مع بدء الحديث عن الانتخابات العامّة باعتبارها مدخلاً للمصالحة الفلسطينيّة وإنهاءً "للانقسام"، دار الجدل حول طبيعة هذا المسار وفرص نجاحه، بين متشكّك ومتفائل ورافضٍ للمسار كُليّاً. تركّزت النقاشات والانتقادات على خوفين: الأوّل، أن تُرسّخ الانتخابات "الانقسام" وتُعمّقه، وتُعزّز الفصل بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. والثاني، أن تُجرّ المقاومة الفلسطينيّة (تحديداً حركة "حماس") إلى فخّ يقود لتقديم تنازلاتٍ سياسيّة ولمزيدٍ من التكبيل للمقاومة وخياراتها.
غيرَ أنّ عمليّة تشكيل القوائم الانتخابيّة فتحت باباً آخر للنقاش، إذ نتجت عنها تغيّرات وتفاعلات لا على المستوى السياسيّ العام، بل على مستوى الفاعلين السياسيين أنفسهم؛ الفصائل الفلسطينيّة ومشتّقاتها. شهدت مُعظم هذه الفصائل قلاقل داخليّة، قد لا تكون هامشية، أظهرت إلى العلن عمق الخلافات فيها وتوازنات القوّة داخلها.
القشّة التي قصمت ظهر.. الديمقراطيّة
كانت "الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين" أوّلى الفصائل تأثراً بسباق الانتخابات، إذ تفجّرت الخلافات الداخليّة فيها على خلفيّة تجاوزاتٍ تخللتها عمليةُ اختيار المرشّحين للتشريعي. كانت هذه التجاوزات بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير الماركسي اللينيني، إذ اتُّهمت قيادة الجبهة المُتنفّذة برفض نتائج الانتخابات الداخليّة لأن الفائزين لم يكونوا على هواها، فانطلقت سلسلة من الاستقالات الاحتجاجية شملت أعضاءً في اللجنة المركزيّة وقياداتٍ بارزة وأسرى محرّرين، منهم: الأسير المحرّر عصمت منصور عضو اللجنة المركزية للجبهة، ونهاد أبو غوش مسؤول التثقيف في الجبهة في الضفّة الغربيّة، بالإضافة إلى الأسيرين المحررين عماد عصفور ولؤي نوفل.
ويبدو أن الاستقالات المُتتالية لكوادر الجبهة وقياداتها دفعت لجنتها المركزيّة للمُسارعة بتسجيل قائمتها الانتخابيّة في اليوم الأول للتسجيل، وقبل أي قائمة أخرى، كإشارة قوّة وتماسك. غير أنّ المُشكلة التي هي فيها أكبر من إخفائها بمثل هذه الإجراءات؛ مثلاً، تُشير التوقّعات إلى أنّ قائمة الجبهة الديمقراطية لن تتجاوز نسبة الحسم.
اقرؤوا المزيد: انتخابات 2021 .. المزيد من الأكسجين لمسار التسوية.
لا شك أن حالة التكلّس في الجبهة الديمقراطيّة قديمة ومُتجذّرة وعلى ذلك الكثير من الشواهد، أبرزها ثبات أمينها العام في موقعه منذ انطلاقتها قبل نصف قرنٍ تقريباً وحتى اليوم، وعدم تغيّر بعض أعضاء اللجنة المركزية فيها منذ ما يزيد على ثلاثة عقود. انعكس ذلك على مواقفها السياسيّة والاجتماعيّة، فلم تكن مواقفها السياسيّة مُنسجمة مع شعارات رفضها للمفاوضات و"أوسلو"، كما غابت عن دعم أو خوض أي نضال نقابيّ أو عماليّ منسجم مع أيديولوجيتها اليساريّة الماركسيّة.
مع ذلك، فإنّ ما جرى من استقالات واحتجاجات قد يُعبر عن بقايا حياة في جسد التنظيم وقواعده، وربما تؤدي لإعادة تأسيس أو إصلاح في قادم الأيام، وهو أمر يغيب عن تنظيمات أخرى فقدت أي علامات حيوية أو آثار حياة.
أمّ الجماهير.. وأبناؤها الكثيرون
أمّا حركة "فتح"، فتأثّرها المُستمرّ حتّى هذه اللحظة لم يُضاهيه تأثّر، فرُبّما لم تشهد منذ رحيل زعيمها ياسر عرفات مخاضاً مُماثلاً لما يجري معها اليوم. جاءت الانتخابات التشريعيّة ومشاورات تشكيل قائمة الحركة لتزيح الرماد عن جمر التنافس المُستعِرّ بين المحاور والمناطق والقيادات المُتنفّذة على خلافة الرئيس محمود عبّاس، والسيطرة على الحركة من بعده. تتوّج ذلك باحتجاجاتٍ غاضبة وإطلاق نار وبياناتٍ في مخيم قلنديا وقباطية وغيرها، واستقالات على خلفية تشكيل القائمة في بعض أقاليم قطاع غزّة. سبقت ذلك صراعات في إقليم القدس على خلفيّة تعيين قيادته بالتزكية، وتجاوز مجموعة من كوادر الحركة في المدينة، وكذلك في نابلس على خلفيّة الخلافات بين المناطق التنظيميّة في المدينة وريفها.
يبدو المشهد الفتحاويّ اليوم مفتوحاً على سيناريوهات مُتعدّدة يُهدّد بعضها بعضاً، وقد لا يكون القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان وتياره بالضرورة أبرز التحديّات التي تواجه الحركة. لقد رأى الأخير في الانتخاباتِ الحاليّة فرصةً لعودته إلى المشهد الفلسطينيّ الرسميّ من بوابة المجلس التشريعيّ، فحشد أنصارَه وقوّته التنظيميّة وسجّل قائمته الانتخابيّة مُنافساً حركة "فتح" على قطاعٍ من قاعدتها الانتخابيّة، طامحاً لما هو أكثر من ذلك.
اقرؤوا المزيد: دحلان.. سيرة "الأخطبوط".
كذلك بدت الانتخابات فرصةً لكلّ الغاضبين والرافضين لسيطرة الرئيس المُطلقة على "فتح" والسلطة والمنظمة؛ رفضٌ ليس بالضرورة أن يكون دافعَهُ الخلافُ على المشروع السياسيّ أو الانطلاق من رؤيةٍ وطنيّةٍ ونضاليّة جديدة، بل هو في الغالب خلافٌ على اقتسام السُلطة والصلاحيّات والنفوذ. في هذا الإطار جاءت تحرّكات ناصر القدوة عضو مركزيّة "فتح" المفصول مؤخراً، وسعيهِ لتشكيل المُلتقى الديمقراطيّ الفلسطينيّ وقائمة منبثقة عنه لخوض الانتخابات التشريعيّة.
قد لا يستطيع القدوة تشكيل حالة شعبيّة داخل "فتح"، فهو ليس قائداً جماهيريّاً، وإن كان يملك تأثيراً في أوساط بعض النخب الفتحاويّة والليبراليّة الفلسطينيّة. كما قد يستطيع أبو مازن إقصاءَه ومحاصرة تحرّكاته، لكنّ الأمر ليس بتلك السهولة في حالة مروان البرغوثي.
مروانُ، الغائبُ الحاضرُ على خارطةِ التنافس الداخليّ الفتحاويّ، يُمثّل تحدياً من نوع آخر لسلطة الرئيس عبّاس وسيطرته على الحركة وقرارها. يزيد مُضيّ البرغوثي في تشكيل قائمته الانتخابيّة بمعزل عن "فتح" الرسميّة، وعزمهِ الترشّح لانتخابات الرئاسة، من تعقيد الأوضاع الفتحاويّة وانقسام قواعد الحركة وازدياد حدّة التنافس والاصطفافات. إذ أنّ البرغوثي -بالحالة الشعبية التي حوله- ليس بالرقم السهل الذي يُمكن تجاوزه بسهولة أو إقصاؤه من الحركة أو عضوية هيئتها المركزيّة، فقد تترتّب على ذلك تبعاتٌ تخرج عن السيطرة.
اقرؤوا المزيد: مروان البرغوثي.. التأرجح على خلافات فتح.
وإن كان وجود البرغوثي في سجون الاحتلال يحدّ من نفوذه المباشر في مؤسسات "فتح" الرسميّة، لكنه في الوقت نفسه يمنحهُ أفضليةً نضاليّة -إن جاز التعبير- ما زالت جذّابة لقطاعات فتحاويّة وفلسطينيّة مُعتبرة، قد ترى في مروان مُنقذاً لـ"فتح". ولعلّ ما جرى في الساعاتِ الأخيرة من تحالفٍ بين البرغوثي والقدوة قد يُعوّض نقاط الضعف لدى كلّ منهما، فيُشكّلان مُنافساً مُعتبراً لعبّاس ومركزيّة "فتح".
ليس غريباً على حركة "فتح" ما شهدناه في الأيام الأخيرة من احتجاجاتٍ وتهديداتٍ وبياناتٍ وإطلاق نار، كما صرّح القيادي فيها منير الجاغوب، فلطالما أدارت "فتح" خلافاتها وفوضاها وصراع المصالح فيها بهذه الطريقة، إذ للحركة "نسختها الخاصّة" من الديمقراطية الداخليّة.
لكنّ وضع هذه الخلافات في سياق التسابق المحموم لاكتساب النقاط بين المتنافسين داخل "فتح" على خلافة الرئيس محمود عباس، والتهديد المُلح المُتمثّل بتيار دحلان، يُكسب الحالة خصوصيّةً وأبعاداً مُختلفة عن المعتاد. أمّا الشاهدُ على ذلك، هو أنّ "فتح" لم تكن لتصل إلى هذه النقطة الحرجة وتتفجّر جميع تناقضاتها دفعةً واحدة، لولا "مغرفة" الانتخابات التي استخرجت كلَّ الخلافات من قاع الطنجرة الفتحاويّة إلى سطح المشهد الإعلامي.
تختلف المسألة عند الشعبيّة وحماس
من بين الفصائل الفلسطينيّة الأكثر حضوراً وتأثيراً، تبدو كلّ من "الجبهة الشعبيّة" وحركة "حماس" أكثر تماسكاً من حيث استجابة بناها التنظيميّة للانتخابات. فقد قدّمت كلّ منهما قائمتها الانتخابيّة دون خلافات تذكر (في العلن على الأقلّ) حول الأسماء والترتيب، ولا حول آليات اختيار المرشحين التي بدا أنّها محلّ ثقة في أوساط كوادر التنظيميْن. رُبما يكون منبع هذا أنّ التنظيمين شهدا في السنوات الأخيرة حالةً من التداول للمناصب القياديّة، إضافةً إلى التماسك التنظيميّ والأيديولوجيً المعروف عنهما.
اقرؤوا المزيد: الانتخابات هي الحل، ولكن لأي مشكلة بالضبط؟
لكن الانتخاباتُ أحدَثَت لدى التنظيمين حراكاً على مستوى آخر، ففي حالة الجبهة الشعبيّة، طالبَ عددٌ من كوادرها وقادتها المعروفين بمقاطعة الانتخابات كونها تجري دون اتفاقٍ على برنامجٍ سياسيّ وطنيّ، وخوفاً من أن تقود لتعميق "الانقسام" وتجديد الشرعيّة للأوضاع الناتجة عنه. أمّا في حالة حركة "حماس"، فقد شهدت أوساطها نقاشاً ونقداً علنيّاً ليس معهوداً حول أسس المسار نفسه، وصوابيّة اتخاذ الانتخابات مدخلاً لـ "إنهاء الانقسام" بدلاً من الاتفاق على برنامج وطنيّ سياسيّ. كما تضمن ذلك النقاش اعتراضاتٍ على تنازل الحركة عن شرط التزامن في الانتخابات وقبول إجرائها مُتتاليةً.
لم تواجه "حماس" بسبب الانتخابات تحدّياً داخليّاً يؤثّر على تماسكها كما فصائل أخرى، فالتحدّي الذي تواجهه من خارجها: أوّلاً، ما هو مُتعلّق بحجم الفاتورة التي سيدفعها كوادرها في الضفّة لقاء العمل علناً، وهم الذين لم يكونوا تماماً في صورة اللقاءات والقرارات التي أدّت إلى المصالحة. ثانياً، أن يؤدّي مسار الانتخابات إلى ضغوطٍ على المقاومة تُفقدها بعضَ أو كلَّ مكتسباتها وقوّتها في قطاع غزّة، أو أن يُفضي ذلك إلى تقديم تنازلاتٍ سياسيّة، فتتراجع عمّا اعتبرته دوماً ثوابت لا يمكن المساس بها، مثل رفض شروط الرباعية والاعتراف بالاحتلال والاتفاقيات الموقّعة معه.
تجري السياسة بما لا تقتضيه المرحلة
من الصعب الحكم الآن على مآلات مسار الانتخابات وما يمكن أن تُفرزه من آثارٍ سواء على واقع مؤسسات السُّلطة الفلسطينيّة ومنظمة التحرير وخارطة النفوذ فيهما، أو على واقع الفصائل الفلسطينيّة نفسها. لكنّ المُرجح ألا تتمكن فصائل تاريخيّة ومُمثّلة في المنظمة من تجاوز نسبة الحسم في الانتخابات التشريعيّة، وهو ما سيُشكّل مقدمة لخروجها لاحقاً -إذا ما استمرّت الانتخابات- من مؤسسات المنظمة، إذ لم يكن حضورها هناك إلا بفضل عطايا رئاسة السلطة والمنظمة دون أن تمارس أي دورٍ أو تأثيرٍ يذكر.
لكن اللافت للنظر في هذا المشهد، والأهمّ، أنّ الفلسطينيين بمختلف تمثيلاتهم الفصائليّة، وهم في أصعب لحظات قضيتهم الوطنيّة، يُمارسون -عبر الانتخابات- عملاً سياسيّاً قد لا تتجاوز مفاعيله إعادة ترتيب المشهد الداخليّ أو رُبّما تثبيته، وذلك بدلاً من أن يمارسوا السّياسة على مستوى مشروعهم الوطنيّ، ويتفقوا على برنامجٍ نضاليّ جديد يكون مقدمةً لإعادة الاعتبار لقضاياهم الوطنيّة الكبرى، بما يليق بتحديات المرحلة!