10 يناير 2019

معبر رفح

ابتزاز السّلطة الأخير لقطاع غزّة

ابتزاز السّلطة الأخير لقطاع غزّة

أعلنت الهيئة العامّة للمعابر والحدود مساء الأحد 6 يناير/ كانون الثانيّ عن سحب موظفيها من معبر رفح البريّ، وذلك بعد 13 شهراً من تسلّمها معابر قطاع غزة، تحديداً في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2017. وكان تسلّم الهيئة للمعابر حينها تطبيقاً لأحد بنود اتفاقية المصالحة بين حركة "فتح" و"حماس"، الموّقعة في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، والذي يقضي بتسليم موظفي الهيئة (التابعة للسّلطة في الضّفة) إدارة جميع المعابر.  

يُعتبر معبر رفح أحد أهم معابر قطاع غزّة، وهو شريان السّفر الأهمّ لمعظم سكان القطاع، خاصّةً أن السّفر عبر "معبر إيرز" المُسيطر عليه من قبل الاحتلال الإسرائيليّ، غير متاح إلا لبعض الشّرائح الاجتماعيّة، من التجار والمرضى، أو ممن نجحوا في الحصول على ورقة عدم الممانعة من المخابرات الأردنيّة للمرور عبر الأردن.

في العام 2005، وُقّعت اتفاقية المعابر بين السّلطة الفلسطينيّة ودولة الاحتلال، وكانت أول تنظيم قانونيّ مُتفق عليه لتنظيم عملية السّفر عبر معبر رفح بعد الانسحاب الإسرائيليّ من القطاع. نصّت الاتفاقية على إشراك مراقبين دوليين في تنظيم السّفر، ووجود متابعة أمنيّة إسرائيليّة على قوائم المسافرين ذهاباً وإياباً، بالإضافة لتواجد للأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة آنذاك عليه.

وقد تعرّضت الاتفاقية لانتقاداتٍ فلسطينيّةٍ شديدةٍ في حينه، فقد رفضتها معظمُ الفصائل نظراً لتماهيها مع الرؤية الأمنيّة الإسرائيليّة. مثلاً، كان من المعمول به إغلاقُ المعبر عند كل عملية أو حدث أمنيّ ضدّ الاحتلال، رغم انسحابه من غزّة آنذاك. فضلاً عن وجود قوائم منع أمنيّ تضمّ أعداداً كبيرةً من الفلسطينيين الذين ترفض دولة الاحتلال سفرهم.

استبشر أهالي القطاع خيراً بانسحاب الاحتلال من غزّة عام 2005، إلا أنّ المعبر استمر كأحد أهمّ أدوات التضييق عليهم، وخاصّةً بعد فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعيّة الفلسطينيّة في يناير/ كانون الثاني من العام 2006.

في العام 2007، كان المعبر مسرحاً لأهم أحداث الاقتتال الداخليّ بين حركتي "حماس" و"فتح"، حيث شهد اشتباكاتٍ عنيفةً على المعبر بسبب محاولة اغتيال إسماعيل هنية أثناء عودته عبر المعبر بعد جولةٍ خارجيّةٍ. فضلاً عن حادثة تفتيش سامي أبو زهري ومصادرة ما يقارب المليون دولار من قبل أجهزة الأمن الفلسطينيّة، وهي الأموال التي كانت "حماس" تحاول إدخالها لحلّ مشكلة الرواتب التي تفجّرت على إثر حصار الحكومة الفلسطينيّة العاشرة التي شكّلتها "حماس" بعد الفوز في الانتخابات.

بعد سيطرة "حماس" كاملاً على قطاع غزّة، تمّ تجاوز اتفاقية عام 2005، خاصّة بعد الانسحاب الأوروبيّ من المعبر، وهو ما أدّى إلى إغلاق المعبر بشكلٍ شبه كامل ما بين الأعوام 2007-2010. لاحقاً، عاد المعبر إلى الانتظام في العمل بشكل شبه يوميّ بعد الاعتداء على سفينة مرمرة في البحر المتوسط عام 2010.

الفترة الذهبيّة لعمل المعبر كانت بعد الثورة المصريّة في 2011، وتسلّم محمد مرسي للحكم على إثر الانتخابات الرئاسيّة في 2012. وبقي الأمر كذلك إلى تاريخ انقلاب الجيش المصريّ في يونيو/ حزيران 2013، العام الذي شهد معه وبعده أسوأ فترات عمل معبر رفح، إذ كان متوسط فتحه في السّنة، منذ ذلك الحين، من عشرين إلى ثلاثين يوماً، في ظلّ وجود عشرات آلاف العالقين الذين يحتاجون للتنقل لأسباب مختلفة كالتعليم والعلاج والعمل والإقامة وغيرها.

معبر رفح، لماذا الآن؟

في أبريل/ نيسان 2017، اتخذ رئيسُ السّلطة الفلسطينية محمود عباس إجراءات عقابيّة غير مسبوقة ضدّ القطاع. قلّص عباس من نسبة صرف رواتب موظفي السّلطة إلى 70%، وأحال آلاف الموظفين إلى التّقاعد المبكر، وأوقف التّحويلات العلاجيّة، وخفّض الميزانيات التشغيلية لوزارتي الصّحة والتّعليم، وقلّص كمية الكهرباء المحوّلة للقطاع من 120 إلى 80 ميجا، ليدخل القطاع في أزمةً طاحنةً مع الكهرباء أثرّت على كافة مناحي الحياة.

اشترطت السّلطة تراجعَ حركة "حماس" عن تشكيل اللجنة الإداريّة لتتراجع هي عن سلسلة عقوباتها على غزّة. ورغم أن "حماس" قدّمت التنازلات، كتنازلها عن إدارة معابر قطاع غزّة ووقف مقاصاتها الخاصّة1المقاصة هي الأموال التي تجبيها "إسرائيل" نيابة عن السّلطة الفلسطينيّة عن البضائع والواردات التي تدخل من وإلى للمناطق الفلسطينية عبر المنافذ البحريّة والبريّة التي تسيطر عليها، وتقوم بتحويلها  للسلطة الفلسطينيّة، وتُقدّر سنوياً بما نسبته من 10 إلى 11 مليار شيكل، وقد جرى تنظيم موضوع المقاصّة في اتفاق باريس الاقتصادي.. على معبر كرم أبو سالم، وأعلنت عن حلّ اللجنة الإدارية2اللجنة الإدارية، هيئة شكلتها "حماس" في فبراير/ شباط 2017 لإدارة المؤسسات الحكومية، بسبب ما اعتبرته الحركة عدم إيفاء حكومة التوافق التي جرى الاتفاق عليها في اتفاق 2014 بمهامها المكلفة بها، وقد اعتبرت "حماس" بأن اللجنة هي للرقابة والمتابعة وليست جسماً أو حكومة جديدة، وهو ما رفضته "فتح".، إلا أن العقوبات لم تتوقف، بل على العكس تضاعفت. بدا أنّ ذلك سلوكٌ جديدٌ تتبعه السّلطةُ لإخضاع غزّة لإرادتها السّياسيّة، وفي محاولة منها للسيطرة على غزّة وفق اتفاقية تتماهى مع مقاربتها السّياسيّة والأمنيّة.

ضمن هذا السّياق، سياق الإخضاع، تأتي خطوةُ السّلطة في سحب عناصرها من معبر رفح، أيّ رغبةً في الضّغط على "حماس" لأكبر قدرٍ مُمكن للعودة إلى مسار المصالحة وفق مطالب ورؤية حركة "فتح"، خاصّةً في ظلّ حالةٍ من التقدّم النسبيّ تعيشها الحركة حالياً، بعد التفاهمات التّي جرت في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني على وقع مسيرات العودة وكسر الحصار. ومع منع حركة "حماس" لمهرجان انطلاقة "فتح" في الأول والسّابع من يناير/ كانون الثانيّ، وجدتْ السّلطة الفرصة مواتية لوجود مناخٍ شعبيٍّ يتفهم هذه الخطوة كردّ على قرار المنع.

من ناحية ثانية، تأتي خطوة سحب الموظفين للضغط على النظام المصريّ الذي لم يستجب لمطالب السّلطة بتسليمها بوابة صلاح الدين3بوابة صلاح الدين، هي المنفذ الخاصّ بدخول الشّاحنات المحملة بالبضائع والمساعدات، تقع إلى الغرب من معبر رفح..، والتي أصبحت ممراً تجاريّاً يُمكِّن الجسمَ الحكوميَّ في غزّة من الصّمود بفضل الإيرادات التي يحصّلها من البضائع، خاصّة أن نسبة التّجارة عبر معبر كرم أبو سالم انخفضت، وهو الأمر الذي أضعف من قدرة السّلطة على الضّغط على "حماس"، وأعطى الأخيرة قدرةً أكبر على المناورة.

يعزّز هذا التحليل أن السّلطة لم تسحب موظفيها من معبري كرم أبو سالم وإيرز، واكتفت بسحب موظفي معبر رفح. وقد صرح عزام الأحمد  على تلفزيون فلسطين بالإشارة إلى إمكانية العدول عن قرار سحب الموظفين والعودة مُجدداً للعمل على المعبر، مما يشير إلى الرغبة بإعطاء فرصة جديدة للجهود المصريّة.

هل سيتجاوز الموقف المصريّ السّلطة؟

منذ أبريل/ نيسان 2017 تحسّنت علاقة "حماس" مع النظام المصريّ بشكلٍ واضحٍ، وذلك بعد التّفاهمات التي قامت بها الحركة مع تيار محمد دحلان، عدوّها السّابق وعدوّ الرئيس الحاليّ، إذ كانت الحركة بحاجة ماسة لهكذا علاقة على إثر الضغط الذي تعرضت له بسبب عقوبات محمود عباس، وخصوصاً في موضوع الكهرباء. أدّت تلك التفاهمات إلى إمداد محطة الكهرباء في غزّة بالسّولار المصريّ والذي تجاوزت فيه القاهرةُ بشكلٍ واضحٍ موقف السّلطة الرافض للتفاهمات.

زادت وتيرة التقارب بعد توقيع اتفاقية المصالحة مع السّلطة في نهاية 2017، إذ تمّ النظر لـ"حماس" بشكل أكثر إيجابية، وخصوصاً بعد تمكّنها من ضبط الحدود المصريّة الفلسطينيّة، وتعاونها مع المصريين فيما يتعلق بترتيبات المصالحة وإنجاحها. رافق ذلك تبلوّر نظرةٍ سلبيّةٍ -نوعاً ما- تجاه السّلطة وسلوكها مع غزّة، الأمر الذي جعلها تقرر منع جبريل الرجوب من دخول مصر، ورعايتها لمؤتمرات شبابيّة وشعبيّة في مصر تحت رعاية محمد دحلان، والضغط على السّلطة للتخفيف من إجراءاتها العقابية ضدّ غزّة.

ورغم أن مصر تُفضّل سيطرة السّلطة على غزّة وتمثيلها له بناءً على اتفاقية داخليّة معترف بها، إلا أن النظام المصريّ يرى حالياّ حركة "حماس" عنصراً هامّاً في معادلة الأمن في قطاع غزّة، ولديها مقدرة عالية على تفجير الحالة الأمنيّة فيها.

وبالتالي حاول المصريون احتواء الموقف عبر فتح معبر رفح بشكلِ شبه يوميّ، وخاصّة بعد 14 مايو/ أيار 2018، والذي كان ذروة مسيرات العودة خشية تدهور الأوضاع بسبب عدد الشّهداء الكبير في ذلك اليوم والذي فاق 60 شهيداً. إضافة إلى إعادة فتح بوابة صلاح الدين وإعطاء الجسم الحكوميّ في غزة سبيلاً لتمويل نفسه وليبقى قادراً على الوقوف على قدميه خشية انهياره في أي لحظة، وهو ما سيسبب مشاكل أمنيّة واسعة سواء تجاه العدوّ أو تجاه الحدود المصريّة.

وبالتالي، يُرجح أن الموقف المصريّ لن يكون في الغالب راضياً عن سلوك السّلطة تجاه قطاع غزة، سواء السّلوك المستمر منذ البدء في "منهج عقاب غزة" منذ أبريل/ نيسان 2017، أو عبر سحب موظفي السّلطة من المعبر للضغط على المصريين. وسيحاول المصريون ثني السّلطة عن خطوتها وإرجاعها للإشراف على المعبر مرة أخرى، أو الوصول لتفاهمات مع "حماس" في غزّة لإيجاد آلية لإدارة معبر رفح.

يسعى المصريون عبر ذلك إلى ضمان استمرار الهدوء، وهو الهدوء الذي تضغط "إسرائيل" على جميع الأطراف لبقائه. وفي ذات الوقت، تحاول مصر تجنب أيّ صداع قد تسببه السّلطة لمصر، في حال تجاوزها شرعية السّلطة المعترف بها إقليمياً ودوليّاً، أي في حال إيجاد هيئة مشتركة من الفصائل الفلسطينية أو من هيئات مستقلة في غزّة لإدارة المعبر. ويبقى التقدير، أنّ مصر في الغالب ستميل إلى ترجيح ثلاثة عوامل أساسية على حساب ضغوطات السّلطة في الضفة وتوجهاتها، وهي  الضغط الإسرائيلي أولاً، وأمنها القوميّ ثانياً، وتحسن علاقتها مع "حماس" ثالثاً.

وبالتالي فمن المتوقع تجاوز خطوة سحب موظفي معبر رفح من قبل مجموعة الأطراف الفاعلة في المشهد الغزيّ، فدولة الاحتلال بحاجة ماسة لأطول فترة من الهدوء في ظل التحضير للانتخابات في أبريل/ نيسان القادم، والنظام المصريّ ليس مستعداً للتعامل مع أزمة قد تنفجر مستقبلاً في غزّة، كما أن الجسم الفصائليّ في غزة أصبح أكثر وضوحاً في رفض خطوات السّلطة، وأكثر تقبلاً في تغطية أيّ فراغ قد تتسبب به.