13 أبريل 2021

دحلان في غزّة.. دبّ في كرم "حماس"

دحلان في غزّة.. دبّ في كرم "حماس"

بعد 14 عاماً على خروجها منه، وعلى إثر تفاهمات عام 2017، عادت مطلعَ هذا العام إلى قطاع غزّة، وبشكلٍ متتابع، شخصياتٌ وكوادر فلسطينيّةٌ محسوبة على تيار القيادي المفصولِ من حركة "فتح" محمد دحلان. من بين هؤلاء، رشيد أبو شباك، وماهر مقداد، وتوفيق أبو خوصة، وغسان جاد الله، وهي أسماءٌ ارتبطت في ذاكرة الغزّيين بأحداث الاقتتال الداخليّ عام 2007. 

أثارت هذه العودةُ تساؤلاتٍ حول موقف حركة "حماس" الذي أدّى إلى موافقتها على عودة من كانوا حتى وقتٍ قريب أعداءها اللدودين. في هذا المقال نستعرضُ باختصار تطورات العلاقة بين "حماس" ودحلان، ونقدّم قراءةً للتغييرات الأخيرة التي أدّت إلى عودة تلك الشخصيات وزيادة نشاطها في القطاع.

من الوقائي إلى سياسة "الخمسة بلدي"

يمكنُ القول إنّ جذور العداء بين محمد دحلان وحركة "حماس" بدأت في السّنوات الأولى التي أعقبت توقيع اتفاقية أوسلو (1995-2000)، إذ كانَ دحلان في تلك الفترة رئيساً لجهاز الأمن الوقائيّ في غزّة، وهو الجهاز الذي قاد حملاتِ القمع ضدّ "حماس". خلال تلك الفترة تعرّض المئاتُ من قادة الحركة وكوادرها للاعتقال والتعذيب في سجون الوقائي، وتكثّفت حملات دهم وتفتيش البيوت والمساجد والجمعيات الخيريّة. كما لم يخلُ الأمر من اشتباكاتٍ مُسلّحة بين عناصر الجهاز وأفرادٍ من كتائب القسّام.

اقرؤوا المزيد: "دحلان.. سيرة الأخطبوط".

تجدّدت مظاهرُ العداء هذه بعد فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعيّة عام 2006، من خلال ما أسمّاه دحلان في تسريبه الصوتيّ الشهير سياسة الـ"خمسة بلدي". وفقاً لهذه السياسة شهد قطاع غزّة عاماً ونصف العام من الاشتباكات المسلّحة وعمليات الخطف والإعدامات الميدانيّة وإحراق المؤسسات بشكلٍ شبه يوميّ، فيما اتَّهمت "حماس" دحلان بأنّه المسؤول الأول عن كلّ ذلك، وأنّه قائد "التيار الانقلابيّ في حركة فتح". بعد إحكام "حماس" سيطرتها على القطاع وقضائها على مظاهر التسليح والاقتتال، غادر دحلان إلى الضفّة، ومنها لاحقاً إلى الإمارات، وغادرت قياداتٌ أخرى محسوبة عليه إلى الضفّة أو مصر.

الأعراس الجماعيّة والطرود الغذائية.. بداية العودة

يمكن القول إنّ العلاقة بين الطرفين بدأت تشهد تغييراتٍ في العام 2012. في ذلك العام، أُعلِن عن تأسيس "اللجنة الوطنيّة الإسلاميّة للتنمية والتكافل الاجتماعيّ"، لتكون جهةً مسؤولةً عن توزيع المعونات الماليّة وتنفيذ المشاريع الإغاثيّة التي تُقدّمها الإمارات من بوابة دحلان. تألّفت اللجنةُ من ممثلين عن عددٍ من الفصائل، أبرزها الجهاد الإسلاميّ و"حماس"، إضافةً إلى ممثلين عن تيار دحلان.

في إبريل/ نيسان 2013، وصلت جليلة دحلان، زوجة محمد دحلان، إلى القطاع في زيارةٍ هي الأولى منذ عام 2007. تزامنت زيارتُها مع تنفيذ بعض المشاريع الإغاثيّة بتمويلِ دحلان، ومع افتتاح "المركز الفلسطينيّ للتواصل الإنسانيّ" المعروف اختصاراً بـ"فتا"، والذي تديره جليلة بتمويلٍ من الهلال الأحمر الإماراتيّ.

كان القطاعُ في تلك الفترة بدأ يعيش أوضاعاً اقتصاديّة أشدّ صعوبةً مما قبل، خاصّةً بعد الانقلاب على الرئيس المصريّ محمد مرسي، وتدمير الجيش المصريّ للأنفاق الحدوديّة بين غزّة وسيناء، وقد رافق ذلك توترٌ ملحوظ بين "حماس" والنظام المصريّ. بعد ذلك بأشهر، وتحديداً في يناير/ كانون الثاني 2014، وافقت "حماس" على عودة النائبين في المجلس التشريعي ماجد أبو شمّالة وعلاء ياغي، برفقة سفيان أبو زايدة عضو المجلس الثوريّ لحركة "فتح"، وثلاثتهم من المقرّبين من دحلان، إلى قطاع غزّة من الضفة الغربيّة عبر حاجز بيت حانون. حينها وصف أبو شمّالة عودته بالقول إنّها جاءت للمساهمة في "حلّ مشكلات القطاع المرتبطة بالأوضاع الاقتصادية السيئة ورفع المعاناة عن أهله". 

أشرف جمعة، أحد قيادات تيار دحلان في استقبال رشيد أبو شباك بعد وصوله غزة، مارس 2021

بانتهاء عدوانِ عام 2014، خَرَج القطاعُ مُثقلاً بخسائر ماديّة وبشريّة، وترافق ذلك مع جمودٍ في ملف المصالحة. في تلك الفترة خرجت للعلن أحاديثُ عن مصالحة حمساويّةٍ مرتقبة مع دحلان، إلا أنّ الحركة نفت ذلك مراراً، وأكدّ عضو مكتبها السياسي موسى أبو مرزوق في حينه عدم وجود أيّ اتصالات سياسيّة أو أمنيّة مع دحلان، باستثناء ما يتعلق بالعمل الإغاثيّ الذي تديره اللجنة الفصائليّة.

بانقضاء عام 2015، غابت لهجة دحلان الهجوميّة على "حماس" في لقاءاته الإعلاميّة، ودعا إلى ضمّها والجهاد الإسلاميّ إلى منظمة التحرير. كما صرّح بشكلٍ واضح أنّ العلاقة مع "حماس" تهدف لتنسيق وتسهيل وصول المساعدات الإنسانيّة إلى قطاع غزّة، وليست لمناكفة محمود عبّاس. شهدت غزّة ذلك العام نموّاً وتوسعاً واضحاً لمشاريع مركز "فتا"، ومنها فعاليات العرس الجماعيّ ومشاريعُ الإنجاب للمصابين بالعقم، وتوزيعُ الطرود الغذائيّة.

باب التواصل مع مصر 

ما بين عام 2016-2019، شهدت العلاقة بين الطرفين تطوراتٍ أخرى على مستويات أعلى وخارج إطار الدعم الإنسانيّ. في العام 2016، أفرجت وزارة الداخليّة في غزّة عن القيادي الفتحاويّ زكي السكني بعد اعتقالٍ دام 8 سنوات على خلفية اتهامه بتفجير سيارةٍ لعناصر من كتائب القسّام. 

في المقابل، أطلقت الأجهزة الأمنيّة المصريّة سراح سبعة من حجّاج قطاع غزّة الذين جرى اعتقالهم بتهمة نقل وسائط عسكريّة لـ"حماس"، وأعلنت عن فتح معبر رفح لمدة أسبوع. إلا أنّ "حماس" وعلى لسان القيادي فيها صلاح البردويل نفى في حينه أيّ صفقات بين الحركة ودحلان واصفاً من يربطون الإفراج عن السكني بصفقة بأنهم "مُضللون".

اقرؤوا المزيد: "معبر رفح.. ابتزاز السلطة الأخير لقطاع غزّة".

أثارت هذه التحركات السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس الذي سافر في جولة خارجية شملت تركيا وقطر، وذكرت تقاريرُ إخبارية أنّه قام خلالها بتسليم الحكومة التركيّة دلائل وقرائن على اتصالاتٍ وتفاهمات بين "حماس" ودحلان الذي تتَّهمه أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب أواسط العام. وبحسب التقارير، فقد أسفر ذلك عن توترٍ ما في العلاقات التركية الحمساوية.

بحلول عام 2017، ومع تولي يحيى السنوار قيادةَ "حماس" في غزّة، وبالتزامن مع فرض السّلطة الفلسطينيّة عقوبات على القطاع، رعت القاهرة في يوليو/حزيران اتفاق تفاهماتٍ جديداً بين "حماس" ودحلان. تضمَّنَ الاتفاقُ إدخال شاحنات الوقود القطريّ عبر معبر رفح، وتوسيع المنطقة التجاريّة وإدخال أصنافٍ جديدة من البضائع، وتكثيف الدعم الإماراتيّ عبر لجنة التكافل. في المقابل باشرت الأجهزة الأمنيّة في القطاع بإقامة منطقةٍ حدوديّة عازلة بعمق 100 متر "لضبط الأمن في سيناء". وقد عبّرت السّلطة عن سخطها على هذا الانفتاح المصريّ يومها على لسان عضو اللجنة المركزيّة في حينه محمد اشتية، الذي قال إنّ "مصر تساهمُ في تنفيس إجراءات السّلطة تجاه القطاع".

اقرؤوا المزيد: "لا صوت لتنظيم غزّة داخل حركة فتح".

في ظلّ هذا التطور، أرخت "حماس" يدها في السماح للمحسوبين على تيار دحلان بالعمل، حتى فازت قوائم التيار ومرشحوه بعددٍ من الاستحقاقات الانتخابيّة النقابيّة في القطاع، كانتخابات نقابة العاملين بجامعة الأزهر ونقابة الصيادلة عام 2019. وصولاً إلى يومنا هذا الذي نشهدُ فيه عودة قياداتٍ بارزةً في التيار، وإرسال دحلان للقطاع في مارس/آذار الماضي 40 ألف جرعةً من اللقاح الروسي المضادّ لكورونا، قيل إنّها لن تكون الأخيرة.

كذلك، عُقِدت في القاهرة العام نفسه لقاءات بين السنوار وإسماعيل هنية من جهة، والمشهراوي من جهة أخرى. وفي بعض التقارير غير المؤكدة تماماً قيل إنّ دحلان نفسه شارك في بعض هذه اللقاءات. وإن لم يشارك بها، فإنّه شارك بصفته نائباً في المجلس التشريعي عبر الدائرة التلفزيونيّة المغلقة في جلسةٍ طارئة عقدت في غزّة، بمشاركة النواب المحسوبين عليه من كتلة "فتح"، لبحث قرار الرئيس عباس إسقاطَ الحصانة البرلمانيّة عن عددٍ من النواب المحسوبين على تياره. وفي العام ذاته، عُقِد أول مهرجانٍ للمصالحة المجتمعيّة في غزّة، والذي دفعت خلاله الديّة المحمديّة لعائلات 14 من ضحايا الاقتتال عام 2007، كدفعةٍ أولى من أصل 730 عائلة فقدت أبناءها قتلى وجرحى.

أسئلة من حقل الألغام

لا شك أنّ مصلحة دحلان في العودة إلى القطاع من خلال تياره ونشاطاته واضحة؛ فدحلان العابث بدول المنطقة شرقاً وغرباً لم يُغمض عينيه عن أحلام وراثة الرئيس عباس، ولا زال يبحثُ عن موطئ قدمٍ لتحصيل شرعية الحضور في المشهد الفلسطينيّ، وهو ما يجعله ينظرُ للانتخابات التشريعيّة القادمة كفرصةٍ للعودة من أوسع الأبواب. ومع فشلِ مساعي الوساطة والصّلح بينه وبين عبّاس، يبدو أنّه بحث عن ثغرةٍ في جدار غزّة تُمكِّنُهُ من الحضور في أيّ بقعة فلسطينية والمراكمة فيها من خلال حضوره وحضور تياره ونشاطاته المدعومة إماراتيّاً. 

أما "حماس"، فإنّ المواقف المتتالية لها في إرخاءِ الحبل لتيار دحلان طرحت العديد من التساؤلات عن منطق عملها وتوجهها للـ"مصالحة" مع عدوّ الأمس، وحليف الإمارات الذي لم يترك بلداً عربيّاً دون العبث به وبسياسته، ودون المساهمة في قتل الناس، وتمويلِ قمعهم. 

يكمن جزءٌ كبير من الإجابة على هذا السؤال في الظرف الإنسانيّ الصعب الذي يعيشه قطاع غزّة. بالنظر إلى كل آثار الحصار الكارثيّة، فإنّ السماح لتيار دحلان بالعمل في غزّة، وخاصّة في الشأن الإغاثيّ، يبدو خياراً اضطرارياً اتَّخذته "حماس" في محاولة لإنقاذ الوضع المعيشيّ والاقتصاديّ المتدهور، خاصّةً بعد تدمير الأنفاق الحدوديّة مع مصر، وحروبٍ ثلاثة ضارية، وأشكالٍ متنوعة من الحصار الإسرائيلي والعقوبات الفلسطينية.

أنصار دحلان يرفعون صوره خلال مسيرة لإحياء ذكرى تأسيس حركة "فتح"، غزّة، ديسمبر 2018. مجدي فتحي\NourPhoto

وفي الإطار نفسه، أيْ إطار تخفيف أعباء الحصار، تسعى "حماس" للاستفادة من علاقة دحلان بالنظام المصريّ لصالح ترطيب الأجواء معه، وبالتالي رفع سقف المكتسبات فيما يتعلق بفتح معبر رفح، وإقامة المنطقة الحرّة وغيرها من التسهيلات التي لا زالت حاضرةً على طاولة التفاهمات بين الأطراف الثلاثة.

وفي إطار السياسة الداخليّة الفلسطينيّة، قد تكون العلاقةُ مع دحلان ورقةً بديلةً ترغب "حماس" في إبقائها بيدها لتكون باباً للتخفيف من أعباء الحصار في حال فشل المصالحة مع عبّاس. إلا أنّ هذه الورقة قد تُقرأ بشكلٍ معكوس أيضاً، أي قد تكون "حماس" معنيةً بتوظيف علاقتها مع دحلان بهدف ليّ ذراع الرئيس محمود عبّاس والضغط عليه بفزّاعة غريمه الأول في حركة "فتح"، وتطويع هذا الضغط لتعجيل مسار المصالحة الفلسطينية الداخليّة، والتخلص من أعباء سيطرتها على القطاع. 

رغم صعوبة الظرف المعيشيّ الذي وجدت "حماس" نفسها مسؤولةً عنه بفعل الحصار على قطاع غزّة، فإنّ ذلك يجب أن لا يُعميها عن حقل الألغام الذي تسير فيه عندما تتجه نحو المصالحة مع دحلان. لا يخفى على أحدٍ الدورُ الخطير الذي يقوم به دحلان ويقوده، ليسَ في دول المنطقة فحسب، بل في الضفّة والقدس، ومخيمات اللجوء كذلك. وهذه المناطق الجغرافيّة هي، مثلها مثل غزّة، في لبّ القضية الفلسطينيّة وهمومها وتحدياتها، ولا يجب أن يُفصل جزءٌ عن جزء. كما أنّ دحلان هو حليف النظام الإماراتيّ الذي شكّل رأس الحربة ضدّ أخوات "حماس" من حركات الإسلام السياسيّ في العالم العربيّ، والذي موّل ودعم الثورات المضادّة في عددٍ من البلدان العربيّة، عدا عن كونه النظام الذي قدّم نموذجاً تطبيعيّاً مُغرِقاً في الذلّ لم يسبقه إليه أحد. 

هنا يأتي السؤال: هل وصلت "حماس" إلى درجةٍ من الثقة والاطمئنان نتيجة سنواتٍ من مراكمة القوّة والسيطرة الأمنيّة والعسكريّة على قطاع غزّة تسمح لها بأن تُدخِل الثعبان إلى "حجرها"؟ وهل ستمنح نتائج الانتخابات القادمة - إن جرت- للحركة إمكانيةَ التحجيم أو التصدي لمشروع دحلان الذي فُتحت له أبواب غزّة، وساهمت بشكلٍ أو بآخر بمنحه الشرعيّة السياسيّة والدستوريّة؟ أم أنّ الحركة ترى في سلاحها وحاضنتها الشعبية قوّةً كافيةً وقادرةً على حمايتها من أن تكون على لائحة أهداف النظام الإماراتيّ الذي يناصب الإخوان المسلمين العداء على امتداد الوطن العربيّ؟ وهل سيكتفي دحلان الذي ينسب إليه إشعال الحرائق أينما حلّ وارتحل بشعار العمل الإنسانيّ والإغاثيّ والعمل لصالح غزة وأهلها؟ هذه أسئلة مهمةٌ وصعبةٌ، ويجب ألا يغفل عنها من يُدير شؤونَ القطاع، ولا أن يتعامى عن طرحها ومناقشتها مع حاضنته الشعبيّة التي تُعبر عن قلقٍ طبيعي ومتوقع من هذا المسار.