28 يناير 2021

دحلان.. سيرة "الأخطبوط"

دحلان.. سيرة "الأخطبوط"

"هل تدرس واشنطن الدفع بمحمد دحلان كزعيمٍ فلسطينيّ جديد؟"، كان هذا سؤالاً وجّهته صحيفة "إسرائيل اليوم" للسفير الأميركيّ في "إسرائيل"، ديفيد فريدمان، خلال لقاء معه في سبتمبر/ أيلول 2020. أجاب السفير بالقول: "نُفكِرُ في ذلك، لكن ليست لدينا رغبة في هندسة القيادة الفلسطينيّة". وقبل أن تُعدّل الصحيفة الصياغة- على موقعها الإلكتروني-  إلى "لا نُفكّر بذلك"، أثار التصريح ردودَ أفعال غاضبة على ألسنة الناطقين باسم السُّلطة الفلسطينيّة، نافخاً من جديد في جمرٍ ما زال مُشتعلاً تحت الرماد. 

يرصد هذا التقرير محطاتٍ من حياة محمد دحلان، العقيد والنائب والقيادي المفصول من حركة "فتح"، ذي الألقاب الكثيرة التي كسبها طوال سنوات نشاطه فلسطينياً ودوليّاً.

من مخيم خانيونس إلى تونس 

وُلِدَ محمد يوسف دحلان في مخيّم خانيونس، جنوب قطاع غزّة، عام 1961 لعائلةٍ هُجِّرَت من قرية حمامة عقب نكبة 1948. في المخيّم، أمضى دحلان سنوات طفولته وأكمل دراستَه الأساسيّة، ثمّ سافر إلى مصر حيث درس التربية الرياضيّة وانتمى إلى صفوف "فتح"

لاحقاً، قطع دراسته وعاد إلى القطاع ليشاركَ في نشاطات الشبيبة الفتحاويّة، ذراع الحركة الطلابيّ، وفعالياتها داخل الأرض المحتلة. ما بين عاميْ 1981 و1985، تعرّض دحلان للاعتقال من قبل الاحتلال عدّة مرات بتهمة حيازة المنشورات التحريضيّة والانتماء لصفوف الشبيبة، ويُقدّر مجموع ما قضاه في السجون بخمسةِ أعوام. 

عام 1988، أبعد الاحتلال مجموعة من كوادر "فتح" إلى الأردن، وكان دحلان بينهم. من هناك، انتقل إلى ليبيا، ثمّ إلى تونس حيث التقى بياسر عرفات وتقرّب من الصفوف القياديّة الأولى في الحركة. وفي تونس بدأت قصة صعوده بانتخابه عضواً في المجلس الثوريّ للحركة.

يد السّلطة في البطش بالمقاومين

بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، وتأسيس السُّلطة الفلسطينيّة في مناطق الحكم الذاتيّ، بدأت قيادات "فتح" والمُنظمة بالعودة إلى قطاع غزّة والضّفة الغربيّة لتشكيل مؤسساتها. توّلى محمد دحلان قيادة جهاز الأمن الوقائيّ في القطاع؛ الجهاز الذي كان يدَ السُّلطة الضاربة في قمع حركات المقاومة والمعارضين، وقناة اتصالها مع الأميركيّين والإسرائيليّين. 

لمع اسم "العقيد" دحلان كأحد قادة الحملة الأمنيّة على حركتيْ "حماس" والجهاد الإسلاميّ عام 1996، والتي أدخلت قيادات الصّف الأوّل من الجناحيْن السياسيّ والعسكريّ في الحركتيْن إلى أقبية الوقائي. تلقّى الجهازُ خلال تلك الفترة اتهامات بالتعذيبِ والاختطاف والاعتقال دون محاكمة، واشتهرت في الوقائيّ "فرقة الموت" التي مارست العربدةَ والبطشَ والتصفيات الجسديّة بصلاحياتٍ مُطلقةٍ دون أيّ رادع. 

وسياسيّاً، انضم دحلان إلى اللقاءاتِ الأمنيّة مع الاحتلال لتطبيق عمليات إعادة الانتشار، وساعده إتقانه للغة العبريّة على إقامة علاقات مباشرة وشخصيّة مع عددٍ من ضباط وقادة الاحتلال. كما كان أحد أعضاء الوفد الفلسطينيّ في مفاوضات القاهرة، وطابا، ومنتجع واي ريفر بلانتيشن عام 1998، إذْ حضر الأخيرة الرئيسُ الأميركيّ الأسبق، بيل كلينتون، وأعرب خلالها عن إعجابه بشخصية دحلان.

خلال سنوات أوسلو الأولى، لم يقتصر دور العقيد الشّاب على قيادة الوقائيّ، بل تعداها إلى فرض هيمنته اقتصاديّاً من خلال جني الإتاوات والضرائب على المعابر التجاريّة كمعبر كارني. حسب وثائق صادرها جيش الاحتلال ونشر عنها معهد أبحاث إسرائيليّ، فقد أقام دحلان شبكةً واسعةً من العلاقات التجاريّة الاستثماريّة والاحتكاريّة للعديد من السلع الهامّة كمواد البناء والماشية وغيرها. 

العقيد الشاب وحلمُ الوراثة

جاءت انتفاضة الأقصى، فحاصرت "إسرائيلُ" عرفات ودمّرت مقار الأجهزة الأمنيّة وأعادت اجتياح الضفّة الغربيّة. لم يكن دحلان غائباً عن هذا المشهد، فقد زعمت بعض الاتهامات الإسرائيليّة أنّ له علاقات مُعلنة مع بعض كوادر العمل العسكريّ، وأنّه ساهم في تمويل عمليات ضدّ "إسرائيل" عبر جهازه الأمنيّ. وفي أعقاب العملية الفدائيّة التي نفّذها الضابطُ في الوقائي، الشّهيد بهاء الدين سعيد، داخل مستوطنة كفار داروم وسط القطاع مطلع الانتفاضة، دعا أريئيل شارون إلى اغتيال قيادات السّلطة، وفي مقدّمتهم دحلان

بالتوازي مع هذه الاتهامات، وعن طريق توظيفها كذلك، تعزّزت أحلام "أبو فادي" وطموحاته السياسيّة الجامحة ومحاولة موضعة نفسه كـ"القائد الفلسطينيّ البديل"، فبدأ مُبكِراً صدامه مع عرفات، حاملاً لواء "الجيل الشّاب" بمواجهة "الحرس القديم" في الحركة. كان دحلان يسعى لتعزيز نفوذه داخل السّلطة وداخل "فتح" والوصول إلى منصب وزير الداخليّة؛ بل بدأ- مبكراً- تداولُ التحليلاتِ عن خطّته لوراثة عرفات. 

لم تكد الانتفاضة تُكمِل عامَها الأوّل حتى قدَّم دحلان استقالتَه من رئاسة الأمن الوقائيّ في غزّة، احتجاجاً على ما سمّاه "طريقة إدارة عرفات للملفيْن الأمنيّ والتنفيذيّ"، ومُطالِباً بدمجِ الوزارات والأجهزة الأمنيّة وإقصاء الفاسدين حسب تعبيره. حاول عرفات استرضاءه بمنصب "مستشار الأمن القوميّ" عام 2002، لكنّه عاد واستقال منه كذلك، وبرّر ذلك بالقول إنّ "خياراته كانت بين البقاء صامتاً، أو إغضاب عرفات".

لم يَـغِب دحلان طويلاً عن السّاحة، فضمن الضغوط الأميركيّة على عرفات، والشروط لرفع الحصار عنه وللعودة إلى المفاوضات، استُحدث عام 2003 منصبُ رئيس الوزراء، فتشكّلت حكومة جديدة يرأسها محمود عباس، ويتوّلى فيها دحلان حقيبة الدولة للشؤون الأمنيّة. لكن بعد 4 شهور تقريباً، أسقط عرفات هذه الحكومة التي حاولت انتزاع صلاحياته، وأسند رئاسة الوزراء لأحمد قريع، ثمّ وجّه ضربةً جديدة لدحلان بتعيين عدوّهِ اللدود، اللواء موسى عرفات، قائداً للأجهزة الأمنيّة في قطاع غزّة. 

في العام التالي، وتحديداً منتصف 2004، كان عقال المواجهات المسلّحة في غزّة قد انفلت، بين عناصر الأمن الوقائيّ وبعض مجموعات "كتائب شهداء الأقصى" الموالية لدحلان من جهة، وباقي الأجهزة الأمنيّة ومجموعات الكتائب الموالية لعرفات من جهةٍ ثانيّة. وقع خلال المواجهات قتلى وجرحى، وسيطر أنصارُ دحلان على عدد من المقارّ الحكوميّة بقوّة السّلاح، خاصّةً في خانيونس: معقله وخزّان مؤيّديه البشريّ. شهد القطاعُ خلال ذلك فوضى سلاح عارمة، وصفها أنصار عرفات بأنّها محاولة انقلاب على الرجل المحاصَر، وأثنى عليها دحلان بوصفها احتجاجاتٍ مشروعة ضدّ الفاسدين في السّلطة، مُشيراً إلى أنّ اتهامه بإدارة الأحداث "شرفٌ لا يدّعيه".

اقرؤوا المزيد: "الانتخابات هي الحلّ"، ولكن لأيّ مشكلة بالضبط؟

في نوفمبر/ تشرين الأول 2004، توفي عرفات. وفي يناير/ كانون الثاني 2005، فاز محمود عباس برئاسة السّلطة، وفي العام نفسه انسحبت "إسرائيل" من قطاع غزّة. أصبح دحلان حينها الرجل الثاني في حركة "فتح" والسّلطة الفلسطينيّة، والرجل الأول في قطاع غزّة. اكتمل المشهد بإحالة الرئيس عباس قادةَ الأجهزة الأمنيّة السّابقين للتقاعد. ثم تلَت ذلك عمليّات تصفية قُيّدت ضدّ مجهولين، وعلى رأسهم موسى عرفات- الذي أحاله عبَّاس إلى التقاعد قبل أن يتمَّ اغتياله في منزله بعد حصاره من عشرات المسلحين1كان عباس قد أقال عرفات وبعض القادة الأمنيين الذين تجاوزت أعمارهم الستين سنة في إطار ما عُرِف بـ"برنامج إصلاح أجهزة الأمن الفلسطينية"، لكنه عيّنه لاحقاً مستشاراً عسكريّاً.، إضافةً للاعتداء على اللواء غازي الجبالي، قائد الشّرطة السابق في القطاع.

محمد دحلان، وزير الداخلية آنذاك، يلتقي بوزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول في أريحا، خلال جولة قام بها الأخير ضمن مبادرة "خارطة الطريق" الأميركية لعملية السّلام. مايو 2003، ريكاردو مازالان، GettyImages

انتخابات 2006

ثمّ جاء عام 2006، فتعرَّضت طموحات دحلان ومخططاته لانتكاسة كبيرة بفوز "حماس" في الانتخابات التشريعيّة، وبخسارته الشخصيّة لرئاسة كتلة "فتح" البرلمانيّة أمام مُنافسه عزام الأحمد. لم تكد تمضي شهورٌ على تشكيل "حماس" لحكومتها، حتى كان التسجيل الصوتيّ الشهير لدحلان "خمسة بلدي" يملأ هواتف الفلسطينيّين ومنتدياتهم على الإنترنت. 

استهدفت سياسة "الخمسة بلدي"، التي كان دحلان عرّابها، إسقاطَ حكومة "حماس" الوليدة، فتحوّلت شوارعُ القطاع إلى ميدان حرب، لا يخبو فيه صوتُ الرصاص وعمليات الاختطاف والإعدامات على الهوية بين أجهزة السُّلطة ومجموعات حركة "فتح" المسلحة من جهة، وبين الذراع العسكريّ لـ"حماس" وقوتها التنفيذيّة من جهة أخرى. انتهت المواجهات بسيطرة "حماس" على قطاع غزّة عام 2007، ومغادرة دحلان- الذي كان المطلوب الأول لها بوصفه قائد التيار الانقلابي- ومعه عددٌ كبير من كوادر "فتح"، غادروا إلى مصرَ والضفّة الغربيّة. 

مُحمّلاً بإرث الصّراع مع عرفات والاتهامات بالمسؤولية عن خسارة غزّة لصالح "حماس"، وبعداءاتٍ شخصيّة مع شخصيات وازنة من "فتح" الضفّة، وصلَ دحلان إلى رام الله. وهناك، نجح بالفوز بعضويَّة اللجنة المركزيّة لحركة "فتح" خلال مؤتمرها السّادس، وتولّى مفوضيّة الإعلام والثقافة.

الصّراع مُجدداً في رام الله

بعد أقلّ من عاميْن، وتحديداً عام 2010، انفجر الصّراع بين دحلان وحليفه السّابق محمود عباس. تعود جذور الصّراع بينهما، إلى ثلاث قضايا رئيسيّة:  أولاً، جهود دحلان للتغلغل داخل الأجهزة الأمنيّة ومؤسسات السُّلطة، ومحاولته خلق تشكيلات مسلّحة في مخيّمات الضفّة الغربيّة، كمخيميْ الأمعري في رام الله وبلاطة في نابلس. وثانياً: تحريضه على رئيس الوزراء آنذاك، سلام فيّاض، والادعاء بأنّ ناصر القدوة "أحقّ منه". أمّا ثالثاً، فقد حاول دحلان التدخّل لإسناد حقائب وزاريّة في حكومة فيّاض لعددٍ من المقرَّبين منه، سعياً لتعزيز نفوذه. 

بلغت التوترات ذروتها عام 2010، عندما شكّلت اللجنة المركزيّة لحركة "فتح" لجنة تحقيق للبحث في اتهامه بـ"إثارة التوترات في الحركة والسّلطة"، والتحريض ضدّ أبو مازن والإساءة له ولأولاده. وقد صدر القرار بتجميد عضويته إلى حين انتهاء التحقيق، ثمّ صدر قرارٌ بفصل دحلان من "فتح" وإحالته إلى النائب العام على خلفيّة اتهامات بالفساد. تلا ذلك اقتحام قوات الأمن في رام الله لمنزله بحي الطيرة في يوليو/ تموز 2011، واعتقال مرافقيه ومصادرة سيارات مصفّحة وكميّات كبيرة من السلاح والذخائر.

أنصار دحلان يرفعون صوره خلال مسيرة لإحياء ذكرى تأسيس حركة "فتح"، غزّة، ديسمبر 2018. مجدي فتحي\NourPhoto

كانت تلك المداهمة آخرَ محطات دحلان في رام الله، التي غادرها إلى الأردن ثم الإمارات، ملاحقَاً بقرارات قضائيّة، منها الحكم عليه غيابيّاً بالسجن 3 سنوات بتهمة الفساد. إضافةً إلى مطالبات للإنتربول باعتقاله، واتهامات بالعمالة لـ"إسرائيل"، وتلميحات إلى دوره في تسميم عرفات، شارك فيها عباس شخصياً، وعلى الهواء مباشرة.

أخطبوط المؤامرات في الإمارات 

إلى قصور أبو ظبي وصل محمد دحلان عام 2011 للعمل كمستشارٍ أمنيٍّ لحاكمها محمد بن زايد، لتبدأ من هناك حكاية الاخطبوط الذي تصل أذرعه وعلاقاته إلى كلّ مكان. إذْ ذاع صيتُ الرجل مع بدء موجات الثورات المضادة، وأصبح اسمه يتردّد في كلّ ساحات الصراع.

اقرؤوا المزيد: "إسرائيل" - الإمارات وبالعكس.. تحالف ضدّ من؟

في مصر، ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية ملامح من دور دحلان في تخطيط وتنفيذ الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، مُسلّحاً بالدعم الإماراتي الماليّ لحركة "تمرّد"، والاحتجاجات التي رافقت انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013. جاء هذا الاتهام في الوقت الذي يواظب فيه دحلان خلال لقاءاته الصحفيّة مع وسائل الإعلام المصريّة على الإشارة إلى علاقته المتينة بالسيسي، مؤكداً أنّه "يؤدي بعض الواجبات التي لا يعلنها تجاه مصر". وقد وصلت تلك "الواجبات" إلى حدّ تكليف السيسي لدحلان بالتفاوض نيابةً عن مصر في ملف أزمة سدّ النهضة، كما ذكرت صحيفة "نيوزويك"

ومن مصر إلى ليبيا، إذْ حقّقت المحكمة الجنائية الدوليّة في دوره بقمع الثورة فيها، وبالتواطؤ مع سيف الإسلام القذافي في توريد السّلاح لمليشيات والده، والاشتراك في جرائم قتل جماعيّة. وقد اتهمه محمد المقريف، أمين العام الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبيا، بقيادة الثورة المضادّة بالشركة مع خليفة حفتر

ثمّ مروراً باليمن، إذ أشارت التقارير الإعلاميّة إلى دوره في الوساطة بين الإمارات و شركة الأمن الأميركية الخاصّة، "Spear Operations"، لتشكيل فِرَق موتٍ تُنفّذ عمليّات اغتيال لشخصيات سياسيّة ودينيّة مُقرّبة من حزب الإصلاح اليمنيّ. ثمّ إلى تركيا التي أدرجته على لوائح المطلوبين بعدّة تهم، منها التجسس والتخطيط لمحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، والمشاركة في اختطاف الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، وقتله. 

وقطاع غزّة ليس من ذلك ببعيد، حيث أطلق دحلان يدَه لتشكيل هيكلٍ تنظيميّ لتياره تحت سمع وبصر "حماس"؛ عدوه السابق. وقد جمعت الطرفيْن "المصلحةُ المتبادلة" في ظلّ الأوضاع المأساوية التي يعيشها القطاع المحاصر، فتدخَّل دحلان لصالح حصول القطاع على تسهيلات مصريّة ونفّذ مشاريع إغاثيّة بأموال إماراتيّة وذلك مقابل "التسهيلات" التي لاقاها أنصارُه في غزة. وبينما يعبث دحلان في الإقليم والعالم أجمع، فإنّه يبقى الغائب الحاضر في السّاحة الفلسطينيّة، والذي يُذكر مع كلّ مرَّة يُطرح فيه سؤال: "من هو القائد الفلسطيني المقبل؟".