خلال الشهر الجاري، تصدّر مقام النبي يوسف، الواقع عند المدخل الشرقيّ لمدينة نابلس، عناوينَ الأخبار، وذلك على إثر اندلاع مواجهاتٍ متكررة في محيطه، ومن ثمّ اضطرار جيش الاحتلال إلى إلغاء اقتحام المستوطنين له، والذي كان مخططاً بالتزامن مع عيد الفصح اليهوديّ (امتدّ من 15-21 أبريل/نيسان).
كان من بين تلك المواجهات ما وقع مساء العاشر من أبريل/نيسان. في تلك الليلة، وبعد مسيرةٍ غاضبة خرجت من مخيّم بلاطة شرقي نابلس لإسناد مدينة جنين، تمكّن عشرات الشبان من الدخول إلى مقام يوسف المحاط بسورٍ عال وحراسة أمنيّة فلسطينيّة، وتحطيم قبرٍ رخاميّ يتوسط إحدى غرفه، ومن ثمّ إشعال الحريق فيه.
كان تحطيمُ القبر في نظر الشبان خطوةً استباقيّة تهدف للتصدي لاقتحامات المستوطنين، وهو أسلوب تكرر في السنوات الأخيرة. وفي الليلة ذاتها، أطلق شبانٌ فلسطينيّون النّار على مركبةٍ تقلّ مستوطنيْن حاولا الوصول إلى المقام دون إبلاغٍ مسبقٍ لجيش الاحتلال - حسب ادعائه- وقد أصيبا بجراحٍ بين خفيفةٍ ومتوسطة وفق ما نقل الإعلام الإسرائيليّ.
تعقيباً على ذلك، طالب رئيسُ حكومة الاحتلال السلطةَ الفلسطينيّة بتعزيز حضورها الأمنيّ في محيط المقام وملاحقة الشبان الذين تصدّوا لاقتحامه. تحوّل هذا الطلب إلى واقع، فقد اعتقلت السّلطةُ الفلسطينيّة في الأسبوعين الأخيرين عدداً من الشبان من مدينة نابلس، وأخضعتهم للتحقيق لدى جهازي الوقائي والمخابرات على خلفية مشاركتهم في مواجهات المقام.
وحتى 25 أبريل/ نيسان، تأكد بحسب المحامي مهند كراجة استمرار اعتقال خمسة شبانٍ على هذه الخلفية، وقد يكون العدد أكثر من ذلك. وبحسب كراجة فإنَّ التحقيقات والاعتقالات لا تستهدف متهمين بالمشاركة في المواجهات فقط، إنما تستهدف أيضاً من كتبوا منشورات على مواقع التواصل الاجتماعيّ أيّدت تلك المواجهات أو التقطوا مقاطع فيديو لها.
تأتي هذه التطورات في سياق تصعيدٍ عامٍّ شهدته الضفّةُ الغربيّة منذ مطلع الشهر، وأيضاً ضمن تصاعدٍ ملحوظ في عمليات إطلاق النّار في محيط مقام يوسف بالتزامن مع اقتحامات جيش ومستوطني الاحتلال للمنطقة، بعد أن كان التصدي مقتصراً في السنوات السابقة على إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة. فما هي قصة مقام يوسف، وكيف فرّطت السلطة الفلسطينيّة بمقام إسلاميّ وسهّلت تهويده واستيطانه؟ وكيف تحاول المواجهة تحريره من سلطتين؛ سلطة الاحتلال ومستوطنيه من جهة، وسلطة التنسيق الأمنيّ من جهةٍ أخرى؟
حيز اجتماعي نشط
يقع مقام يوسف إلى جانب معالم أثريّة أخرى، ككنيسة بئر يعقوب وآثار مدينة شكيم الكنعانيّة، في أراضي قرية بلاطة التي أصبحت مع الوقت جزءاً من المساحة البلديّة لمدينة نابلس. ويبعد مسافة كيلومترٍ واحد ونصف فقط عن مركز المدينة، وذلك ضمن المناطق المُصنَّفة (أ) حسب اتفاقية أوسلو، أي أنّه من المفترض أن يخضع للسيطرة الفلسطينيّة الأمنيّة والإداريّة. ويعتبر مقام يوسف واحداً من المقامات الإسلاميّة والمعالم التاريخيّة والأثريّة التي اختلق الاحتلال حولها رواياتٍ تهويديّة ويحاول توظيفها لتعزيز الاستيطان والحضور الأمنيّ في الضفّة الغربيّة.
تبلغ مساحة المقام بمختلف مرافقه ما يقارب 662 متراً مربعاً، وله مدخلٌ رئيسٌ ووحيد من جهته الشماليّة. داخل المقام غرفتان، بناهما أهالي بلاطة قبل حوالي 50 عاماً أو يزيد، الأولى تقع إلى الشرق كانت تُخصَّص لتقديم الخدمات، والثانية إلى الغرب كانت تُخصَّص لتدريس الأطفال. وتُستَخدم الغرفتان اليوم من قبل المستوطنين لأداء شعائرهم الدينيّة. أما الغرفة الرئيسة في المقام فتعود للفترة العثمانيّة، وتحتوي قبراً تعلوه قبّة، وفيها محراب إسلاميّ. وفي الساحة المُبلطة المحيطة بالمقام بنى الاحتلال مراحيض متنقلة.
وللمقام حضورٌ غنيّ في الذاكرة الشعبيّة الفلسطينيّة كسائر المقامات الإسلاميّة التي انتعشت حركة بنائها في الفترة المملوكيّة. وقد كان المقام مساحةً اجتماعيّة توارثها أهالي نابلس وفيها اعتادوا إحياء المولد النبويّ، وإقامة حفلات ختان الأطفال، والصلاة والتبرك من المكان. أما أهالي بلاطة على وجه الخصوص، فقد اعتادوا قبل احتلال الضفّة الغربيّة التوافد إلى المقام أيام الجمعة من كلّ أسبوع، وتناول الغداء في ساحته، وكان يقيمون أعراسهم ومناسباتهم فيه.
يقول مازن دويكات أحد أهالي بلاطة ووجهائها: "قبل عام 1967 كانت كل عائلات بلاطة تأتي إلى المقام يوم الجمعة، كنا نطبخ هنا ونأكل ونحتفل ونبقى حتى صلاة العشاء". ويشير دويكات إلى أنَّ إحدى الروايات الشعبيّة الرائجة في بلاطة تقول إنّ المقام يعود لرجلٍ صالح اسمه الشيخ يوسف دويكات.
وفي الستينيات، بنى أهالي بلاطة غرفةً إضافيّة في ساحة المقام استخدموها لتدريس الأطفال، كما عيّنوا خادماً له من عائلة الأسمر وكان يتلقى راتبه من الأوقاف. ويذكر مازن دويكات أنّه درس داخل المقام، ويقول: "عشنا طفولتنا في المقام، هنا درسنا، وهنا احتفلنا بمناسبات كثيرة.. هنا كان لدينا الكثير من الذكريات، لدينا حنين مستمر لدخول المقام والعودة إليه، وهو حنينٌ ورّثناه لأجيالٍ بعدنا".
استيطان مجّاني؟
بعد احتلال الضفّة الغربيّة عام 1967، أصبحت اقتحامات المستوطنين للمقام متكررةً بحماية جيش الاحتلال. ثمّ حوّله جيش الاحتلال في العام 1976 إلى نقطة عسكريّة، ومنع دخول الفلسطينيّين إليه، ومن ثمّ حوّله في العام 1982 إلى مدرسة دينيّة يهوديّة، ومزارٍ للصلاة بادعاء أنّه "قبر النبي يوسف عليه السلام"، وهو ما لا تُثبته الروايات الدينيّة الإسلاميّة ولا الروايات التاريخيّة والأثريّة والمعماريّة. مع الإشارة أنه حتى لو تأكد وجود ذلك القبر فذلك لا يعني شيئاً على صعيد هوية المكان و"شرعية" تهويده والاستيطان فيه. ولذلك من المهم هنا معرفة سياسة الاحتلال في التعامل مع هذه المقامات، فهو يريد تحويل معلم أثريّ وتاريخيّ فلسطينيّ إلى مسمار جحا ينطلق منه في مشروع توسعه الاستيطانيّ والقمعي في الضفّة.
ولكن منذ تلك اللحظة أيضاً تحوّل المقام إلى بؤرة مواجهة مستمرة، يحاول فيها الفلسطينيّيون صدّ الزحف الاستيطانيّ فوق أراضيهم وسلب آثارهم وتاريخهم وموروثهم الشعبيّ الاجتماعيّ. وكان من محطات ذلك الانتفاضة الأولى، التي شهدت عدة مواجهات بين جيش الاحتلال والشبان في محيط المقام. ولذلك، فإنّ تحطيم القبر الرخاميّ، الذي أشرنا إليه أعلاه، لم يكن حدثاً جديداً أو استنثائيّاً، بل هو جزءٌ من تاريخ طويل من محاولة "تحرير" المقام من سطوة الاستيطان والرواية التوراتيّة.
ورغم أنّ مقام يوسف مُسجّل كوقفٍ إسلاميّ صحيح في دائرة الأوقاف الإسلاميّة في نابلس، إلا أنّ السلطة الفلسطينيّة، ومنذ تأسيسها فرّطت به وبالذاكرة الاجتماعيّة الحيّة التي يحملها أهالي نابلس وبالدماء التي روت أرضه. ثُبّت هذا التفريطُ في اتفاقية أوسلو لعام 1994، إذ استجابت فيها السُّلطة للمطلب الإسرائيليّ باعتبار المقام أحد موقعين يهوديّين يقعان في الأراضي المُصنّفة (أ)، وأنّهما تحت "السيطرة الإسرائيليّة". وبهذا خضع المقام منذ ذلك الحين لسياسة التنسيق الأمنيّ، ووُضعت عليه قوة تابعة للأجهزة الأمنية الفلسطينيّة لـ"حراسته"، تمنع أهله من دخوله والاقتراب منه، وتضمن للمستوطنين اقتحامه متى شاءوا.
ثمّ أُقيم حول المقام سورٌ استناديّ عالٍ حجبه بشكل كامل عن محيطه. ورُكّبت له بوابةٌ حديديّة لا يملك مفاتيحها إلا عناصر من الأجهزة الأمنيّة "يحرسونه" في مخفر شرطة صغير يقع مقابل المقام. تلك العناصر التي تراقب المكان وكلّ من يحاول الاقتراب منه تنسحب عند أي اقتحامٍ للمستوطنين، إذ حينها سيتولى جيشُ الاحتلال باقي المهمة. وفي العقد الأخير قمعت الأجهزة الأمنيّة مراراً تظاهرات حاولت الوصول إلى المقام، كما لاحقت بالاستدعاء والاعتقال متظاهرين نشطوا في المواجهات في محيط المقام، وهو ما تكرّر هذا الشهر كما سبقت الإشارة إليه.
حتى الترميم!
إلا أنّ بعض عناصر تلك الأجهزة الأمنيّة سُجّل لها دورٌ مغايرٌ قبل سياسات إعادة التشكيل والبناء ومحو الذاكرة التي خضعت لها بعد انتفاضة الأقصى. إذ سبق أن انخرطت في المواجهة في محيط مقام يوسف. في هبة النفق عام 1996، دارت أمام المقام اشتباكاتٌ مسلّحة بين جيش الاحتلال وعناصر من الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة، انتهت بستة جنود إسرائيليين قتلى، وشهيدين فلسطينيين. وفي العام 2011، قُتل قرب المقام مستوطن وأُصيب خمسة آخرون برصاص عناصر من الأجهزة الأمنية.
وما بين هذه الحادثة وتلك، وقعت خلال الانتفاضة الثانية في محيط القبر المواجهات والاشتباكات المُسلّحة، وكان منها ما حصل عام 2000، وأدّى إلى استشهاد ستة فلسطينيّين ومقتل جنديّ إسرائيليّ. وقد ساهم قتل جنود الاحتلال في مواجهات واشتباكات المقام من تعزيز ذاكرة المكان النضاليّة، واعتباره جزءاً من إرث المقاومة في المنطقة.
وقد تصاعدت في السنوات الأخيرة، وتحديداً بعد هبّة القدس عام 2015، مشاهد المواجهة حول المقام، إذ سرعان ما ينقلب هدوء النهار حوله إلى "ساحة حرب" في الليالي التي تشهد اقتحامات المستوطنين. في ذلك العام، 2015، أحرق الشبان المقام ليُعلنو عن مرحلةٍ جديدة من رفض اقتحاماته، كما شهد المقام خلال الهبة وبعدها مواجهات مستمرة بمشاركة مئات المتظاهرين.
وقد ساهمت تلك المواجهات فعلياً بإلغاء بعض الاقتحامات أو تأجيلها كما حدث في فبراير/شباط 2020، وهو أيضاً ما تكرر في يناير/ كانون الثاني 2022. إلا أن الجديد خلال السنوات الثلاثة الأخيرة هو عودة عمليات إطلاق النّار في محيط المقام، والتي تزامن بعضها مع مواجهاتٍ بالحجارة، وهو ما يُشير إلى تصعيد آخر في شكل المواجهة.
آثار الشموع التي يوقدها المستوطنون داخل غرف القبر. (عدسة: شذى حماد).
وأمام هذه الحالة الشعبيّة المتصدية للاستيطان، جاء بيان محافظة نابلس هذا الشهر ليستنكر فعل الشبان، وليُشير بعباراتٍ فضفاضة، لا تتطرق لفعل المستوطنين وأجنداتهم، إلى أنّ "نابلس مدينة حاضنة للديانات الثلاث"، وأنّها - أي المحافظة - تعمل على "حماية كافة الأماكن الدينيّة واحترام مختلف الشعائر".
ورغم تعهد إبراهيم رمضان، محافظ نابلس، بترميم المقام، إلا أنّ قوات الاحتلال والمستوطنين استبقوا الأمر، واقتحموا المكان في 13 أبريل/ نيسان، وبدأوا بترميمه وإصلاحه، وتحضيره للاقتحامات المقبلة. أمام هذا التنازل الفلسطينيّ الرسميّ والملاحقة الأمنيّة للشبان، جاء الترميم الإسرائيليّ السريع كمحاولةٍ للتأكيد على سلطة جيش الاحتلال على المكان دون أن يأخذ السلطة ووجودها على محمل الجد. وهكذا، جاء صوت أحد الشبان خلال تحطيم القبر: "راح، فش قبر يوسف.. يا خونة يا جواسيس"، صرخة تعلن تحريره - ولو لثوانٍ- من سلطتين؛ محليّة تضمن حماية المكان لصالح اقتحامات مستوطني السلطة الثانية الاستعماريّة.