19 مارس 2023

كيف هو العراق بعد 20 عاماً؟

كيف هو العراق بعد 20 عاماً؟

في 20 آذار/ مارس من كلّ عام، تحلّ ذكرى عقدين على تدشين الولايات المتحدة الأميركيّة، رفقة تحالف من عدة دول في مقدمتها بريطانيا، حرباً لغزو العراق. على وقع هجمات 11 سبتمبر، والسير خلف طموحات المحافظين الجدد، أرادت واشنطن أن تُظهر عينها الحمراء للعالم. 

يقول وليام بيرنز، المدير الحالي للاستخبارات الأميركيّة (CIA) ونائب وزير الخارجية سابقاً، في كتابه "القناة الخلفية": "اعتبرت إدارة بوش الابن أنَّ الإطاحة بطالبان عام 2001 حدثت بسرعة كبيرة وبسهولة، وأنه لا بد من توجيه ضربة أخرى أكبر لردع الخصوم وإعادة تأكيد الهيمنة الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة، ولبدء تحوّل جديد في المنطقة بأكملها". 

لذا، كان العراق هو المحطة الثانية في الانتقام الأميركي بعد أفغانستان؛ انتقامٌ سيقت له حجج عديدة مثلَ إحياء صدام للبرنامج النووي العراقي، وضلوعه في أحداث سبتمبر، وهي ادعاءات ثبت زيفها لاحقاً. 

اهتزاز العرش الأميركي

وعدت المعارضة العراقيّة في لندن، على لسان أحمد الجلبي، باستقبال الجيش الأميركي بالورود على أبواب بغداد، ولكنّ ذلك لم يحدث. لقد غاصَ الغزاة في وحلٍ عميق، وتعرَّضوا لاستنزافٍ كبيرٍ على يد المقاومة العراقيّة، مما كبّد القوات الأميركية وحدها أكثر من 4400 قتيل، ونحو 32 ألف إصابة، مع كلفة ماليّة تتجاوز الـ 800 مليار دولار

أبو غريب، العراق، مقاومون عراقيون يحتفلون أمام قافلة عسكريّة أميركية محترقة على مشارف مدينة الفالوجة. (وكالة الصحافة الفرنسية).
نيسان 2004، أبو غريب، العراق، مقاومون عراقيون يحتفلون أمام قافلة عسكريّة أميركية محترقة على مشارف مدينة الفالوجة. (وكالة الصحافة الفرنسية).

دفع كلّ ذلك واشنطن للانسحاب رسميّاً من العراق بحلول عام 2011، وإبقائها على أعدادٍ محدودة من القوات بحجة تدريب الجيش العراقيّ، إذ أسفرت الحربُ عن تدهورٍ في الوضع الاستراتيجيّ لأميركا، وذلك باعتراف كبار المسؤولين، مثلَ بيرنز الذي قال:

"لقد اختفت لحظةٌ أميركيّة دامت نصفَ قرنٍ في الشرق الأوسط، ورثناها عن البريطانيين... إنّ التخلي عن نهج الحذر والجرأة في عهد بوش الأب لصالح مزيجٍ كارثيّ من التشدد والغطرسة في عهد بوش الابن، أفسد فرصةً تاريخيّةً لإعادة رسم دور أميركا في العالم، وبدلاً من تشكيل نظامٍ جديدٍ بنجاح، ضاعفنا الاختلالات الإقليمية وقوّضنا نفوذنا… وأدّى الإرهاق بعد ما يقرب من عقدين من الحرب إلى تغذية الرغبة في تحرير الولايات المتحدة من قيود التحالفات والشراكات القديمة وتقليل الالتزامات الخارجيّة... فيما سمّمت الصورُ البائسة للمحتَجَزين في سجن أبو غريب صورةَ أميركا ومصداقيتها، كما أصبح العراقُ نقطةَ جذبٍ للجهاديين".

أما مارك إسبر، وزير الدفاع في عهد ترمب، فتحدّث في مذكراته بلغةٍ عسكريّةٍ عن تداعيات الحرب في العراق على القوّة الأميركيّة: 

"لقد وجدنا أنفسَنا في وضع ضمورٍ استراتيجي بعد عقدٍ ونصفٍ رَكَّزنا فيه على مكافحة الإرهاب والدوريات الراجلة ونقاط التفتيش، دون إيلاء الاهتمام اللازم بمتطلبات قتال خصمٍ مثل الصين وروسيا".

اقرؤوا المزيد: معركة عضّ الأصابع: إيران في مذكرات بومبيو

وعلى الرغم من تواجد نحو 2500 جنديٍّ أميركي في العراق حالياً، إلا أنَّ واشنطن لم تعد صانعةَ السياسات الوحيدة فيها، إذ تزاحمها طهران في ذلك. وقد عبّر بومبيو، وزير الخارجية الأميركي السابق، في مذكراته عن هذا الواقع بقصةٍ شخصيّة: 

"في عام 2017، التقيتُ برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في قصره، وطرحت عليه سؤالاً: إذا قدمت الولايات المتحدة دعماً مالياً للعراق، فهل سيتوقف عن استيراد الكهرباء من إيران بدلاً من فرض عقوبات أميركية على شبكة الكهرباء العراقية؟ فأجاب العبادي: السيد الوزير، عندما تغادر سيأتي قاسم سليماني لرؤيتي، ويمكنك أن تسلب مني أموالي، بينما سليماني سيسلب مني حياتي".

تفتيت العراق

اتَّسم النظام الجديد في العراق بالهشاشة، لأنّ تأسيسه كان على يد المحتل، دون أن يولدَ كنتاجٍ لخيارٍ شعبيٍّ حُرّ. فعلى سبيل المثال، يحكي زلماي خليل زاد، السفير الأميركي السابق في العراق، في مذكراته كيفية اختيار نوري المالكي رئيساً للوزراء في عام 2006: 

"كُلِّفت مجموعة صغيرة في السفارة باستطلاع السير الذاتية لعشرات الشخصيات السياسية العراقية... كانت هذه المجموعة تقول على سبيل المزاح، إني أريد منهم إيجاد کرزای عراقي، وكانوا مُحِقّين في ذلك... ذات صباح، دخل جيف بيلز الموظف الشاب في وزارة الخارجيّة مكتبي حاملاً ملفاً من السير الشخصيّة، وقال: ماذا بشأن نوري المالكي؟".

أما كوشنر، كبير مستشاري ترمب، فيذكر أنّه التقى عام 2017 برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي: 

"الذي أخذ على محمل الجد تصريحات ترمب بأنّه يريد من الدول الأخرى أن تدفع حصةً أكبر من تكلفة الدفاع الأميركي عنها. وقد أبدى العبادي استعداده لتقديم 20 % من عائدات النفط العراقيّ لواشنطن مقابل الدعم العسكريّ الأميركي". 

اقرؤوا المزيد: ماذا تكشف مذكرات كوشنر عن اتفاقيات التطبيع؟

عمليّاً، فإنَّ الإطاحةَ بنظام صدام حسين، وحلَّ الجيش العراقيّ واستبداله بجيشٍ جديدٍ قوامه عناصر المليشيات والجماعات الشيعيّة العراقيّة المعارضة، وبالتزامن مع بناء نظامٍ سياسيٍّ جديدٍ يقوم على المحاصصة الطائفيّة والعرقيّة، أدّى كلّ ذل إلى تمزيق أوصال العراق. فمثلاً؛ يتمتع الأكراد في الشمال بحكمٍ ذاتيّ، وفي المناطق ذات الأغلبية السنيّة تزداد الشكاوى من المظالم الطائفيّة وحوادث القتل والاختطاف المُمَنهج من طرف الأجهزة الأمنيّة والحكوميّة. وهو ما ساهم في تحوّل الاحتجاجات العشائريّة السلميّة عام 2013 إلى حراكٍ مُسلّح، أدّى إلى انبعاث تنظيم الدولة مجدداً، وصولاً إلى إعلانه الخلافة عقب سيطرته على مدينة الموصل عام 2014، غير أنّها لم تدم سوى سنوات معدودة إثر تدخل تحالفٍ دوليٍّ لدعم الجيش العراقيّ والحشد الشعبيّ والقوات الكرديّة في مواجهة التنظيم، مما أسفر عن موجةٍ جديدةٍ من التدمير والتهجير في الحواضر السنيّة في العراق.

الفالوجة، العراق، تشرين الثاني 2004، جنود من سلاح البحرية الأميركية يبحثون في الشوارع عن مقاومين بعد سيطرتهم على حوالي 70% من المدينة. (Getty Images).

على المستوى الشيعيّ الداخلي، ازداد حجم التشظي والنزاعات بمرور الوقت، بالأخصّ بين مقتدى الصدر وأتباعه ممن عارضوا نظام صدام من داخل العراق، وأطرافٍ شيعيّةٍ أخرى عادت إلى العراق من طهران ولندن ودمشق رفقة الاحتلال الأميركي. كما لعبت عوامل مثل التنافس بين الشيعة العرب والفرس، ومرجعيات "النجف" و"قم"، دوراً في تأجيج الخلافات البينيّة. ساهم هذا في تشكيل ثلاث حكومات مختلفة منذ عام 2019، فيما تكرّرت حوادث الاقتتال بين المكونات الشيعيّة المختلفة، وكان آخرها العام الماضي بين "سرايا السلام" التابعة للصدر وقوى "الإطار التنسيقي" المحسوبة على إيران.

وفي الشمال، فشل مشروع الاستفتاء على استقلال كردستان عام 2017، نظراً للرفضيْن الإيرانيّ والتركيّ، وهو ما وظّفته حكومةُ بغداد للسيطرة على مدينة كركوك من البشمركة، ولا زالت الخلافات حاضرةً بين بغداد وأربيل حول عائدات حقول النفط ومناطق النفوذ. بينما تتواصل العملياتُ العسكريّة التركيّة والإيرانيّة ضدَّ الجماعات الكرديّة المناوئة للبلدين، والتي تتخذُ من كردستان العراق معقلاً لها.

أما عامّةُ السكان في العراق، فيشتكون من انتشار شبكات الفساد والمحاباة، وتردي الخدمات الحكوميّة، وصولاً إلى انقطاع الكهرباء خلال فصل الصيف لعدة ساعات يومياً في بلدٍ مُنتج للنفط، وهو ما جعل الاحتجاجات المتكرّرة مظهراً معتاداً في الشارع العراقيّ. وفي حين هاجر بضعة ملايين إلى الخارج، انتشرت مخيمات النزوح في الداخل منذ حقبة القتال العنيف بين تنظيم الدولة والحكومة العراقيّة.  

بغداد، العراق - 21 تشرين الثاني 2019، آلاف المتظاهرين العراقيين خلال احتجاجهم في ميدان التحرير ضدّ الفساد الحكوميّ واحتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية وانتشار البطالة (Getty Images).

تعاني الحكومةُ أمنيّاً من تفلّت المليشيات المُسلّحة المنخرطة ضمن المكونات الأمنيّة والعسكريّة، وهو ما يوضّحه مثلاً حادث إلقاء القبض على 14 عنصراً من كتائب حزب الله العراقيّ بحجة ضلوعهم في استهداف القواعد المشتركة للجيشين الأميركيّ والعراقيّ، من قبل قوات جهاز مكافحة الإرهاب في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، إذ اقتحمت عناصر من الكتائب مقرَّ جهاز مكافحة الإرهاب، وأجبروا الكاظمي على الإفراج عن كافة الموقوفين، كما استهدفوا منزله بطائراتٍ مُسيّرة في رسالةٍ توضّح مدى نفوذهم داخل عراق ما بعد الاحتلال. 

مركز للتصدير 

قادت الإطاحة بنظام صدام حسين إلى التخلص من الثقل العسكريّ الرئيس الموازن لإيران في المنطقة، وهو ما أقرّ به محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيرانيّ، في مذكراته "سعادة السفير": 

"إنَّ حرب بوش على العراق وأفغانستان وإضعافهما، تسبّبت في تحوّل إيران إلى القوّةِ الأساسية في المنطقة". 

وقد استثمرت طهران في العراق الجديد عبر تمكين الجماعات الموالية لها من المناصب السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة في الدولة، وبدأت في تطوير برنامجها النوويّ، وتعزيز نفوذها الإقليمي. واحتلت بذلك في المنظور الخليجي والإسرائيلي المرتبة الأولى في التهديد بدلاً من النظام العراقي البعثيّ. 

وقد تحوّل العراق أيضاً إلى ساحة تبادلٍ للرسائل العنيفة بين إيران والولايات المتحدة، فقرب مطار بغداد اغتالت واشنطن عام 2020 العقل الاستراتيجي للمشروع الإيراني قائد فيلق القدس قاسم سليماني، رفقة قائد كتائب حزب الله العراقي أبو مهدي المهندس، وردَّ الحرس الثوري بقصف القوات الأميركيّة في قاعدة "عين الأسد" في العراق بصواريخ بالستية، دون أن يعبأ أيا منهما بمفهوم سيادة العراق.

كانون الثاني 2021، بغداد، العراق، رجلان عراقيان يسيران أمام جدارٍ يحمل آثار ثقوب الرصاص، وبذلك في مبنى قريب من مطار بغداد، حيث قُتل قاسم سليماني. (Getty Images).
كانون الثاني 2021، بغداد، العراق، رجلان عراقيان يسيران أمام جدارٍ يحمل آثار ثقوب الرصاص، وبذلك في مبنى قريب من مطار بغداد، حيث قُتل قاسم سليماني. (Getty Images).

كذلك أدَّت حقبة الاحتلال إلى تبلور ظاهرة التنظيمات المسلحة، سواء في شقها السنّي المتمثّل في تنظيم الدولة، الذي لعب دوراً سلبياً في المشهد السوريّ بعد اندلاع الثورة، بينما طالت هجماتُه باريس وبروكسل واسطنبول وبرلين، أو في التنظيمات الشيعيّة العراقيّة، التي امتدَّ نشاطها إلى سوريا للقتال بجوار نظام الأسد وقمع الثورة، وانخرطت فيما تسمّيه طهران بـ"محور المقاومة" الممتد من صنعاء إلى بيروت. وهو ما يعني أنَّ العراق أصبح بمثابة مركز تصديرٍ للجماعات المسلحة إلى المناطق المجاورة. 

المستقبل الصعب

إنّ مشاهد اقتحام المنطقة الخضراء ومقرّ البرلمان العراقيّ بشكلٍ متكرّر، واستمرار عمليات القتل على خلفيّة الهوية، واندلاع اشتباكاتٍ مُسلّحةٍ بين بقايا خلايا تنظيم الدولة والقوات الحكوميّة العراقيّة، وتواصل الصراعات الشيعيّة البينيّة، واستمرار الخلافات بين حكومتي بغداد وأربيل، وشكوى السُنَة من تراكم المظالم، وتعرّض القواعد الأميركية للقصف على يد جماعات موالية لطهران، وتبادل الرسائل الأميركيّة الإيرانيّة العنيفة على الأراضي العراقيّة، وقصف "إسرائيل" المتكرر لمواقع وقوافل لوجستية متجهة من العراق إلى سوريا… 

كلّ ذلك يشير إلى أنّ الأميركان لم تكن غايتهم بناء نظامٍ جديد مستقرّ، بل تحويل العراق إلى بؤرةٍ للصراعات المختلفة التي تضمن استمراره مفكّكاً، ما يتيح لواشنطن التلاعب به وبغيره من الدول العربيّة.