"الأزمة في طريقها اليوم إلى الحلّ"، بهذه الكلمات "بَشَّرَ" الشّيخ واصف البكري، نائب قاضي القضاة في القدس وعضو مجلس الأوقاف الإسلاميّة، يوم أمس الثلاثاء الفلسطينيين القلقين على مصير مبنى باب الرحمة شرقيّ المسجد الأقصى المبارك.
نبدأ بعرض قصير لتسلسل الأحداث؛ يوم الأحد 17 فبراير/ شباط، انتبه الفلسطينيون إلى سلسلةٍ حديديّةٍ (جنزير) وضعتْها شرطةُ الاحتلال على الباب الحديديّ الصغير الذي يؤدّي إلى درجٍ يُنزل منه إلى مبنى باب الرحمة. يبدو أن تلك السلسلة الحديديّة الإسرائيليّة جاءت ردّاً على قيام أعضاء مجلس الأوقاف الإسلاميّة، الذي شُكّل ووُسِعَت تركيبته من 11 إلى 18 عضواً الأسبوع الماضي، بالصّلاة داخل مبنى باب الرحمة ظهر الخميس الماضي 14 فبراير/ شباط. وهي الواقعة التي قيل إن رئيس دائرة الأوقاف الإسلامية عزّام الخطيب قد استُدعي للتحقيق عند شرطة الاحتلال على إثرها، إلا أن ضغوطات عُليا ألغت الاستدعاء.
في اليوم التالي، الاثنين 18 فبراير/ شباط، ودون انتظار لنتائج اتصالاتٍ أو ضغوطاتٍ دبلوماسيّةٍ أُخرَى، أخذ المقدسيون زمام الأمور فصلّى عددٌ منهم الظّهر عند باب الرحمة في بادرة احتجاج على الخطوة الإسرائيليّة. ختم الشّبانُ صلاتَهم بخلع الباب الحديديّ من "مفاصله"، لا خلع السّلسلة الحديديّة الإسرائيليّة، في ترميزٍ واضحٍ إلى جذر المشكلة؛ الإغلاق الإسرائيليّ لباب الرحمة، لا مجرد السّلاسل على مدخله أو هوية واضعها. لم يضرّ الشّبان في ذلك أنّ أفراد الشّرطة كانوا يُراقبونهم ويُصوّرونهم، ومن ثمّ ضربوا عدداً منهم واعتقلوهم، وهو مشهدٌ من المواجهة غابت عنه وجوهُ أعضاء مجلس الأوقاف الإسلاميّة.
عادت تلك الوجوه للظهور يوم أمس الثّلاثاء 19 فبراير/ شباط، عندما أفاد البكري في فيديو مصوّر أمام باب الرحمة أن "الاتصالات الحثيثة أثمرت"، وأن الاحتلال تراجع عن وضع السّلسلة الحديديّة، وأن الأوقاف ستقوم -وقد قامت فعلاً- بإعادة تركيب الباب -الذي اعتقل الشبان لخلعه- ووضع قفلها هي لا قفل الإسرائيليين، وبالتالي "عودة الأمور إلى ما كانت عليه"، أي إلى ما كانت عليه قبل يومين فقط. إلا أنَّ عمرَ تلك الأزمةِ في مقياس الوقائع على الأرض وفي مقياس الناس، أكثرُ من يومين، إنّها "أزمةٌ" بدأتْ منذ العام 2003 تقريباً، إن لم يكن من اليوم الأول للاحتلال عام 1967.
رجوعاً إلى هذا العمر الطويل للـ"أزمة"، وسعياً لاستثمار اللحظة، وجد المقدسيون في حادثة خلع الباب الحديديّ المؤدّي إلى مبنى باب الرحمة فرصةً ذهبيّةً يمكن استغلالها لتجميع النّاس ومراكمة الغضب الشّعبيّ، وبالتّالي إنهاء "الأزمة"، هذه المرّة من جذورها. بناءً على ذلك، استمرّ الشّبان بالتوافد إلى باب الرحمة، وبلغ عددهم الذروة عند صلاتيّ المغرب والعشاء ليلة أمس الثلاثاء، وهو ما انتهى باعتداء شرطة الاحتلال عليهم واعتقال أكثر من 20 شاباً، ما زال بعضهم موقوفاً حتى اللحظة.
رغم الاعتداء ليلة الثلاثاء والاستنفار العسكريّ الإسرائيليّ، صلّى المقدسيون الظهر والعصر والمغرب والعشاء مرة أخرى اليوم الأربعاء عند باب الرحمة. لم تكن من بين المصلين على مدار اليومين أي من شخصيات مجلس الأوقاف، فيما اكتفوا بإصدار بيان اليوم الأربعاء، أكدوا فيه على "رفض جميع الإجراءات والقيود التي فرضتها سلطات الاحتلال على حرية العبادة والصلاة في مصلى باب الرحمة". أضاف البيان أنّ المجلس "كلّف المستشار القانوني إبلاغ سلطات الاحتلال على الفور بقرار المجلس بأنه لن يتوانى عن القيام بمسؤولياته في ترميم مصلى باب الرحمة والصلاة فيه".
في قراءة أوليّة سريعة لتطوّر الأحداث، لا يغيب عن المراقب أن المجتمع الفلسطينيّ في القدس ينتظر بلهفة اللحظة التّاريخية التي يُمكن أن تتراكم من بعدها كُرة الثلج، ليعود إلى الشّارع لأجل مجابهة مخططات الاحتلال في القدس عامًة وفي الأقصى خاصّةً، كما حدث في هبّة باب الأسباط صيف 2017. كانت هبّة باب الأسباط فعلاً نضاليّاً جماعيّاً التفّ حوله أهالي القدس بمختلف أطيافهم، وقدّموا في سبيله ما استطاعوا من تضحيات بدءاً بوجبات الطعام وصولاً إلى الغالي؛ دماء أبنائهم وأعمارهم في سجون الاحتلال، ونجحوا في ختامه بالحصول على مبتغاهم.
في ضوء هذا الاستعداد الشّعبيّ لمعركة جديدة عنوانها استعادة باب الرحمة وحمايته من جماعات المعبد وشرطة الاحتلال، تتباين المؤشرات حول موقف مجلس الأوقاف الإسلاميّة. من جهةٍ، قد تبدو الأوقاف في بعض تصريحاتها الإعلاميّة جادّة في نيّتها العمل على استعادة مبنى باب الرحمة وتحدّي إغلاقه -مع الحذر في تبني ذلك-، فها هو مجلسها الجديد يبدأ أول أعماله بإقامة الصّلاة داخل المبنى. كما تبدو تصريحات بعض وجوه الأوقاف وبيان الأوقاف الأخير -المذكور أعلاه- داعمين في هذا الاتجاه.
إلا أن مؤشرات أخرى، وهي الغالبة، تدلّ على التردد والتحفظ والإبقاء على مستوى منخفض من الاستعداد للمواجهة، لا بل والمراوحة في أداء دور الوسيط الذي تلعبه ولعِبَتْه دائرةُ الأوقاف ومجلسها في حالات مشابهة سابقاً؛ الوسيط الذي يسعى لإحلال "الهدوء" والحفاظ عليه في المكان المقدّس، الوسيط بين غضب الناس وبين قامعهم، والذي يعتمد استراتيجية المناشدات والضغوطات الدبلوماسيّة وتأجيل المعارك طريقاً لمواجهة تحدياته، وهو ما تجلّى صباح الثلاثاء في المحاولة المبكّرة لتدارك إمكانية التصعيد ومحاولة إنهاء "الأزمة" عند حدّ تغيير القفل، لا أكثر.
في مقابل ذلك، يبقى التعويل، كما هو دائماً، على النبض الشّعبيّ الذي أثبت تاريخياً قدرتَه على تحمّل المسؤولية، فيما تبقى الأوقاف مرتبطةً بما يأتيها من توجيهات رسميّة، وهي توجيهات يتحقق التوازن معها، ومن ثم الغلبة عليها وفقاً لما يُمليه الشّارع في نهاية الأمر ووفقاً لما يدفع الناس بجهدهم ونواياهم الخالصة باتجاهه.
لمحة تاريخيّة عن باب الرحمة
يقع باب الرحمة في السّور الشّرقي للمسجد الأقصى، وهو سورٌ مشترك للمسجد ولبلدة القدس القديمة في ذات الوقت. يبعد البابُ مسافة 200 متر تقريباً عن باب الأسباط الواقع في السّور الشّماليّ للأقصى.
يبلغ ارتفاع باب الرحمة 11 متراً ونصف، وهو باب مزدوج يتكوّن من بوابتين؛ هما باب التّوبة شمالاً، وباب الرحمة جنوباً، فيما يُسمّيه الغربيّون البابَ الذهبيّ. وفي ذاكرة الناس، يُطلق على الباب أسماءٌ أخرى منها اسم "توما توما"، لسبب لم يتأكد منه الباحثون.
يقع الباب على ارتفاع أقلّ من ارتفاع مستوى ساحات المسجد الأقصى، ولذلك يتم الوصول إليه نزولاً عن طريق درجٍ طويلٍ، وهو الدرج الذي تم تكسير بابه الحديديّ يوم الاثنين الماضي. يُشار إليه عادة بالقول "مبنى باب الرحمة"، أولاً لأنه ضخم وأكثر من مجرد باب، وثانياً لكونه يضمّ في معماره قاعة واسعة تصل مساحتها إلى ما يقارب 200 متر مربع.
فيما يقع إلى الغرب من هذا الباب المسجد الأقصى بساحاته ومصلياته المختلفة، تقع إلى الشّرق منه، وعلى تماسٍ وتلاصقٍ تامّ معـه ومع سور المسجد، مقبرة باب الرحمة، التي تصل مساحتها ما يقارب 23 دونماً، وتُعدّ من أقدم المقابر الإسلاميّة في القدس. دُفِن في مقبرة باب الرحمة العديد من صحابة الرسول عليه الصّلاة والسّلام، أشهرهم شدّاد بن أوس وعبادة بن الصّامت، اللذيْن دُفِنَا فيها في القرن السّابع الميلاديّ، أي قبل ما يقارب 1400 سنة، بالإضافة إلى الأعيان والعلماء والمجاهدين على مختلف الفترات الإسلاميّة المُبكّرة والمتأخرة، وصولاً إلى اليوم.
وأسفل باب الرحمة ومقبرته يقع الوادي الشّهير الذي يفصل البلدة القديمة ومسجدها الأقصى عن جبل الزيتون، جبل الطور، وهو وادي جهنم، أو وادي قدرون.
يُرجع غالبية الباحثين تاريخ عمارة الباب كما هو موجود في شكله الحاليّ إلى الفترة الأمويّة، وبذلك يُعد من أقدم أبواب المسجد الأقصى، خاصّةً أن غيره أبواب جُدّدت في الفترة العثمانيّة. عدا عن كونه من أقدم الأبواب عمارةً، فهو أبرز أبواب المسجد المغلقة، التي يصل عددها في حساب البعض خمسة أبواب (الباب الثلاثي، باب الجنائز، الباب المزدوج، الباب المنفرد، وباب الرحمة)، وفي حساب البعض سبعة أبواب بإضافة بابين أمويّين يقعان أسفل مستوى المسجد الأقصى اليوم.
أما عن إغلاقه، نُقلت حول ذلك العديد من الروايات اختلفت فيما بينها في سبب الإغلاق وفي زمنه، وصلت بعضها حدّ التّحليلات الشّخصيّة بعيداً عن الدقة والمعلومة التّاريخيّة. إحدى الروايات المشهورة هي أن من أمر بإغلاقه هو القائد صلاح الدين الأيوبيّ بعد تحريره المدينة من الصّليبيين، لأسباب عسكريّةٍ كحماية المدينة، أو أسباب اقتصاديّة سعياً لدفع الناس لدخول الأقصى من الأبواب الأخرى التي يستلزم الدخول منها المرور من أسواق القدس، وبالتّالي حصول المنفعة التجاريّة لأهل المدينة، على عكس باب الرحمة، الذي يعني الدخول منه الوصول مباشرةً إلى الأقصى.
وفقاً للباحث في تاريخ المسجد الأقصى وصاحب كتاب "معالم الأقصى تحت المجهر"، إيهاب الجلّاد، فإنّ المُرجح من تلك الروايات والآراء هي أن الباب أغلق في المرحلة الأولى في فترة ما غير معلومة على وجه الدقة في الفترة الإسلاميّة المُبكّرة، أي ما بين الفترتين العباسيّة والفاطميّة. وأنّ هذا الإغلاق جاء عن طريق سدّ فتحات بابي الرحمة والتوبة، بواسطة بوابات خشبيّة مُصفّحة تم تشميعها، وأنّ ذلك جاء بالأساس بهدفٍ دينيٍّ، تجسيداً للآية الكريمة من سورة الحديد: "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضُرِبَ بينهم بسورٍ له بابٌ باطنُه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب".
يضيف الجلاد أن الباب الخشبيّ المغلق في الفترة الإسلاميّة المبكِّرة كُسي من الداخل، أي من جهة المسجد الأقصى بصفائح من نحاس كنايةً عن النّور والرحمة، وأنه كُسِيَ من الخارج من جهة الشّرق، أي من جهة وادي جهنّم بصفائح من حديد كناية عن الظلام.
حُوّلت القاعة داخل باب الرحمة بعد سدّه من الجهتين، إلى مصلى، ووفق المقدسيّ صاحب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" سُمّي حينها "مشهد النور". وفي فترات إسلاميّة مختلفة شهدت المنطقة نشاطاً علمياً، منها افتتاح المدرسة النصرية فيه، وخلوة الإمام الغزالي فيه حيث ألف جزءاً من كتابه المشهور "إحياء علوم الدين".
يُكمل الجلّاد ما يرى أنّه الرأي الراجح فيقول أن البوابات الخشبيّة ظلّت على ما عليه من تشميع وإغلاق، حتى استُبدِلت في الفترة العثمانيّة بالحجر، وهكذا أُغلِق باب الرحمة بالحجارة وسُدَّ نهائياً حتى يومنا هذا.1"معالم المسجد الأقصى تحت المجهر، إيهاب الجلاد، مركز بيت المقدس للأدب، 2017، ص 178-180.
باب الرحمة مركزاً للنشاط الإنساني والدعويّ
بعد حرب عام 1948، شغلت مكاتب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) قاعة مبنى باب الرحمة، وكان اللاجئون يفدون إليه لاستلام المؤن التي توّزعها الوكالة. بعد حرب الـ67، استمرّ استخدام قاعة باب الرحمة كمُصلى وكمُعتكف في بعض الأحيان. كما استخدمتهُ كليةُ الدعوة وأصول الدين، التي هي اليوم جزء من جامعة القدس، كمكتبةٍ لطلابها الذين كانوا يداومون في جامع النساء، أو ما يُعرف اليوم بـ"مكتبة المسجد الأقصى".
ما بين العام 1990-2003، شهد مبنى باب الرحمة أوّج ازدهاره، وكانت منطقته عامرةً بالتواجد الفلسطيني، إذ استخدمته لجنة التراث الإسلاميّ. نظّمت اللجنة انطلاقاً من مقرّها داخل باب الرحمة نشاطات متنوعة، بعضها دعويّة الطابع، اشتُهر منها "درس الخميس". كذلك كانت اللجنة مسؤولة عن بعض مهام الإعمار والعناية بالمسجد الأقصى، كمشاركتها في فتح المصلى المروانيّ وإخراج الأتربة منه عام 1996، ومسؤوليتها عن السّقاية في المسجد.
في العام 2003، أصدرت سلطات الاحتلال قراراً عسكريّاً بإغلاق منطقة باب الرحمة والامتناع عن استخدام قاعاتها، وأعلنت لجنة التّراث الإسلاميّ تنظيماً محظوراً.
منذ ذلك الحين، أُغْلِقَ مبنى باب الرحمة، واقتصرَ استخدامُ القاعة فيه على نشاطاتٍ محدودةٍ، منها فتحها في فترة امتحانات الثّانوية العامّة "التوجيهي"، لاستخدامه كقاعة امتحانات لطلاب المدارس الشّرعية داخل الأقصى، ومنها استخدامه في احتفالات عامّة لمديرية التعليم الشرعيّ وغيرها. في ظلّ هذا الإغلاق، انقطعت أقدام المصلين عن المنطقة، وأصبحت مساحةً "فارغةً" جاهزة لانتهاكات المقتحمين من المستوطنين.
ولتثبيت قرار الإغلاق العسكريّ عام 2003، في سبتمبر/ أيلول 2017، وبعد أسابيع قليلة من هبّة باب الأسباط المعروفة، قدّم القائد العامّ لشرطة الاحتلال روني ألشايخ طلباً للمحكمة الإسرائيلية بالبت في قضية إغلاق باب الرحمة بقرار قضائي نهائي.
جماعات المعبد والمنطقة الشّرقيّة
منذ 2003 وحتى اليوم، مرّت أكثر من 15 سنة تصاعد خطاب جماعات المعبد في سعيها لتعزيز تواجد نشطائها في المسجد الأقصى المبارك وتطوّرت أدواتها. شهد هذا التطور ذروته منذ العام 2015 وصولاً ليومنا هذا؛ بعد أن حظر وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك موشيه يعلون ما سُمّي إسرائيلياً "تنظيم المرابطين والمرابطات" في سبتمبر/ أيلول 2015. بعد ذلك، مُنِعت مجالس العلم داخل المسجد الأقصى، وتعرضت النساءُ والرجالُ من مرابطي الأقصى لرزمة متنوعة من الملاحقات الأمنيّة، منها الاعتقال، والتحقيق، والإبعاد عن الأقصى.
في ضوء ذلك، تعيش جماعات المعبد حالة من النشوة والرخاء، مكّنتها من إدخال أعداد أكبر من المقتحمين للمسجد الأقصى، ترافقهم قيودٌ أمنيّةٌ إسرائيليّةٌ تكاد تكون معدومة، سمحت في أحيانٍ كثيرةٍ بأداء بعضهم الصّلوات اليهوديّة داخل المسجد وغيرها من الاعتداءات.
ضمن هذا التصاعد من اقتحامات المستوطنين تقع منطقة باب الرحمة، أو ما يُسمّى بالمنطقة الشّرقيّة في صلب الاستهداف، إذ يؤمنون أن البوابة الرئيسة للهيكل الثاني كانت في الجهة الشّرقيّة، وأن صلاتهم يجب أن تكون من هناك، ولذلك، تشكّل المنطقة الشرقيّة جزءاً رئيساً من مسار الاقتحام. في إحدى الزوايا في المنطقة الشّرقيّة، وعلى بعد أمتار قليلة إلى الجنوب من باب الرحمة يقف المستوطنون؛ ظهرهم لسور الأقصى ووجوههم باتجاه الصّخرة المشرفة تماماً. في تلك النقطة تماماً، يستغلون اختباءهم وراء أشجار الزّيتون الكثيرة في المنطقة، وقلّة الناس، بأداء صلواتهم وإن بشكل سريّ وبتمتمات غير مسموعة أحياناً.
وعليه، كرر الفلسطينيون دعواتِهم لتكثيف التواجد في المنطقة الشّرقيّة وبالقرب من باب الرحمة بالذات، في محاولة لصدّ المخططات الإسرائيليّة. في رمضان الأخير مثلاً، يونيو/ حزيران 2018، وبالذات في ليلة القدر، بادر المصلون والمعتكفون من مختلف أنحاء فلسطين إلى تنظيف وترتيب المنطقة الشّرقية، مستغلين أن المسجد في العشر الأواخر من رمضان يكون عامراً بالناس، وتقلّ فيه حالات تواجد الشّرطة والمستوطنين.
زرع المعتكفون الأشجار، ورتّبوا الأحجار وأزالوا أكوام التراب من بعض المواقع، ودعوا الفلسطينيين إلى إقامة إفطاراتهم الرمضانيّة وفيها، والسّلام على أحبابهم في يوم العيد في منطقة باب الرحمة، في محاولة لإلقاء الضّوء على هذه المساحة المهددة وإعمارها بالنّاس.
صباح الاثنين 18 يونيو/ حزيران 2018، وفور انتهاء عطلة عيد الفطر، قامت شرطة الاحتلال بتخريب بعض الحجارة والكراسي الحجرية التي وضعها الفلسطينيون خلال الأيام الأخيرة من رمضان، وخلعوا الأشجار التي زُرِعت حديثاً. بالتوازي مع ذلك وضعت شرطة الاحتلال الإسرائيليّ نقطة مراقبة دائمة على سطح مبنى باب الرحمة، يتواجد فيها شرطيان اثنان خلال الفترة التي تتم فيها الاقتحامات، أي من السّاعة 7 صباحاً حتى الثانية ظهراً تقريباً (وفي عض الأحيان تكون دائمة، كمثل هذه الأيام). في مقابل هذه النقطة الإسرائيليّة، نقطة حراسة فلسطينيّة تابعة للأوقاف يشغلها حارس فلسطيني 24 ساعة.
تبعاً لذلك، يتعرض من يتواجد في منطقة باب الرحمة، خاصّة في فترة اقتحامات المستوطنين، لاحتمالات الطرد من المكان أو الاعتقال، حتى يبقى المستوطنون مستفردين في تلك المنطقة لوحدهم، وهو ما يدفع الناس لتسميته بـ"التقسيم المكانيّ" للأقصى.
اليوم، يُشكّل تواجد الفلسطينيين لإقامة الصّلاة والاحتجاج في منطقة باب الرحمة تحدّياً لما يُشبه حالة "منع التجوّل" التي تسعى شرطة الاحتلال لفرضها في تلك المنطقة، وتذكيراً لهم بأن أي خطوة إسرائيلية مُتقدمة في مسجدهم لا بد أن تواجه من فورها، فما تم السكوت عنه في عام 2003 يتراكم ويعود إلى ساحة المواجهة مجدداً.