23 مايو 2025

ماذا تبقى لنا من الحرم الإبراهيمي؟

ماذا تبقى لنا من الحرم الإبراهيمي؟

أمشي بخطوات متسارعة بين أزقة البلدة القديمة في مدينة الخليل جنوب الضّفة الغربيّة. الطريق ليست كما كانت، والوجوه تغلفها الكآبة، والمحال مغلقة. سؤال يلحّ في ذهني: أين الناس؟! أين أصحاب هذه المحلات؟! لماذا اختفى ضجيج الحياة هُنا؟ أين ذهب صاحب محل الحاجيات القديمة، ومالك أقدم محل تنجيد؟ ماذا تغيّر في المكان الذي كان ينبض بالحركة؟ أترك الأسئلة تلاحقني بينما أكمل طريقي نحو الحرم الإبراهيمي الشّريف، حيث وُجهتي النهائيّة.

 ما إن أصل إلى هناك حتى أقف أمام بوابة حديدية مغلقة نسمّيها "معّاطة". يخبرني أصحاب المحال القريبة أن المكان مغلق، ويرتفع صوت جندي إسرائيليّ من خلف البوابة يُطالبني بالعودة من حيث أتيت. أسأل أحدهم عن سبب الإغلاق، فيجيب: "عندهم عيد".

يغلق الاحتلال الإسرائيلي الحرم الإبراهيمي بالكامل، بأروقته وساحاته، في وجه المسلمين 10 أيام كلّ عام. في تلك الأيام، يُسمح للمستوطنين باقتحام الحرم وأداء طقوسهم التلمودية، وسط رقصات صاخبة وموسيقى، في مشهد يتنافى مع قدسيّة المكان.

اقرؤوا المزيد: سجن الضفّة المركزيّ، فرع الخليل

يُقابل ذلك الإغلاق "الاحتفالي" 10 أيام للمسلمين، يُسمح لهم فيها بفتح الحرم لأداء الصلاة، وتشمل هذه الأيام: عيد الفطر، عيد الأضحى، المولد النبوي، الإسراء والمعراج، أيام الجمعة في رمضان، ليلة القدر، وذكرى الهجرة النبوية.

 هذا التقسيم الزماني والمكاني فُرض بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي فجر 25 شباط/فبراير 1994 (15 رمضان 1414 هـ)، حين أطلق المستوطن المتطرّف باروخ غولدشتاين النار على المصلين أثناء السجود، فاستشهد 29 منهم وأُصيب أكثر من 155 آخرين. في أعقاب المجزرة، أُغلق الحرم 6 أشهر كاملة، مُنع فيها رفع الأذان وأداء الصلاة.

لاحقاً، شُكّلت "لجنة شيمغار" الإسرائيلية، التي فرضت قرارات عقابية بحق الفلسطينيين، فكرّست تقسيم الحرم؛ إذ بات 63% من مساحته تحت السيطرة الإسرائيلية، و37% فقط تحت إدارة الأوقاف الإسلامية. ومنذ ذلك الحين، تتابعت الانتهاكات، وتسارعت محاولات الاحتلال لفرض واقع جديد، يطمس الطابع الإسلامي للحرم، ويمتدُّ إلى محيطه بأكمله.

خطوة خطوة نحو "التهويد" 

تواصل "إسرائيل" مساعيها لطمس الهوية الإسلامية للحرم الإبراهيمي، عبر سلسلة إجراءات تستهدف معالمه الدينية والمعماريّة والديموغرافية، في محاولة لفرض واقع تهويدي على أحد أقدس المساجد في فلسطين. 

في عام 2022، بدأت سلطات الاحتلال أعمال حفر في الجهة الجنوبية الشرقية، تمهيداً لتركيب مصعد كهربائيّ يخدم المستوطنين، في خطوة اعتُبرت انتهاكاً إضافياً للمواثيق الدولية، لا سيّما أن "اليونسكو" أدرجت الحرم منذ 2017 على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر.

مئات المستوطنين داخل الحرم الإبراهيمي. (المصدر: الانترنت)

لكن المصعد لم يكن سوى بداية لتصعيد واسع. فمنذ مطلع 2023 وحتى السابع من أكتوبر، كثّف الاحتلال اقتحاماته للحرم، خاصة عبر "باب العين الحمراء" شرقاً، وسُجل ما لا يقل عن 11 اقتحاماً، شملت عقد اجتماعات عسكرية، أداء طقوس تلمودية، وإقامة حفلات صاخبة تسببت بتشويش متعمّد على المصلين المسلمين.

اقرؤوا المزيد: الردّ القادم من الجنوب: كيف شاركت الخليل في الطوفان؟

وفي 14 حزيران/ يونيو 2023، سكبت قوات الاحتلال كميات من المياه داخل القسم المغتصب من الحرم، ما أدى لتسرُّبها إلى "مقام النبي إبراهيم" في مصلى المالكية، وألحقت أضراراً جسيمة بسجاد المصلى، وجعلت المكان بحاجة ماسّة للصيانة. 

لاحقاً، نصب الاحتلال شمعداناً تلمودياً كبيراً فوق سطح الحرم، إلى جانب رفع العلم الإسرائيلي، في خطوة رمزية خطيرة تمسّ الهوية الإسلامية للمكان. كما أُزيلت الثريات من منطقة "الصحن"، وجرى العبث بمعدات الصوت وسرقة أربعة مُكبّرات صوت. 

تندرج هذه الانتهاكات ضمن سياسة ممنهجة تهدف لتغيير الواقع داخل الحرم الإبراهيمي، وسط صمت دولي، وتجاهل لقرارات ومواثيق تحظر التعدي على الأماكن المقدّسة أو تغيير هويتها.

الأذان الممنوع والأبواب المقفولة

منذ 7 أكتوبر 2023، شهد "الإبراهيمي" تصعيداً في الانتهاكات الإسرائيلية، وسط تغيّر في المشهد الفلسطيني العامّ. يصف الشيخ معتز أبو سنينة، مدير الحرم، ما يجري بأنه يعادل في حدّته مجمل الانتهاكات التي تعرّض لها الحرم منذ مجزرة 1994. فقد أغلقت سلطات الاحتلال جميع مداخله باستثناء واحد، ما أعاق دخول المصلين، لا سيما سكان البلدة القديمة. كما تصاعدت سياسات التنكيل، من تفتيش مهين إلى اعتداءات جسدية، أدّى ذلك لتراجع ملحوظ في أعداد المصلين والزائرين.

ويؤكد أبو سنينة أن الاحتلال يمنع رفع الأذان بشكل متكرر، بمعدل يتراوح بين 50 و55 مرة شهرياً، أي نحو 600 مرّة سنوياً، بذريعة أن غرفة الأذان تقع في الجزء المغتصب. منذ 7 أكتوبر أيضاً توسّع المنع ليشمل أذان المغرب يومياً، والمغرب والعشاء كل جمعة، وأذان الفجر والظهر والعصر والمغرب يوم السبت، إضافةً لمنع الأذان بالكامل في الأعياد اليهودية.

اقرأوا المزيد: حياةٌ في شارع الشهداء..

لم يكتف الاحتلال بالمنع، بل عمد للتّشويش على مكبرات الصوت أثناء الأذان والصلاة، بذريعة إزعاج المستوطنين.

وكجزء من الحرب، سارع الاحتلال بفرض مزيد من السيطرة على الحرم الإبراهيمي، فبدأ تغطية "صحن الحرم" -أحد أبرز فضاءاته المفتوحة- بمظلة ضخمة تبلغ نحو 19 متراً طولاً و9 أمتار عرضاً.

وفي 2024، سرقت سلطات الاحتلال لوحتين تعريفيتين من داخل الحرم توضحان مقامات الأنبياء وزوجاتهم، دون أن تلقى مطالب الأوقاف بإعادتهما أيّ تجاوب. 

قوات الاحتلال تضع الأقفال على مقام سيدنا يوسف في الحرم الإبراهيمي.

أمّا الانتهاك الأخطر، فوقع يوم 7 نيسان/ أبريل 2025، حين أقدم جنود الاحتلال على إقفال جميع أبواب الحرم باستخدام أقفال تابعة للأوقاف الإسلامية، التي تحتفظ بنسخة واحدة من المفاتيح. شمل الإقفال: مقام النبي يوسف، المزيتة، مكتب السدنة، غرفة الإعلام، المبخرة، وغرفة الأذان.

وحين حاول الشيخ أبو سنينة توثيق الحادثة، اعتُقل مع اثنين من موظفي الأوقاف، وتم التحقيق معهم ومصادرة هواتفهم. وصدر قرار بإبعاده 15 يوماً عن الحرم، وغُرّم بحوالي 1400 دولار، مع تهديد بالسجن لسنتين حال مخالفة القرار. أحد الموظفين تم إبعاده، فقط، لأنّه تفقّد الأبواب المغلقة.

لاحقاً، ومع احتفالات عيد الفصح اليهودي في 15 و16 نيسان/ أبريل 2025، اقتحم وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف ايتمار بن غفير الحرم، وأدى فيه طقوساً تلمودية، فيما تدفّق أكثر من 25 ألف مستوطن لإقامة طقوس واحتفالات صاخبة، تزامناً مع إغلاق كامل البلدة القديمة من باب الزاوية حتى محيط الحرم.

بات واضحاً أن الاحتلال لا يترك زاوية داخل الحرم إلا ويمسّها بانتهاك، في محاولة لفرض واقع تهويدي جديد، تحت غطاء ديني وأمني.

مسجد للأشباح؟

لم تقتصر الانتهاكات الإسرائيلية بحق الحرم الإبراهيمي على اقتحامه وتدنيسه، بل امتدّت لتشمل إجراءات يوميّة تستهدف تفريغه من روّاده، وعرقلة عمل موظفي الأوقاف الإسلاميّة.

يؤكد أبو سنينة، أنّ سلطات الاحتلال تعمل بشكل ممنهج على "إفراغ الحرم من أهله ومرتاديه"، تنفيذاً لتوجّهات سياسية واضحة، تُترجم إلى إجراءات تضييق متصاعدة.

خلال شهر رمضان الأخير، الذي يصفه الشيخ أبو سنينة بأنّه الأسوأ في تاريخ الحرم منذ مجزرة 1994، منعت قوّات الاحتلال دخول الشبان دون سنّ 25 عاماً، في محاولة لتقليص عدد المصلين، وتجنب هذا الجيل القادر الذي يقود بالعادة المواجهة، كما منعت طواقم الهلال الأحمر من التواجد داخل الحرم، رغم دورهم الحيويّ في تنظيم حركة المصلين.

البوابات الإلكترونية في الطريق المؤدي إلى الحرم الإبراهيمي، شبه فارغة من الناس والمصلين وسط تضييقات الاحتلال المتصاعدة. (تصوير: أسماء مسالمة/ موقع متراس)

ورفض الاحتلال كذلك تمركُز سيارات الإسعاف قرب بوابات الحرم، ما يعرّض الزوار لخطر كبير في حال حدوث طارئ صحيّ. فضلاً عن رفضه تسليم إدارة الحرم بالكامل للأوقاف الإسلامية خلال ستّ مناسبات دينية، مُصرّاً على استثناء المنطقة الشرقية المغتصبة، الأمر الذي رفضته أوقاف الخليل، مؤكدة أن الحرم مسجدٌ إسلامي لا يجوز تقسيمه.

أمّا سكان البلدة القديمة وأصحاب المحال التجارية فيؤكدون أنّ الإجراءات العسكرية المشددة، من تفتيش واعتداءات متكررة، تسببت في تقليص أعداد الزوار، وسط مخاوف من التنكيل أو الإذلال.

كلُّ  هذه السياسات تهدف في جوهرها إلى تفريغ الحرم من طابعه الإسلامي، وتآكل حضوره كرمز ديني وتاريخيّ في قلب الخليل.

حصارٌ اقتصادي يُطفئ البلدة القديمة

من يعتاد زيارة البلدة القديمة في الخليل، يلحظ حجم التغيّر الذي طرأ عليها بعد 7 أكتوبر. شوارع كانت تضجّ بالحياة، أضحت شبه خالية، ومحال تجارية أُغلقت. لا يكسر الصمت سوى خطوات بعض السكان المتبقين.

الحاج أبو حاتم الكركي، أحد أقدم العاملين في مجال السياحة، وصاحب محل في البلدة القديمة منذ أكثر من خمسة عقود، يقول إن أعداد الزوار تراجعت بشكل حادّ، سواء من أبناء الخليل أو من الزائرين من بقيّة مدن الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 48. ويشاطره الرأي الحاج إسحاق قفيشة، صاحب محل ملاصق للحرم، قائلاً: "الوضع قبل الحرب كان ممتازاً لكن بعد السابع من أكتوبر تغيّر كل شيء بسبب الإجراءات المشددة وإغلاق المنطقة الجنوبية".

اقرؤوا المزيد: حارة بسبعة حواجز!

قصّة الشاب وسيم الجعبري، تُجسّد التدهور المتسارع. يمتلك وسيم مع عائلته محلاً مجاوراً للحرم. لكنّه فوجئ بإغلاق جنود الاحتلال لمحلّه في الأيام الأولى للحرب دون إنذار أو تفسير، سوى ذريعة "اندلاع الحرب". ورغم محاولاته المتكررة لإعادة فتحه، باءت جميع الجهود بالفشل، ما اضطره لفتح محل جديد في موقع أبعد داخل البلدة، في محاولة للتشبّث بالمكان. 

عشرات المحال التجارية المغلقة في سوق البلدة القديمة بسبب تضييقات الاحتلال. (تصوير: أسماء مسالمة/ موقع متراس)

الإجراءات الإسرائيلية من إغلاق وتضييق وتقييد انعكست مباشرة على الحياة الاقتصادية للبلدة القديمة. كثير من التجار أغلقوا محالهم أو قلّصوا ساعات العمل، بينما تولّى الاحتلال إغلاق جزء كبير منها قسراً، ما أدى إلى تراجع مؤلم لحيويّة السوق وتآكل ذاكرته التاريخية.

صرخة قهر: إنّهم يسلبون الحرم روحه

في ظلّ السعي الإسرائيليّ المحموم لطمس الهوية الإسلامية للحرم الإبراهيمي، يتّسع الخطر يوماً بعد يوم، بينما تبقى استجابات الجهات الرسمية والمجتمعية دون المستوى المطلوب.

يستشهد القائمون على الحرم بالآية القرآنيّة: "ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين"، في تأكيد قرآني قاطع على هوية الحرم الإسلامية الخالصة. وقد تعاقبت الدول الإسلامية، من الفاطميين إلى المماليك، ثم الأيوبيين والعثمانيين، على رعاية الحرم وصون مكانته. 

جيش الاحتلال ومستوطنيه يرفعون الأعلام الإسرائيلية على الحرم الإبراهيمي، في 28 نيسان/ أبريل 2025. (تصوير: مصعب شاور/ وكالة فرانس برس)

لكن اليوم، يعمل الاحتلال على محو تلك الهوية بكل ما أوتي من أدوات: تهويد الساحات، تكثيف الحفريات، منع المصلين، وفرض رموز دخيلة. ويضرب مثالًا برفض إدارة الحرم استخدام المصعد الكهربائيّ، باعتباره أداة لفرض سيطرة الاحتلال، وتغيير الطابع الديني والتاريخي للموقع.

يصف الشاب وسيم الجعبري، من سكان البلدة القديمة، المشهد الجديد بمرارة: "المكان لم يعد يشبه المسجد، بل بات أشبه بكنيس يهودي"، في إشارة لرفع الشمعدان التلمودي والعلم الإسرائيلي فوق الحرم.

ورغم خطورة ما يجري، تبقى ردود الفعل المحليّة أو الدولية باهتة، لا ترقى لحجم التهويد المتسارع، ولا توازي حجم الانتهاك والتدنيس الجاري.

يختم الشيخ معتز أبو سنينة، بكلمات تختصر وجعه: "نشأت في هذا الحرم، وتربّيت بين جدرانه، واليوم أراه يُسلب منا شيئاً فشيئاً". ويستدرك رغم ألمه: "هذا بيت من بيوت الله، وعلينا أن نحفظه كما نحفظ أرواحنا... الدفاع عنه واجب لا يسقط ما بقيت فينا الحياة".