22 ديسمبر 2022

أداة تكلّست؟ أسئلة عن الإضراب

<strong>أداة تكلّست؟ أسئلة عن الإضراب</strong>

عند كلّ فاجعةٍ يُنزلها الاستعمار ببلادنا أو مع استشهاد كل فدائي ومقاتل، يفزع الفلسطيني إلى سلاح الإضراب بإغلاق المحلات التجاريّة وأماكن العمل. وفي الذاكرة العميقة لأهلنا حكاياتٌ عن إضرابات تاريخيّة امتزجت بحياتهم وربطوا أحداثها بذكرياتهم. إلا أنّ التغييرات السياسية التي شهدتها الضفّة المحتلة، بعد اتفاقية "أوسلو"، ومن ثمّ بعد نهاية انتفاضة الأقصى، جعلت أداة الإضراب على محك السؤال عن الفاعلية والجدوى في ظلّ تحدياتٍ جديدة برزت أمام النضال عامّةً، والوسائل الجماهيريّة فيه خاصّةً.

تحكي بعضُ المصادر التاريخية أنَّ الفلسطينيين استخدموا الإضراب في مواجهة الاستعمار البريطاني منذ بدايات استشعارهم الخطر القادم على البلاد، مع ازدياد تفشي الصهيونية فيها، وذلك قبل الإضراب الكبير عام 1936. أما الإضراب الكبير، فقد انطلق في نيسان 1936 واستمر لستة شهور، وقد كان ذلك من بين أدوات ثورةٍ امتدت حتى عام 1939، وكانت لها آثارها المركزية على واقع الصراع وصولاً إلى حرب النكبة.1كان الفلاحون الفلسطينيون العمود الفقري للثورة حينها، وقد أطلقوا ثورتهم وإضرابهم مدفوعين بهاجسٍ وجوديٍّ يتهدّد أراضيهم، وذلك بعد سنواتٍ من "الإفقار" الذي مارسه الاحتلال البريطاني زادت من ضنك معيشة أهل البلاد، وبعد سنواتٍ عجاف تتابع فيها الجراد على أراضيهم ثمّ المجاعات، وصولاً إلى تأثير الأزمة الاقتصادية عام 1929.

اقرؤوا المزيد: "حشو الأفواه بالرمل..بريطانيا وتقنيات القمع الأولى".

توقف الإضرابُ بعد وعودٍ حصلت عليها النخبة السياسيّة الفلسطينيّة من سلطات الاحتلال البريطاني بدراسة المطالب التي فجّرت الثورة، وعلى رأسها وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين. لكن مفاعيل هذا الإضراب ما زالت حاضرةً في النقاشات الفلسطينية، خاصّةً حول أسباب ما اعتبره باحثون ونخب "فشلاً" في تحقيق أهدافه. كما تحضر في النقاش الإشارةُ إلى العوامل الاقتصاديّة التي أنهكت المجتمع وأضعفت قدرته على الصمود، وكان لها دور في الدفع نحو القبول بوقف الإضراب. 

مجموعة من الفلسطينيين يجلسون على أطراف الشارع في مدينة الخليل، وفي طرف الصورة شرطي بريطاني، وذلك خلال إضراب تجاريّ شهدته الثورة الفلسطينية الكبرى، تشرين الأول 1938. (وكالة الصحافة الفرنسية/ Getty Images)

بعد النكسة.. الإضراب يعود من جديد

بعد احتلال "إسرائيل" لما تبقى من أرض فلسطين في العام 1967، كان للإضراب حضوره المركزيّ في أحداثٍ مفصليّة مختلفة، كأنه "كلمة السر" في افتتاح أية مرحلة ثورية فلسطين، فكان الإضراب الذي تقدّم مواجهات يوم الأرض في 30 آذار 1976 في الأراضي المحتلة عام 1948، وفي الضفّة الغربيّة، اختبر المجتمع سلاح الإضراب كما لم يختبروه من قبل، في انتفاضة الحجارة.

اقرؤوا المزيد: "الإضراب العام وأولاده".

أطلقت الجماهير الفلسطينية انتفاضة الحجارة في كانون الأول 1987، وشاركت فيها مختلف فئات المجتمع، وكان للتنظيمات حضورها الطاغي في إدارة شأن المقاومة اليومي، وعلى رأسها تحديد مواعيد الإضراب. وقد كان مشهد الملثم الذي يحمل سمّاعة وهو يتنقل من مكانٍ إلى آخر، مع مجموعةٍ من شباب تنظيمه، ويعلن عن إضراب شامل، جزءاً أساسياً من مشاهد الحياة اليومية خلال تلك الانتفاضة. 

تزامنت تلك الإضرابات مع مقاطعةٍ واسعة لمواقع العمل الإسرائيلية، والتي كانت مصدر المعيشة الرئيس لطيفٍ واسعٍ من المجتمع الفلسطينيّ حينها. وتذكر الإحصائيات أنّ نسبة تغيّب العمال الفلسطينيين عن تلك المواقع بلغت ما بين 30% و 40% (35 ألف عامل – 40 ألفاً) خلال انتفاضة الحجارة، وقد أصاب الاقتصاد الإسرائيلي إثر ذلك انكماش اقتصاديّ.

بعد عقود من الانتفاضة ما زالت النقاشات تدور حول فاعلية بعض الوسائل التي استخدمتها الفصائل في الإضرابات، خاصّةً أنّ الإضرابات والمقاطعة الاقتصادية وإن كانت قد زلزلت قوة الاحتلال حينها، ودفعت الناس إلى مبادراتٍ زراعيّة ومجتمعيّة هامّة، إلا أنه كانت لها آثار على الوضع الاقتصادي في مجتمعٍ كانت 45% من القوى العاملة فيه تعتاش من الاقتصاد الإسرائيلي.

"أوسلو"... غياب الاحتكاك المباشر مع قوة الاحتلال

تمهيداً لإقامة السلطة الفلسطينية تنفيذاً لاتفاقية "أوسلو"، نفّذت قوات الاحتلال انسحابات من قلب المدن في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، إلى مواقع حصينة محيطة بها. وضعت إعادة الانتشار العسكرية الإسرائيلية المجتمعَ الفلسطينيّ في مواجهة واقعٍ جديد، معالمه: سلطة حكم محليّ لأول مرّة منذ انهيار الدولة العثمانية، لكنها مقيّدةٌ بوجود عسكريٍّ استعماريّ، وشوارع ومواقع عسكرية تخنق المدن وتهندس أماكن المواجهة، واتفاقيات تُحصي على السلطة كل صلاحياتها.

جنود الاحتلال يحاولون خلع بوابة محل تجاريّ ملتزم بالإضراب، كانون الثاني 1988، رام الله. (Getty Images).

مع قدوم السلطة الفلسطينية انقطع الاحتكاكُ اليومي المباشر الذي عاشه المجتمع الفلسطيني مع قوات الاحتلال، وبذلك فقد الإضراب أحد أبرز ميزاته، وهو أن يقود إيقاف العمل التجاري إلى إثارة المواجهة بين القوة الاستعمارية والشعب، والضغط على الاحتلال في المجالات الاقتصادية. وهكذا لم يكن للإضراب حضوره النضالي المركزي في انتفاضة الأقصى كما في انتفاضة الحجارة، وانكب الفلسطينيون على تطوير العمل العسكري لاستنزاف قوة الاحتلال التي زجت بأعتى أدواتها الحربية في المواجهة، وغابت الفعاليات الجماهيرية، إلا بشكل محصور، بفعل العوامل الميدانية والعسكرية التي استجدت على المواجهة.

اقرؤوا المزيد: "كيف تحضر انتفاضة الأقصى فينا الآن؟".

هذا التوجه إلى العمل العسكري "النخبوي"، إلى حدٍّ بعيد، كان الرد الفلسطيني الضروري على تحدياتٍ استراتيجية أهمها: العنف الشديد الذي مارسته قوّة الاحتلال ضدّ المسيرات الجماهيرية المتوجهة نحو مواقع التماس، والانسحاب الإسرائيلي من المدن قبل الانتفاضة قبل أن تعود قوات الاحتلال لاحتلالها لاحقاً، مما فرض الحاجة لزيادة تطوير الأدوات العسكرية التي تضرب العدو في مراكزه الحساسة في الداخل المحتل والمستوطنات، دون استنزاف الجماهير مواجهة يخسرون فيها أكثر مما يكسبون.

جنود الاحتلال يحاولون ترهيب صاحب محلّ تجاريّ في رام الله لإجباره على فتحه وخرق الإضراب التجاري الذي عمّ في حينه، كانون الثاني 1988. (Getty Images).

أسئلة تتجدد

من خلال نظرةٍ عامة على واقع الإضرابات في السنوات الأخيرة، يمكن القول إنّها ليست كلها سواء من جهة دورها في تفعيل الاشتباك مع الاحتلال. ولذلك سمعنا من يشكو ويُشكك في الإضراب كأداة، لأنّه في كثير من الأحيان لا يؤدي إلى أي احتكاكٍ مع قوات الاحتلال، ولا يُشعل الميدان، وتقتصر الفعاليات فيه على وقفات احتجاجية في قلب المدن، بعيداً عن نقاط التماس. ولذلك يبدو الإضراب في كثير من الأحيان مجرد "إعلان حداد"، لا بياناً يُصعّد نحو المواجهة.

لكن بعض الاستثناءات في سيرة الإضرابات، شهدناها مؤخراً، ومنها الإضراب الكبير الذي عمَ فلسطين من الجليل إلى بئر السبع، خلال معركة "سيف القدس"، تحديداً في 18 أيار 2021، والذي لم يتقصر على تعطيل العمل في قلب المدن الفلسطينية، إنما تطوّر إلى مسيرات جماهيريّة ونقاط اشتعال ومواجهة، وتغيّب عن مواقع العمل الإسرائيليّة.

اقرؤوا المزيد: "كي يكون إضرابنا مواجهة".

وفي تشرين الأول الماضي، سجّلت الإضرابات نقلةً نوعيّةً من جهة "معنوية" أكثر منها ميدانيّة على الأرض، وذلك بعد الاستجابة الجماهيرية الواسعة والصارمة لنداء مجموعات "عرين الأسود"، عبر حسابها في "التيلغرام"، لمساندة أهالي مخيم شعفاط وضواحيه في مواجهة حصار المخيم وإغلاقه والتنكيل بأهله، بعد عملية الشهيد عدي التميمي.

ومع تصاعد العمل النضالي في الضفّة، وعودة الإضرابات كتفاعلٍ مع ذلك، تجدّد الحديث والنقاش فلسطينيّاً عن جدوى الإضرابات في ظلّ الواقع الذي فَرَضه أوسلو وفرضته مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية. إذ ما زال جيش الاحتلال يحاصر المدن والتجمعات في الضفة، من مواقعه العسكرية والمستوطنات التي ينطلق منها في عملياته العدوانية، دون أن يتورط مباشرةً في التواجد داخل المدن. 

أما السلطة فقد تعزّز رفضها للمقاومة العسكرية، وتورطها المتزايد في العلاقات مع دولة الاحتلال، بل إنّها تعمل في كثير من الأحيان على تحويل الإضرابات إلى أداة تنفيس وضبط للناس، وتحاول منعها في أحيانٍ أخرى في حال لم تتوافق مع مصالحها. كما أنّ واقع الضفة يعاني من غيابٍ للحركة التنظيميّة التي تقود الناس وتحفزها نحو العمل النضالي.

ويترافق مع هذه النقاشات حول "الجدوى"، الحديث عن ضعف التفاعل الجماهيري أحياناً وتوجيه الاتهامات لغير الملتزمين بالإضراب في "ضميرهم الوطني". بينما يطرح آخرون رأياً يرى أنّه رغم عدم تحوّل الإضراب إلى مواجهة واقتصاره على شكل الحِداد، إلا أنّه من الضروري- حسب رأيهم - إبقاء الشارع حيّاً، ولو بالحد الأدنى، خاصّةً بعد عقود من سياسات التجريف السياسي والوطني التي تعرض لها الوعي والعمل النضالي.

محال تجاريّة في البلدة القديمة من نابلس أغلقت أبوابها في إضراب شامل عمّ الضفة الغربيّة في 25 تشرين الأول 2022، عقب استشهاد 6 شبان فلسطينيين، من بينهم وديع الحوح، أحد قادة "عرين الأسود". (زين جعفر/ وكالة الصحافة الفرنسية).

يبدو أنّ القوى الوطنية والإسلامية تحاول الإجابة على سؤال الناس الدائم: "أين موقفكم من جرائم الاحتلال؟"، فتُقدّم الجواب من خلال الدعوة للإضراب. لكن هذه الإجابة تبقى قاصرةً في أحيانٍ كثيرة، لأنّ الاتصال الفاعل مع المجتمع، القوة الأساسية في أي صراع، انقطع، ولأن تلك القوى لا تُقدّم برنامجاً نضالياً واضحاً يراكم على الإضراب ويستثمره. وقد ظهر الاحتجاج الشعبي على هذه المكونات، خاصة الرسمية منها، واضحاً في التفاعل الواسع مع "عرين الأسود" و"كتيبة جنين" وغيرها من مجموعات المقاومة، رغم أنها لا تمتلك قوة سلطوية تفرض فيها ما تريد على الناس، لكن كلمة السر دائماً هي "الثقة".

في الختام، فإنّ المخيال السياسيّ الفلسطينيّ يعاني أحياناً من فكرة "تقمص" مراحل ثوريّة سابقة، وهذا لا يعني إسقاط التجارب السابقة، لكن تجدد حالة المقاومة، وتجدد أساليب الاحتلال والواقع الذي صنعه، تفرض الإجابة على أسئلة جديدة، وتفرض الانتباه إلى "تكلّس" بعض الأدوات النضالية، لا بسبب طبيعتها بذاتها، بل غالباً بسبب الجهات التي تمارسها.

إنّ فك الاشتباك بين الأدوات النضالية وتأثيرات الواقع المعقّد عليها، يحتاج من المجتمع الفلسطيني وفاعليه السياسيين إلى تفكير "جديد"، على قاعدة إدامة المقاومة، تدفع الواقع إلى اشتباكٍ يومي مستمر يعوّض عن الحالة التي تركها انسحابُ قوّة الاحتلال من قلب المدن والتجمعات السكانية الفلسطينية.