مع انطلاق معركة "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وما تلاها من عدوانٍ إسرائيليٍّ همجيّ على قطاع غزّة، توالت ردود الفعل الأميركية على مختلف المستويات. على المستوى الرسميّ، المتمثل بالبيت الأبيض والكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، فقد انحازت الولايات المتحدة للرواية الإسرائيليّة وانخرطت مع دولة الاحتلال عسكريّاً ودبلوماسيّاً، وظهرت كجزءٍ أصيل من المشهد.
أما على المستوى الشعبيّ، فقد برزت حركةُ تضامنٍ شعبيّة ومؤسساتيّة قويّة وفعّالة مع الفلسطينيّيين. وبينما نعلم تماماً كيف ترعى أميركا الرسميّة "إسرائيل"، فإنّ هذا المقال مُخصّص لإلقاء الضوء على حركة التضامن الشعبيّ؛ يتعرّف على وجوهها وفاعليها، ويحاول تقدير أثرها على موقف الإدارة الأميركيّة من الحرب.
من التظاهر حتى ملاحقة أصغر مسؤول
اتخذ التضامنُ مع الحقّ الفلسطينيّ أشكالاً متعددة تنوّعت بين الأفعال الفرديّة العفويّة، وتلك المنظّمة. وقد انضوى تحت لواء هذا التضامن ملايين الأميركيين، وتنوّعوا هم أيضاً بين مَن يؤيد ببساطة ضرورة وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، وبين من خرج مطالباً بتحرّر الفلسطينيين وحصولهم على حقوقهم ليس الإنسانية العاجلة فقط، ولكن أيضاً السياسيّة والوطنيّة بدولتهم المستقلة ذات السيادة.
وقد عمل اتحاد مؤسسات المجتمع المدنيّ وعدد من المنظّمات غير الحكوميّة العاملة على مستويات فيدرالية، أبرزها حركة الشباب الفلسطيني (PYM)، وشبكة الجالية الفلسطينيّة في الولايات المتحدة (USPCN)، وتحالف "في حياتنا" مع "متحدون من أجل فلسطين" (WOL)، وحركة "إن لم يكن الآن" (INN)، وحزب الاشتراكية والتحرير (PSL)، على تنظيم فعاليات جمعية شديدة التنوع ومتفاوتة الجمهور منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
أبرز تلك الفعاليات هي المظاهرات، والتي تُنظّم بشكلٍ أسبوعيّ في مختلف الولايات والمدن والأحياء. تطالب المظاهرات بوقف إطلاق النار وإنهاء الدعم الماليّ والسياسيّ والعسكريّ لـ"إسرائيل". شارك فيها حتى اللحظة قرابة 694.000 أميركي، أمَّ أكثرُ من 300 ألف منهم شوارع واشنطن العاصمة في كبرى تلك المظاهرات، في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
وقد رفع المتظاهرون شعارات شديدة التنوع؛ مثل "أوقفوا إطلاق النّار الآن"، و"أوقفوا الدعم الأميركي لجريمة الإبادة التي ترتكبها إسرائيل"، و"بايدن لقد خسرت صوتي"، بينما نادى بعضها الآخر بشعارات أشدّ وضوحاً، مثل: "فليخرج الصهاينة من فلسطين"، و"فلسطين حرّة من البحر إلى النهر"، و"على الفصل العنصريّ أن ينتهي".
من ناحيةٍ أخرى، رفعت المنظّمات الحقوقيّة المُناصرة للفلسطينيين تحت مظلة مركز الحقوق الدستورية الأميركي دعوىً قضائية على الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزير خارجيته ووزير دفاعه بوصفهم متورطين في جريمة الإبادة الجماعيّة -التي يُجرّمها القانون الأميركي- ويقدمون لتنفيذها الدعمَ الماليّ والعسكريّ. وقد طالب الفريق القانوني الممثِّل للدعوى المحكمةَ بإنفاذ منعٍ مؤقتٍ للدعم الماليّ والعسكري والدبلوماسي لـ"إسرائيل"، إلى حين البت بالقضية.
بالتوازي مع ذلك، أثقل المتضامنون خطوطَ الاتصال التابعة للمُمثّلين الرسميّين في الكونغرس بهدف مساءلتهم، وواظبوا على مقاطعة خطابات وتصريحات المسؤولين الأميركيين على مستويات فيدراليّة وإقليميّة ومحليّة وبلديّة، أو إيقافهم والصراخ في وجوههم مطالبين إياهم بالعمل على وقف إطلاق النّار ووقف الدعم غير المشروط لـ"إسرائيل" وإنقاذ المدنيين في غزّة.
انخرط في فعل المقاطعة هذا أفرادٌ وجماعات أميركية تنوّعت بين الطلاب والصحافيين والناشطين الحقوقيين، وحتى المواطنين العاديين الذين صادفوا مسؤولين في المواصلات العامة وفي صالات الطعام أو في الاجتماعات الرسميّة المفتوحة للجمهور، مثل بعض جلسات النواب، وجولات المرشحين الديمقراطيين والجمهوريين حول الولايات تحضيراً للانتخابات القادمة.
الأميركيون الأصليون: نعرف ما تمرّون به
تصدّر الأميركيون من الأصول العربيّة والإسلاميّة واجهةَ مشهد التضامن، مُنخرطين بصفتهم المدنيّة والعرقيّة والدينيّة، ومعلنين عن غضبهم من نهج إدارة بايدن الداعمة بشكلٍ مطلقٍ لـ"إسرائيل". وقد كثّفت المؤسسات الإسلاميّة العاملة في الحقّ الفلسطيني جهود الحشد والتأثير، وانضم إليها قادة الجاليات العربيّة والمسلمة، وأئمة المساجد متجاوزين حدودَ الوعظ والتعبئة باتجاه التلويح باستخدام بطاقة القوّة الانتخابية ضدّ إدارة بايدن في الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها عام 2024.
كذلك انضمّت مجتمعات عرقيّة وأقليات دينية وإثنية عديدة لحركة التضامن، نظّم بعضها فعاليات تضامن خاصة بينما انخرط بعضها الآخر في حركة التضامن العامّة مع تخصيص ركنٍ يُظهر هويّتها العرقيّة من متحدثين وشعارات ورسائل خاصة.
كان على رأس تلك المجتمعات كلٌّ من الأفارقة الأميركيين المنضوين تحت لواء حركة "حياة السود مهمة"،1 حياة السود مهمة هي منظمة عالمية تمركزت في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا، تأسست في 2013 عقب تبرئة قاتل الطفل ترايفون مارتن الذي قتله الأميركي الأبيض جورج زيمرمان على خلفية عرقية وهو بعمر الـ17 عاماً، وتتمثل مهمتها في القضاء على التفوق العرقي وبناء المجتمعات السوداء المحلية لمواجهة العنف الذي تمارسه الحكومة والشرطة على مجتمعات السود. واليهود المنضوين تحت مظلة "أصوات يهودية من أجل السلام".2تعرّف الحركة نفسها بكونها أكبر منظمة يهودية تقدمية مناهضة للصهيونية في العالم. وتنظّم الحركة التي ينضوي تحتها أكثر من 300 ألف عضو حراكات شعبية ومتعددة الأعراق من اليهود الأميركيين للتضامن مع النضال الفلسطيني، مطالبين بالتحرر من البحر إلى النهر ومتبنين رؤية تطالب بالعدالة والمساواة والكرامة لجميع الناس. وقد قادت هاتان الجماعتان الفاعلتان فعالياتٍ ضخمةً كان لها صدى كبير في الشارع الأميركي، مِثل الاعتصام في قاعات الاستقبال لمكاتب المسؤولين ومقرات الإعلام المنحاز للرواية الإسرائيليّة وردهات المؤسسات الرسميّة، وأماكن التجمع العامّة مثل محطات القطارات والأماكن ذات الرمزيّة، مثل جزيرة تمثال الحريّة.
إضافةً لتلك التحركات العامّة التي تضمّ ملايين الأصوات، ظهرت مجتمعات أصغر لكن ذات رمزيّة وصلة عضويّة بالحق الفلسطينيّ، ومنها "مجتمع الأميركيين الأصليين" الذين رفعوا أصواتهم المطالبة بتحرير الفلسطينيين وإرجاع أرضهم وحقوقهم المسلوبة، في إشارةٍ لا يمكن إغفالها لوحدة الحال والتاريخ المشترك الشاهد على استعمار استيطاني إحلالي تقوم مؤسساته على عظام السكان الأصليين للبلاد.
جيل Z معنا
أظهرت استطلاعات رأي أميركية أنَّ الجيل الصاعد من المراهقين والشباب الصغير الملقّب بجيل زي Generation Z هو الأكثر تأييداً للحقّ الفلسطينيّ والأشد عداءً لـ"إسرائيل"؛ فوفق استطلاع رأي أجراه "المركز الأميركي للدراسات السياسيّة" مؤخراً، تـبـيّـن أنَّ 51% من الشباب المُستطلعة آراؤهم الواقعين في الفئة العمريّة 18-24 عاماً يرون أنّ "هجمات حماس" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كانت مبرّرةً، بينما شاطرهم الرأي 48% من الفئة العمرية الواقعة بين 25-34، في المقابل رفض 89% من المشاركين الواقعين في الفئة العمرية 55-64 تبرير هذه الهجمات ووافقهم 91% ممن هم فوق سن الـ65.
ويعزو باحثون أميركيون ومنهم صامويل أبرامز، الباحث في "معهد انتربرايز الأميركي للأبحاث الإنسانية"، السبب إلى ما يُسمّيه "انقطاع الجيل الصاعد عن تاريخه"، فهو جيل لم يدرس التاريخ ولم يعاصر قيام "إسرائيل"، وبالتالي لا يملك الأساس العاطفيّ والمنطقيّ المطلوب لفهم الواقع، على حدّ زعمه.
بينما يرى آخرون أنّ هذه الفئة العمريّة الشابة لم تعد تستقي معلوماتها من الإعلام الأميركي الرسميّ الذي يسوّق لدعاية استعماريّة مؤيدة لـ"إسرائيل"، بل إنّ جلّ اعتماده على المصدر البديل والمستقل إلى حدٍّ بعيد للصورة والخبر المتمثّل بمنصات التواصل الاجتماعي.
وقد أبدع هذا الجيل في التعبير عن مناصرته للقضية الفلسطينيّة مستخدماً الأدوات الشبابيّة الرائجة من حفلات موسيقيّة ومعارض فنيّة وتخصيص ريع الفعاليات الترفيهيّة لصالح الأطفال في غزّة. وبالطبع استخدموا منصات التواصل، وعلى رأسها تيك توك للتعبير عن تأييدهم للفلسطينيين والقضية الفلسطينية، فقد بلغ عدد المشاركات تحت وسم "فلسطين حرّة" على المنصة 3 ملايين مقابل 39 ألف فقط لصالح "أقف مع إسرائيل".
وقد تسرّب مؤخراً تسجيلٌ صوتيّ لرئيس "تحالف مناهضة التشهير (ADL)"، جوناثان جرينبلات، يشير فيه بصورةٍ مباشرة إلى أن الصهيونية التقليدية قد راهنت بشكلٍ خاطئ على توزيع جهودها على أساس الانتماء الحزبي (ديموقراطي/جمهوري)، بينما كان الأجدر بها أن تركّز جهودها على الجيل الأصغر الذي نشأ معادياً لـ"إسرائيل" وأكثر انفتاحاً على مآسي الشرق الأوسط وحقوق الشعوب المستضعفة بالحريّة والعدالة.
الطلاب في المقدمة
يُعدّ تحالف "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" Students for Justice in Palestine (SJP) من أهم الجهات الفاعلة في حركة التضامن مع الفلسطينيّين في الولايات المتحدة؛ فهذه المنظمة الطلابيّة التي تملك ما يزيد عن 200 فرع في جامعات الولايات المتحدة نظّمت أكثر الفعاليات تأثيراً على الأرض الأميركية.
تنوّعت فعالياته بين الوقفات الاحتجاجيّة والمظاهرات الطلابيّة وفعاليات مقاطعة الصفوف والمؤتمرات والمحاضرين الإسرائيليين، وتنظيم مؤتمرات وورشات عمل ترفع الوعي وتثقّف الطالب الأميركي حول القضية الفلسطينيّة.
وقد واجه التحالف اتهامات شتى من "معاداة السامية" و"التحريض" و"الدعوة للعنف" و"التمييز ضدّ إسرائيل" و"دعم الإرهاب"، ولوحق أعضاؤه بعقوباتٍ إداريّة وصلت حدَّ الفصل من الجامعة، وحُوّل بعضهم إلى لجان تحقيق وأُدرجت أسماؤهم في "قائمة كناري" التي تضمُّ أسماءَ شخصياتٍ داعمة للحق الفلسطينيّ وتستخدم لمضايقتهم وإخضاعهم للتفتيش في المطارات والمعابر المؤدية إلى الأراضي المُحتلة.
اقرؤوا المزيد: "عملية كناري".. ملاحقة وتعقّب أكاديمي المقاطعة".
كما واجه التحالف مطالبات بمنع نشاطه في حرم الجامعات كان على رأسها قرار مستشار النظام الجامعي في ولاية فلوريدا بحظر نشاط الحركة في جامعات فلوريدا الحكوميّة، وقد قدّم بعدها التحالف دعوى قضائية ضدّ القرار.
وفي إطار الجامعات، ولكن أيضاً خارجها، وفّرت حركة مقاطعة البضائع وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على "إسرائيل" (BDS)، للطلاب وللحقوقيين والسياسيين إطاراً للعمل في بيئاتهم المحليّة للمطالبة بوقف الحرب على غزّة والانتهاكات الإسرائيلية في مختلف المناطق الفلسطينية. وحصرت الحركة الجهات والعلامات التجارية المتورطة في دعم الاحتلال الإسرائيلي ودعت لمقاطعتها، وبالأخصّ شركات تصنيع الأسلحة التي يتم تصديرها لـ"إسرائيل". وقد أثمرت هذه الحملات المتواصلة نتائج واضحة على مستوى السوقين الأميركي والعالمي، برزت خاصّة فيما يتعلق بالمطاعم والمقاهي الأميركية المنتشرة حول العالم.
التضامن المُكلِف
إنّ التضامن مع الحقّ الفلسطينيّ في أوساط الناشطين في الولايات المتحدة لا يعني بالضرورة التعبير علناً عن تأييد المقاومة، إذ إنّ حركة "حماس" مصنّفةٌ كمنظمةٍ إرهابيّةٍ وفق قائمة الإرهاب التي تشرف عليها الخارجية الأميركية وقد أُدرجت فيها رسميّاً عام 1997. يترتب على هذا التصنيف تجميد أصول الحركة وأعضائها، ومنع دخولهم الأراضي الأميركية والقبض عليهم ومحاكمتهم حال محاولتهم الدخول.
غير أنَّ الأثر المترتب على هذا التصنيف لا يقتصر على أعضاء الحركة فقط، ولكنه أيضاً يعطي الحكومةَ الأميركية اليدَ العليا في التعامل مع المتضامنين معها، إذ يُجرّم القانون الأميركي تقديم أي دعمٍ ماديٍّ أو عسكريٍّ أو لوجستيّ أو أكاديميّ أو ترويجيّ للحركة، ويعطي مكتبَ التحقيقات الفيدرالي هامش سلطة تقديرية واسعة لاستجواب المتعاطفين مع الحركة ووضع ملفاتهم الماليّة موضع التحقيق، وصولاً إلى إغلاق المؤسسات التي يثبت تورطها بالدعم، وكذلك إمكانية ترحيل من يثبت تعامله مع الحركة وانخراطه في صفوفها.
وقد تعرّض عدد كبير من المؤثرين المسلمين والعرب لمضايقات وزيارات إنذارية من المكتب الفيدرالي منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، إذ صرّحت المنظّمة العربيّة الأميركية لمناهضة التمييز بتلقيها عدداً من التبليغات عن الزيارات المتكررة وتحقيقات المكتب. كما فُتحت تحقيقات بحق بعض المؤسسات الخيريّة الإسلاميّة بدعوى الشك في تمويلها لـ"حماس".
البيت الأبيض لا يتزحزح، ولكن..
في حين لا يُعوّل عاقلٌ على تغير الموقف الأميركي من حليفته الأبديّة "إسرائيل"، إلا أن البعض يُشير إلى تأثرٍ ما، بفعل حركة التضامن، وإن بدا هذا التأثر غير ذي فعالية في الوقف المباشر للعدوان على غزّة. من ذلك ارتفاعُ بعض الأصوات داخل الحزب الحاكم تطالب بربط المساعدات المقدّمة لـ"إسرائيل" بضرورة حماية المدنيين والالتزام بأحكام القانون وضرورة تأمين حقّ الفلسطينيين بتقرير المصير ضمن مسار "حل الدولتين".
ومن المعلوم أنّ هذه المطالبات ترتبط بعدة عوامل أميركيّة داخليّة، أبرزها المعركة الانتخابيّة القادمة التي بدأ التحضير لها، وسط تهديداتٍ واسعة النطاق بعدم التصويت لصالح الحزب الديمقراطيّ بسبب انخراطه في جريمة الإبادة الجماعيّة ضدّ الفلسطينيّين.
من ناحيةٍ أخرى تخشى الولايات المتحدة من تفشي الجريمة على أراضيها سواء تلك الموجّهة ضدّ المجتمعات العربيّة والمسلمة أو تلك الموجّهة ضدّ المجتمعات اليهوديّة في ظلّ ارتفاع وتيرة التحريض والإسلاموفوبيا. وقد نتج عن ذلك مقتل وإصابة عدد من الفلسطينيّين والمسلمين، وتسجيل عدد غير مسبوق من التحرشات والمضايقات والفصل من العمل على خلفية دعم الحق الفلسطينيّ.