12 يناير 2024

رحلة تدمير الدبّابة 

رحلة تدمير الدبّابة 

نحو 6 ملايين دولار تراها عياناً تتحرّك بصخبٍ يزن 65 طنّاً على الشارع، بارتفاعٍ يقترب من الـ3 أمتار وعرضٍ يقترب من الـ4 أمتار، وطولٍ يصل إلى 9 أمتار. "عربة الرب" هذه، كما يُطلق الاحتلال الإسرائيلي على دبّابته "الميركافا"، على اختلاف نُسخها، كُسرت هيبتها بمجرّد أن وضع المجاهد على سطحها عبوة أو بمجرّد أن وقف بثباتٍ أمام جبروتها بقاذف محليّ الصنع. 

منذ اللحظات الأولى لمعركة "طوفان الأقصى"، أُحرقت أرتال من الدبابات الإسرائيلية المتواجدة داخل معسكرات جيش الاحتلال، كما استُهدفت بالمسيّرات القسامية. وبعد أن اجتاح الاحتلال أراضي قطاع غزّة بريّاً في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر وحتّى اليوم، لا تمضي أيام دون إعلان "الإعلام العسكري لكتائب القسام" فيديوهات وأخبارٍ عن استهداف الميركافا وتدميرها، حتّى تجاوزت آليات الاحتلال المدمّرة بشكل كلّي أو جزئي حاجز الـ1000 آليّة.   

هكذا، بعد أن شكّك مجاهدو غزّة بالنظريّات الأمنية الإسرائيلية حينما اخترقوا "الجدار الذكي" وسيطروا على مقرّات "فرقة غزّة" و"وحدة 8200"، شكّكوا بأعز ما تملكه "إسرائيل" من الأسلحة الحربية، والتي تعوّل عليها في حروبها البرية: "الميركافا". فما هي هذه الدبّابة؟ وما هو تاريخ استهدافها من المقاومة الفلسطينيّة؟ وبأيّ الأسلحة يجري تدميرها؟

الدبّابة الفائقة!

منذ تأسيس دولته، استورد الاحتلال العديد من الدبابات، كدبابة "سنتوريون" البريطانية ودبابة "باتون (المجاح)" الأميركية التي حسم بها حرب عام 1967. وخلال تلك السنوات، راكمت "إسرائيل" البناء على صورة سلاح المدرّعات الذي تملكه، بأنه سلاح لا يوقفه شيء وأنه قادر على الحسم في أرض المعركة. غير أنّها في أواخر السبعينيّات، شقّت طريقها نحو اختراع دبّابتها الخاصّة بها.

تعتبر دبابة "الميركافا" فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية منذ صناعة الجيل الأول منها عام 1979، ثم الأجيال المتعاقبة منها وصولاً إلى الجيل الرابع؛ الذي استخدمه الجيش الإسرائيلي في انتفاضة الأقصى وفي حرب لبنان 2006 وفي اجتياحات غزّة البريّة، والجيل الخامس؛ الذي أُعلن عنه صيف العام الماضي. 

تتميز "الميركافا" بنسخها المختلفة، تحديداً النسخ المتطوّرة منها، بميزات معقّدة جعلتها من أكثر الدبابات قوّةً في العالم. ومن هذه الميّزات نظام الذكاء الصناعي الخاص بها، والذي يمكّنها من إصابة الأهداف بدقّة، وإدارة ساحة العمليّات بكفاءة عالية، وحماية الجنود بداخلها عبر نظام يعترض الصواريخ قبل وصولها، والتحكّم في الحرائق، والرؤية الواسعة بـ 360 درجة، وهي مسلّحة بمختلف أنواع الذخائر. 

الوحدة "103".. بداية تحطيم الأسطورة

منذ الأسابيع الأولى لانتفاضة الأقصى عام 2000، حشد جيش الاحتلال دباباته واستخدمها في قصف قطاع غزّة والضفة الغربيّة، حتى أنه استخدمها في تفريق المظاهرات الشعبية وحماية قوافل المستوطنين أثناء تحركها خارج المستوطنات.

بالتزامن مع ذلك، كان القائد العام لكتائب القسام آنذاك، الشهيد صلاح شحادة، قد بدأ بترميم الجناح العسكري لحركة "حماس"، وكان من جهوده أن أسس المجموعة العسكرية "الوحدة 103"، والتي كان جل عناصرها من طلبة  "الجامعة الإسلامية" في غزّة، وضمّت الشهداء رامي سعد ووائل عقيلان وأحمد اشتيوي وتحسين كلخ والأسير المحرّر محمد الديراوي وآخرين.  

قامت المجموعة بعمليات إطلاق نار وزراعة عبوات ناسفة على طريق الدوريات العسكرية، غير أن عناصر المجموعة قد حطّوا خطاهم للسبق بأول عملية استهدافٍ لدبابة إسرائيلية في 22 كانون الثاني/ يناير 2001، عبر زرع عبوةٍ ناسفة تزن 40 كيلوغراماً، فأعطبوها وأصابوا طاقمها بالجراح. كما كان لهم السبق بتوثيق أول عمليّة مصورة لكتائب القسام، فكانت النواة الأولى للإعلام العسكري.

اقرؤوا المزيد: السابقون السابقون.. عن الأوائل من كل فعل

ولم تمضِ 6 أيام على العملية الأولى، حتى كان عناصر "الوحدة 103" يسابقون الزمن بنصب كمين من العبوات الناسفة لقافلة دبابات على خط مستوطنتي "نتساريم-كناري" سابقاً، فنُسفت دبابة بالكامل واُصيبت الثانية بصورة طفيفة، كما جاء في بيان الوحدة1بيان "الوحدة 103" حول الاستهدافين السابقين للدبّابات من أرشيف الباحث بلال شلش.

إحدى وصايا القائد العام لكتائب القسام الشهيد صلاح شحادة لعناصر "الوحدة 103". المصدر: بلال شلش.

نارٌ من تحت الأرض

عندما بدأت "الوحدة 103" في استهداف الدبابات، اعتمدت على نماذج العبوات التي صُنعت في بداية انتفاضة الأقصى. وهي عبوات أرضية، تزرع في طريق الدبابة المستهدفة، وغالباً ما تُدفن وتوارى بقليلٍ من التراب، ثم تُفجّر بواسطة دارة كهربائية متصلة بسلك مع زر التفجير بيد المجاهد. 

وفي الفترة الممتدة من عام 2001 وحتى عام 2003، كانت هذه العبوات السلاح الأبرز في يد فصائل المقاومة لاستهداف الدبابات. وفي عبوة من هذا النوع، دمّرت "ألوية الناصر صلاح الدين" في 14 شباط/ فبراير 2002 "ميركافا 3" على يد الشهيدين جمال أبو سمهدانة ومصطفى صبّاح، حينما زرعا عبوة ناسفة تزن نحو 100 كيلوغرام وفجّروها أسفل "الميركافا" قرب مفترق مُحرّرة "نتساريم" جنوب مدينة غزّة، فقُتل ثلاثة جنود إسرائيليين.

اقرؤوا المزيد: ألوية الناصر.. سيرة عسكرية لـ لجان المقاومة

وخلال عام 2002، نجحت كتائب القسام بتفجير 5 دبابات في عملياتٍ مختلفة. كذلك، فإنّه جرى إعطاب دبابة إسرائيلية بواسطة سلاح العبوات في الضفة الغربية، على أطراف مخيم جنين، في أول أيام معركة المخيم في نيسان/ إبريل 20022مخيم جنين أسطورة هزت العالم، غسان نزال، ص17..

"ألا إن القوة الرمي"

جاء عام 2003 حاملاً معه تقدماً فارقاً في الإمكانيات العسكرية لكتائب القسام، فمع صناعة قاذف "البتّار"، وهو قاذف مضاد للدروع محلي الصنع، إضافة إلى امتلاكها قذائف الـ (RPG)، قفزت عملية تفجير الدبابات الإسرائيلية من الزرع في الأرض إلى الرمي المباشر، لذا أصبحت الاجتياحات الإسرائيلية لقطاع غزة مكلفة للدبابات، إذ شهد عام 2003 إعطاب وتفجير أكثر من 38 دبابة ما بين صواريخ وعبوات تبنتها كتائب القسام3هذا الرقم بحسب بيانات تفجير الدبابات التي نشرتها كتائب القسّام في وقت سابق، وهو من أرشيف الباحث بلال شلش.

وما إن حل عام 2004، حتى أصبحت المقاومة على قدرٍ من القوة في القصف الصاروخي على مستوطنات غزة واصطياد الآليات العسكرية. وهو العام نفسه الذي وقعت فيه معركة "أيام الغضب"، التي اجتاح فيها جيش الاحتلال بيت لاهيا ومخيم جباليا وخانيونس بأكثر من 100 دبابة "ميركافا"، وقد نجحت فصائل المقاومة مجتمعة بصد الاجتياح، واستهدفت خلال ذلك كتائبُ القسام 22 دبابة وعدداً من ناقلات الجند

كما أُدخل إلى الخدمة في هذا العام، قاذف "الياسين" المضاد للدروع، والذي صُنع على يد الشهيد المهندس عدنان الغول، بمدى يصل إلى 200 متر فقط، وبقدرة على اختراق 16 سم من الحديد الصلب، كما جاء على لسان أحد مهندسي القسام في وثائقي "في ضيافة البندقية". أثبت "الياسين" قدرته على إعطاب الدبابات والتصدي لها في الاجتياحات الإسرائيلية المختلفة، غير أن إحدى المفاجآت التي حملها لنا "طوفان الأقصى" هي النسخة المطورة منه؛ "الياسين 105"، والتي تحتوي على قذيفة ترادفية مع مدى يصل إلى 500 متر، ويُعدّ هذا القاذف الأكثر استخداماً في استهداف "الميركافا" خلال الحرب الحالية.

ولقد استهدف القسّام آليّات الاحتلال ودبّابته في المعارك المختلفة التي اجتاح فيها الجيش الإسرائيلي قطاع غزّة بريّاً،  ففي معركة "الفرقان" (2008-2009)، استهدفت الكتائب الدبّابات والآليات الإسرائيلية بـ 98 قاذفاً وصارخاً مُضاداً للآليات، وفجّرت بالجنود والآليات 79 عبوة ناسفة. لاحقاً، تطورت عمليات الاستهداف الصاروخي للدبابات في معركة "العصف المأكول" عام 2014، والتي نجحت فيها العديد من عمليات تدمير "الميركافا" بقذائف "RPG29" وصواريخ "فونيكس".

من المسافة صفر

في ثاني أيام معركة "العصف المأكول"، مجموعة من "الكوماندوز البحري" القسامي، تسلّلت إلى "قاعدة زيكيم" العسكرية. وفي مشهد وثقته كاميرات المراقبة الإسرائيلية، تقدم الشهيد حسن الهندي إلى "الميركافا"، وألصق العبوة الناسفة على بابها الخلفي، ثم فجّرها. لقد أسّس الشهيد الهندي لهزيمة "الميركافا" من المسافة صفر، ليكون بداية عهد قادم من إلصاق عبوات "الشواظ" وعبوات "العمل الفدائي" بالدبّابات من النقطة صفر.

بعدها بأيّام، وفي 18 تمّوز/ يوليو، كثّف الاستشهاديان باسم الآغا وفادي أبو عودة من معنى هزيمة "الميركافا" من المسافة صفر، حيث انطلاقا نحوها وفجّرا أنفسهما فيها بواسطة عبوة ناسفة من نوع "تاندوم".

واتصالاً بهذا الإرث، بثّ "الإعلام العسكري" خلال معركة "طوفان الأقصى" مشاهد ملحميّة تظهر تقدم المجاهدين نحو "الميركافا" بكل جبروتها وسطوتها، لإلصاق العبوات عليها في مَهمّة "استشهاديّة"، وهم يحملون بين أيديهم موتاً محققاً، إذ تنفجر العبوة خلال ثوانٍ معدودة ملحقةً بالغ الضرر في الدبابة، وهو الوقت ذاته الذي يملكه المجاهد للانسحاب والابتعاد عنها. وقد استُخدمت في هذه العمليّات عبوتا "العمل الفدائي" و"الشواظ". 

تفوق عبوة "الشواظ" عبوة "العمل الفدائي" في الحجم والوزن، إذ دخلت الخدمة في نسختها الأولى عام 2005، على أيدي مهندسي كتائب القسّام، وصولاً إلى الجيل السابع منها خلال "طوفان الأقصى". وهي تزن 21 كيلوغراماً، وتخترق بين 60-65 سم من الحديد المصفح للآليات العسكرية، فتصير لهباً خالصاً كما في قوله تعالى: "يُرسَلُ عليكما شواظٌ من نارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران".

هدي السبيل

على مدار 23 عاماً، راكمت المقاومة الفلسطينية إعداداً هائلاً بأقل الإمكانات وأكثرها بدائيّة، لهزيمة هذا "الوحش" الذي تتباهى به "إسرائيل" أمام العالم: "الميركافا". 

بدأت المقاومة بهذه الرحلة الطويلة لتدمير أساطير الاحتلال من محاولاتٍ كان يُستهزئُ بها، غير أن ما نراه اليوم من قوة ضاربة للمقاومة هي مُحصلة هذه الجهود من الإعداد الطويل، والتي عُمّدت بدماء فاتحيها وشُيدت بتلك الأشلاء التي بُذلت في سبيل مواجهة الظلم لكسره.

على ذات الدرب تسيل دماء أبناء الكتيبة في شوارع الضفة الغربية، على وقع تصنيع العبوات وتفجيرها في آليات الاحتلال، فتُعطل سيرها، وتقتل وتصيب من الجنود، حتّى باتت هاجساً للاحتلال، تدفعه لتحريك جرّافاته كي تُأمّن الطريق، وتحليق مسيّراته كي تتجنّب وقوع جنودها في الكمائن. 

بهذه المسيرة ندرك أن أمر الله سبحانه بإعداد القوة في قوله: "وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل.."، يُقابَلُ بهدي السبيل في قوله: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وإنّ الله لمع المحسنين".