمة الصحّة العالميّة...

إن كنّا نثق بمنظّمة الصحّة العالميّة...

ثقةُ المريض بالطبيب هي واحدةٌ من أهم الأسس التي تقوم عليها مهنة الطبّ وأخلاقيّاتها. يصل الإنسان إلى الطبيب عادةً في حالة ضعفٍ وألمٍ وبأمسّ الحاجةِ إليه. تبدأ الخطورةُ من هذه النقطة، من أنّ العلاقةَ بيننا وبين الطبيب هي علاقةٌ غير متكافئة بطبيعتها. ومن هنا، تتراكم عوامل إضافيّة؛ مثل أنّنا غالباً نتواجد في بيئة الطبيب الغريبة عنّا والمألوفة له (المستشفى، العيادة)، أو أنّنا لا نعرف المعجم العلميّ المُستخدم حولنا، أو أننا نُطالب بمعلومات شخصيّة قد تكون محرجة تخصّنا. ونفعل، بالمجمل، أموراً كثيرةً يندر فعلُها إلا تحت سياط الألم، أو الخوف على أنفسنا.

في هذه الحالة، تختفي من أذهاننا أسئلةٌ كثيرة: قلّما نُسائل قدراتِ الطبيب، وقلّما نُشكك بنزاهته، وقلّما نُشكك بموضوعيّة قراراته. قلّما نجادل الإمكانيّات، وقلّما نتأكّد من أنّ الخيارات المطروحة أمامنا هي خيارات العلاج الأفضل. قلّما نعرف إن كان الخيار الصحيّ الذي نُوَجَّهُ إليه ينبع من العلمِ أم من سياسات المستشفى، أو وزارة الصحّة، أو الحكومة – وهو ما يحدث في جميع الأجهزة الطبيّة. وقلّما نعرف إن كانت هناك اعتبارات ماليّة، أو إداريّة، أو ديمغرافيّة، أو اجتماعيّة تلعب دوراً في الخيارات المطروحة أمامنا.

ولكن ما الذي يحدث عندما يكون العالم كلّه مريضاً؟ عندما يواجه العالمُ وباءً مثلما نواجه اليوم فيروس "كورونا"؟ بمن نضع ثقتَنا عندما تكون الأزمة أكبر من الطبيب والمستشفى، أكبر من نقابة الأطباء ووزارة الصحّة بل وأكبر من الدولة كلّها؟ هل نستطيع أن نثق اليوم بأن العالم بيدٍ طبيّةٍ علميّةٍ أمينة؟ الإجابة، كالمتوقّع، لا.

يتامى في ملجأ الأمميّة

تتخذ منظّمة الصحّة العالميّة التي تأسست عام 1948 دوراً محوريّاً في إدارة أزمة "كورونا" الجارية. تتعامل معها معظمُ الدول باعتبارها مرجعيّةً أمميّةً عُليا، وذلك بالأساس بسبب منظومة جمع المعلومات المعتمدة عالميّاً، والتي تُتخذ بناءً عليها توصيات لسياسات مواجهة الوباء. إنها تحاول تشخيص الوضع من خلال مراقبة للمعطيات التي توفّرها الدول، وتحاول أن تصف ما يجب على العالم اتّباعه من إجراءات.

أما حالنا في فلسطين فحال المريض الأشد ضعفاً، بسبب وضع جهازنا الطبيّ غير المؤتمن، بعد أن دمّرته "إسرائيل" وأهملته السّلطةُ (أو "حقّرته" إذا ما استخدمنا تعبير أبو مازن في وصف نضال الأطباء قبل أسابيع قليلة فقط). وكذلك وزارة الصّحة بقيادة د. مي - كل امرأة تحسّس عَ حالها أحسن م يحسّسوا عليها- كيلة، غير مؤتمنة أيضاً. وليس لنا إلا منظّمة الصحّة نرجو منها شفاءً.

اعتدنا ذلك. فإنّ كل منظّمة أمميّة في بلادنا يتعاظم شأنها في ظلّ سيطرة الاحتلال وانهيار المؤسسات الوطنيّة. تُصبح المنظّمات الأمميّة مصدر معلوماتنا عن أنفسنا، عن مدُننا وفقرنا وصحّتنا وتعليمنا. وتُصبح كذلك أملنا الوحيد، ويرتبط مصيرنُا السياسيّ والاجتماعيّ، وحتّى الشخصيّ الصحيّ، بما نعلقه على المنظّمات الأمميّة من آمال.

ومع هذا النوع من التعلّق، يبدأ التأرجحُ أيضاً: بين الإيمان الأعمى بالمنظّمات الأمميّة وإهدار حياتنا أملاً بها (ومنّا من يحفّزه الأمل فينصب كرسياً عملاقاً في مركز عاصمته)، ومن يعاديها عداءً غبياً ويُنكر مساهمتها الهامّة. والحال مع منظّمة الصحّة العالميّة في هذا الظرف، شبيه بهذا التعلّق.

تناقضٌ في الصحّة

منظّمة الصحّة العالميّة، مثل كل المنظّمات الأمميّة التي نعرفها، راكمت تاريخاً سياسيّاً ثقيلاً شكّل مبادئ وأساليب عملها. بدءاً من العام 1949، قاطع الاتحاد السوفيتيّ المنظّمة رافضاً الهيمنة الأميركيّة عليها. رأت البعثات السوفييتيّة أن الولايات المتّحدة تستخدم المنظّمة لفرض سياسات تفصل بين المشاكل الصحيّة والأوضاع الاجتماعيّة الاقتصاديّة، ومناهضةٍ لتأميم الخدمات الصحيّة. وبكلمات البعثة البولنديّة في مؤتمر روما ذلك العام، فقد اعتبر الشيوعيّون المنظّمة "ساحة معركةٍ بين موقفين متناقضين... [موقف الاتحاد السوفيتيّ] لصالح البشريّة، المطالب بتسخير العلوم الطبيّة لصالح بني البشر... مقابل معسكرٍ رأسماليّ يمثّل مصلحة الأقليّة التي تعتبر العلم مصدراً للربح وسلاحاً للحرب".

عكست هذه الشعاراتُ الضخمة خلافاً حقيقياً حول رؤية سياسات المنظّمة، ولا يزال أثرها حاضراً بقوّة في أيّامنا هذه. فقد وُجد تيّار اجتماعيّ انتمت إليه شخصيّات من مؤسسي المنظّمة، منهم مديرها العام الأوّل، الطبيب الكنديّ بروك شيشولم، الذي أيّد المبادئ الاجتماعيّة للطبابة. وكذلك الطبيب الكرواتي آندريا ستامبار الذي رأى برُباعيّة الأمن الاجتماعيّ-الاقتصاديّ، التعليم، التغذية، والمسكن أساسًا للصحّة العامّة، وصاغ 10 مبادئ الطب الاجتماعيّ.

طمست الولايات المتّحدة هذه المبادئ الاجتماعيّة، ووضعت الأسس للسواد الأعظم من عمل المؤسسة اليوم على ما يُسمى "الدعم التقنيّ". وهو مبدأ يرى أنّ وظيفة المنظّمة نقل المعرفة العلميّة والتكنولوجيا للدول النامية دون أي تدخّل بالمصالح الاقتصاديّة والواقع الاجتماعيّ الذي يؤدّي إلى فقرها. وهو ما يزال سائداً في المنظّمة حتّى يومنا هذا.

ويُذكر في السياق التاريخيّ النزاع الطويل لإنشاء المكتب الإقليميّ الأفريقيّ في الخمسينيّات، والذي عارضته القوى الاستعماريّة. حيث كانت قوى مثل فرنسا وبريطانيا وبلجيكا تُدير شؤون الصحّة الأفريقيّة، وكان على رأس المكتب طبيب هولنديّ خدم في جنوب أفريقيا، وتلاه طبيب برتغاليّ. وقد رسم هذا المكتب ملامح الطب الاستعماريّ في تلك الحقبة. 

القرار مهنيّ؟

لا زالت العلاقات السياسيّة الدوليّة والمحليّة، ترسم ملامح هذه المنظّمة وتُعيق إمكانيّات عملها وتطوّرها إلى حدٍ بعيد. "جمعيّة الصحّة العالميّة" هي السّلطة العليا في المنظّمة، وهي مؤلّفة من 149 مندوبي الدول الأعضاء. تنتخب هذه الجمعيّة المدير العام والمجلس الإداريّ للمنظّمة، تُحدد سياساتها العامّة، وقادرة على رفض توصيات خبرائها.

يتفاقم تأثير السياسات الدوليّة إن أخذنا بعين الاعتبار أنّ 17% فقط من ميزانيّة المنظّمة للعام 2019 مصدره المساهمات الإجباريّة للدول الأعضاء، أما 80% من الميزانيّة فهي المساهمات الطوعيّة غير الثابتة من الدول ورؤوس الأموال. وأكثر من 96% من مجمل المساهمات الطوعيّة للمنظّمة مخصّصة لمشاريع عينيّة يحدّدها المساهِم. هذه الالتزامات تقيّد المنظّمة وتمنعها من إدارة الميزانيّة بالمرونة المطلوبة للتجاوب مع التفشّي الطارئ للأمراض حول العالم، وكانت إحدى العوامل التي تسبّبت بفشل المنظّمة، مثلاً، في مواجهة "إيبولا".

وتسعى الدول مراراً إلى زيادة نسبة المساهمات الطوعيّة التي يُمكن التهديد بسحبها مراراً، على حساب المساهمات الإجباريّة، وذلك من أجل تعميق السيطرة على سياسات المنظّمة. الولايات المتّحدة هي المموّل الأكبر للمنظّمة (15% من الميزانيّة لعام 2019) ما يجعلها أكثر الدول سيطرةً – ونحن نرى بأمّ العين عقليّة الولايات المتّحدة الكارثيّة بشؤون الصحّة، ونستطيع أن نستنتج إلى أي اتجاه تدفع المنظّمة. هذه السيطرة الماليّة باتت تُعطي المتبرّعين آليّات رقابة وتحكّم شديدة جداً بتوجيه الأموال. وهو ما يحوّل القرار من قرارٍ مهنيّ طبيّ طويل الأمد، إلى قرارٍ سياسيّ يتّخذه موظّفو الحكومات أو صناديق الأثرياء.

حياتنا بيد بيل غيتس؟

ليست الدول وحدها تسعى إلى تحديد السياسات، إنما تخضع المنظّمة أيضاً إلى سيطرة رؤوس الأموال، خاصةً من خلال منظومة جديدة طوّرتها المنظّمة وهي "إطﺎر اﻟﻣﺷﺎرﻛﺔ ﻣﻊ اﻟﺟﻬﺎت اﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻏﻳر اﻟدوﻝ" FENSA، مختصة بإدارة العلاقات مع منظّمات رؤوس الأموال. إذ نرى منظّمات مثل صندوق غيتس (Bill & Melinda Gates Foundation) تموّل 10% من ميزانيّة المنظّمة، وشركة أخرى أسسها بيل غيتس هي "التحالف العالمي للّقاحات والتحصين" (GAVI Alliance) تموّل 9%. ومجموع مساهمات المنظّمتين الخاصّتين أكبر من مساهمات بريطانيا، ألمانيا، واليابان – الدول الأكثر مساهمةً بعد الولايات المتّحدة- مجتمعةً.

ولا تؤثّر مثل هذه المنظّمات على السياسات العامّة والأولويّات الصحيّة فقط، إنما تلقي بظلالها حتّى على البحث العلميّ. على سبيل المثال، شهد العام 2007 خلافاً حاداً في أروقة المنظّمة بعد أن وجّه مدير برنامج مكافحة الملاريا في المنظّمة، د. آراتا كوتي، اتهامات بحق منظّمة "غيتس"، مدّعياً أن هيمنة تمويلها تُهدد التعدّد والاختلاف بين أبحاث العلماء ويتجاوز آليّات اتخاذ القرار في منظّمة الصحّة. واعتبر أن مجموعات البحث التي يموّلها الصندوق باتت مرتبطةً ومعتمدةً على بعضها البعض، ولها مصلحة في المصادقة على أبحاث العلماء المرتبطين بها، وهو ما يهدد استقلاليّة مراجعة الأبحاث العلميّة.

هذه الخارطة الماليّة تحوّل الدول إلى قنوات تتحكّم من خلالها كبرى شركات صناعات الأدوية والصناعات الطبيّة بالمنظّمة المسؤولة عن صحّة العالم. في يونيو/ حزيران 2013، تطرّقت المديرة العامّة للمنظّمة إلى التدخل الضخم للشركات من خلال الدول: "لقد وثّقت الأبحاث تكتيكات [التدخّل] هذه جيّداً. ومن ضمنها منظّمات واجهة، ومجموعات ضغط، وعود برقابة ذاتيّة، [تهديد بـ] دعاوى قضائيّة، وأبحاث تموّلها الشركات فتشتت الأدلّة وتبثّ الشكّ بين الجمهور. تكتيكات تتضمّن هدايا، منح، وتبرّعات لقضايا هامّة تعرض الشركات بهيئة مدنيّة محترمة بعيون السياسيين والجمهور".

تدخّلت الاعتبارات الماليّة بقرارات مفصليّة كثيرة اتُخذت في تاريخ المنظّمة، منها على سبيل المثال ما كشفته المجلّة الطبيّة BMJ من تدخّل سافر للشركات في إعلان علماء المنظّمة "إنفلونزا الخنازير" عام 2009 وباءً، ما نتج عنه سلسلة من العقود التي أبرمتها شركات الأدوية لبيع التطعيمات لعشرات الدول، ومنها الدول الفقيرة التي عقدت هذه الصفقات على حساب ميزانيّات الصحة المتدنّية أصلاً. وقد أشارت منظّمة الصحة في تقريرها بعد عام الحاجة لحماية الخبراء من الضغوطات الخارجيّة.

كان عندنا خطّة لـ"كورونا"، ولكن...

لا يُمكن التطرّق إلى الحالة التي نواجهها اليوم دون النظر إلى فشل منظّمة الصحّة العالميّة الذريع في مواجهة وباء "إيبولا" عام 2014. إذ تسبّبت الاستجابة البطيئة لمنظّمة الصحّة والتأخر في إعلان الوباء بموت الآلاف ممن كان يمكن حمايتهم، منع تعرّضهم للوباء أو علاجهم. بحسب لاري غوستين، بروفيسور الحقوق المختص بالصحّة العالميّة في جامعة جورجتاون، فقد تجاوزت المنظّمة هذا الفشل الكارثيّ "دون أن يُفصَل أي مسؤول، دون أدنى محاسبةٍ".

إثر الفشل، قرّرت المنظّمة عام 2016 العمل لتوفير ردود أسرع وأنجع لحالات الطوارئ. وبدأت ببناء برنامج الطوارئ العالميّة (WHE). ركّزت الخطّة في حينه على بناء الطواقم الطبيّة للتدخّل الفوريّ في مناطق تفشّي الأوبئة. وذلك لتقديم الخدمات للشرائح المتضرّرة ومواجهة الأسباب الجذريّة لانكشاف هذه الشرائح لهذه الأخطار. وشدّدت هذه الخطّة على الضرورة الحرجة في دمج استراتيجيّات الطوارئ ضمن عملية تقوية الأجهزة الطبيّة العامّة.

طلبت المنظّمة في حينه 500 مليون دولار لإقامة البرنامج لمكافحة الأوبئة، مثل تلك التي نواجهها اليوم، وهو مبلغٌ هزيل بكل المعايير. للمقارنة، فقد رصدت الولايات المتّحدة أربع أضعاف المبلغ (2 مليار دولار) لمكافحة وباء "زيكا" في أمريكا الجنوبيّة. رفضت الدول تمويل المشروع أو تحويل تمويلها من مشاريع أخرى. كان هذا المشروع، الذي كان يُفترض أن يساهم في وقاية العالم اليوم، أقل المشاريع تمويلاً المنظّمة ورُصدت له مبالغ تعجز عن تأمين 56% من متطلّباته.

الكارثة ليست قدراً

تمارس الدول اليوم حفلة سطوة أمنيّة وإعلاميّة على شعوبها، تقيّد الحركة وتعطّل الحياة لتمنع موت الآلاف، وهذا غاية في الأهميّة. ولكن يجب أن نتذكّر أيضًا أن هذه الممارسات العنيفة تأتي لتستر كارثة فادحة مارستها الدول بحق البشرية بإهمال الأجهزة الطبيّة والاستهتار بحياة الشعوب، وتجهيل الناس وتعميم الأميّة الصحيّة، وإخضاع أجهزة الصحّة العامّة للخصخصة ولفظ جميع المبادئ الاجتماعيّة للصحّة. وهذا ما يجب تذكّره، لئلا نقتنع بأن الظرف الذي نعيشه اليوم مجرّد قدرٍ لا بد منه.

وفي فلسطين الأمر ذاته، إذ تختبئ السلطة وراء المنع الأمنيّ وقوانين الطوارئ لتخبّئ حقيقة أنها شريكة في تدمير الصحّة العامّة في فلسطين، وحقيقة أن "إسرائيل" هي المسؤولة الأولى عن كل هذا الدمار. ومع إدراكنا لحال جهازنا الطبيّ، نتحوّل نحو الثقة العمياء بمنظّمة الصحّة العالميّة. ثم تصدر بيانات صحافيّة سخيفة عن إشادة منظّمة الصحّة بممارسات السلطة الفلسطينيّة في مواجهة الوباء. وتفرح بها السلطة وببغاواتها من الصحافيين المتجهّزين للعب دور الوشاة. يتحوّل اسم المنظّمة العالميّة التي لها ما لها وعليها أكثر مما لها – من بيروقراطيّة وفساد، وانعدام للشفافيّة والمحاسبة وإهدار للأموال وأمور كثيرة لا متسع لذكرها- غطاءً يطمئن الناس بأن "سلطتنا" تعرف ما تفعل، بينما يلعب الهواة بمصائر أمهاتنا وآبائنا وعموم شعبنا.