5 أكتوبر 2018

مُقابلة السنوار ومقابلة واقع "حماس" في غزّة

مُقابلة السنوار ومقابلة واقع "حماس" في غزّة

أجرى رئيسُ مكتبِ "حماس" السياسيّ في غزّة، يحيى السنوار، مقابلةً مع الصحافيّةٍ الإيطاليّة فرانشيسكا بوري، على أساس أنّها كانت ستُنشر في صحف دولية. غير أنّه، في الوقت ذاته، كان يعلم أنّ المقابلة ستُترجم إلى العبرية. يتّضح ذلك من إجابته على السؤال الأخير، إذ يتوجّه إلى مُحاوِرَتِه قائلاً: "مقالاتُكِ تُترجَم إلى العبرية" -حسب ترجمة "الجزيرة.نت" للحوار.

هذا لا يعني، بالضرورة، أنّ لدى "حماس" مشكلةً بشأن مقابلة الصحافة الإسرائيلية. إذ قامت بذلك قياداتٌ حمساويّة مؤخّراً. كما أنّ السنوار نفسه، قابل صحافيّاً إسرائيلياً داخل السجن.

إنْ كانت الحركة تجدُ في مُخاطبة الإعلام الإسرائيلي، هدفاً تُريد تحقيقه، فإنّ عليها شرح ذلك، بدلاً من إصدارِ بيانٍ توضيحيّ، هو في حدّ ذاته، يحتاجُ إلى توضيح. إذ ساهم هذا البيان في زيادة الإرباك، الذي يَسِمُ أداءَها الإعلامي، فليس من المعقول أن تجري مقابلةُ شخصيّةٍ قياديّة، بدون تعاقدٍ قانونيّ معروف، يحدّد بدقّة، أين ستُنشر المقابلة؟ وكيف ستستخدم المادّة؟ هذا بغضّ الطرف عن أنّ البيان نفسه، لا يُصدر موقفاً محدّداً وواضحاً، فيما يخصّ مُقابلة الإعلام الإسرائيلي.

ملاحظتان أوّليّتان

قبل الحديث عن مضمون المُقابلة وسياقها، ثمّة ملاحظتان حول هوسنا المستمرّ بإثارة الأمور على هذا النحو. الأولى: أنّنا نستغّلُ أخطاءَ "حماس"، بِنيّة مُضمرة، تسعى لإثباتَ المسافةِ المتساوية التي نُريدُ لها أن تفصلنا عن خياري "فتح" و"حماس"، طرفا السياسة الفلسطينية الرئيسيّان، بما يُؤمّن لنا استقلالاً مُتوهّماً عن طرفين غير متساويين بالضرورة، مُتجاهلينَ فكرةَ مفادها أنّ: ليس من طلب المقاومة فأخطأ، كمن طلب التنسيق الأمنيّ فأصاب.

تكمنُ الملاحظة الثانية، في أنّ كلّ التنازلاتِ تحدثُ في ظروفٍ يعمّ فيها التسليم والثقة بالقيادة. ثقةٌ تجعلُ من التاريخ الشخصيّ لصاحب الخطأ، فكرةً تُستخدم كسوطٍ جَلْدٍ، بيدِ كلّ من تلمّس انحرافاً ما عن المسار. من غير المقبول أن يكون التاريخ الشخصيّ، مقياساً وحيداً لقياس صحّة المسار، لأنّ أبطال التنسيق الأمني اليوم، يحملون تاريخاً مسلّحاً كذلك.

من هذا المنطلق، ستبقى مسألة من "طلب المقاومة"، خاضعةً لمراقبة الناس، فلا حصانة لأحدٍ يستمدّها من تاريخه، بل بمقدارِ ما يفعل الآن، وكيف يُراكم على تاريخه من أجل مُستقبلٍ تحرّريّ نُريده، أو نتخيّله.

إنّه أمرٌ يجعلُ الأعصابَ مشدودةً تُجاه ما تقول وأين تقول ذلك. فكلّ ما يُقال تحت الضغط، وفي لحظات الضعف، يُصبح، بالضرورة، وثائقَ لمراحل قادمة. ليس صحيحاً أنّ من ثاروا في وجه المُقابلة، هم من خصوم "حماس" السياسيين فقط، أو ينتمون لأولئك الذين يتصيّدون فرصاً لمهاجمة المقاومة، مع أنّ هؤلاء موجودون، وبكثرة.

وجودُ هؤلاء لا يجب أن يُلغي اعتراضاً صادقاً تُواجهه الحركة، حول الاستهانة بمُخاطبة الإسرائيليين، أو "المجتمع الدولي"، وتمرير رسائل لهم. 
في الوقت ذاته، يجبُ أن يكون أيّ خطأ للمقاومة، موضوعاً لنقدنا، لأنّها تخصّنا بشكل فرديّ وجماعيّ. إذ أنّ الذين يُفضلون تمرير الأخطاء، والتغاضي عنها، لا يختلفون كثيراً عن الذين لا يرون غير أخطاء المقاومة. التوجّهان لا يهمّهما الاشتغال، ولا تحقيقُ الإرادة التحرّرية.

حول مضمون المُقابلة

فيما يتعلّق بمضمون المقابلة. إنّنا أمامَ مقابلةٍ ذكيّة بالفعل، تتفوّق على تصريحات الرجل السابقة للإعلام العربي. كما أنّها تتفوّق على مقابلات قياداتنا الفلسطينية المعروفة، التي يكون غرضها الأوحد: الاستجداء، دون أيّ تلويحٍ يُذكر لفعل القوة.

لقد وازنت أقوال السنوار، بشكلٍ معقول، بين ما هو ثابت في حركة تحرّر، وما هو متغيّر، ومرّرت ما هو إنسانيّ في إطارٍ سياسيّ ناظم. أمرٌ ساهم في أن لا يرتدّ الخطابُ إلى مشكلة الحصار وحدها، بل تمكّن من وضعها في إطارٍ أوسع لتصوّر سياسيّ عام.

لدى "حماس" مأزقٌ أكبر من التواصل مع الصحافة. مأزقٌ يقبعُ في صلب فكرة أنّها "رايةُ" رفضنا الأخيرة. لكنّها رايةٌ تهتزّ اليوم تحت وطأة الحصار، حتى أنّ ما تُنتجه الحركة مؤخراً، أصبحت تُصدّره في شكل خطابٍ سياسيّ مُختزلٍ في مسألة إنسانيّة مُلحّة، ترى في رفع الحصار منتهى فعلها السياسي، بعد أن تورّطت في سؤال المعيشة واليوميّ في غزة. على النقيض من ذلك، تذهبُ مقابلة السنوار هذه، إلى أبعد من هذا، إذ أنّها تأخذُ ما هو إنساني إلى مُنتهاه السياسي، فقصّة عائلةِ الشهيد الذي يُقدّم الشاي، غير مفصولةٍ عن التلويحِ بخيار الحرب.

تشهدُ قيادةُ "حماس" في غزّة اليوم، أزمةً أكبر من نقاش مقابلةِ الصحافة الإسرائيلية. أزمةٌ تكمنُ في أنّها وصلت إلى حدّ أصبح فيه تراكم القوّة، عائقاً يحول دون القدرة على استخدامها. فرفع الحصار، على أهمّيته كمطلبٍ إنسانيّ، تحوّل إلى ما يُشبه حلّاً بديلاً يُمكنه تعويضُ المطالبِ السياسية بشكلٍ تدريجيّ. هذا ما يجعل هذه المقابلة تكتسي أهميّة ما.

لم يتحدّث الرجل كما يتحدّث قائدُ فصيلٍ ما، بل طرحَ نفسه كقائدِ حركة تحرّر، وحاول توسيع خطابه بما يخدم هذا الدور الجديد الذي يتصوّره عن نفسه. ليست المقابلة خطاباً حربيّاً محضاً، يتعالى على الواقع الذي يعيشه أهل غزة. كما أنّ المقابلة لا تعرض هذا الواقع كمقدّمة لإمكانيّة وضع السلاح الناتجة عن التعب، بل تُحاول أن تُمرّر تهديدها، وتلوّح بخياراتها، وتضعُ، في الوقت ذاته، خيارها الحربيّ في إطارٍ دفاعيّ معقول.

عن أزمة "حماس"

في المُقابل، وقع السنوار في الإشكال ذاته، الذي تُعاني منه "حماس"، فيما يخصّ إرث "أوسلو"، وكيفيّة التعاملِ معه. إشكالٌ يتمثّل في رغبة التخلّي عن "أوسلو"، مع الحفاظ عليها كأفقٍ سياسي ينظِمُ ميثاق "حماس" وخطابها السياسي. إنّه إشكالٌ لم تستطع "حماس" حلّه بعد. فمسألة "الحلّ المرحلي" هي ذاتها روحُ "أوسلو" الأصيلة، وهي ما يُشكّل تصوّر "حماس" للخطوات القادمة أيضاً.

ضمّ، السنوار، في مقابلته المقاومةَ الشعبيةَ للمقاومة العسكرية في مزجٍ مُنسجمٍ، واستطاع التفوّق على الثنائيّة التي صنعتها سلطة رام الله: ثنائيّة العنف واللاعنف الوهمية، التي أثّمت الأوّل في المطلق، ورفعت الأخير كخيارٍ استراتيجيّ مع أنّها لم تستخدمه.

فعلى الصعيد الشعبيّ، ثمّة صورةٌ لقادة غزّة أصبحنا نُثابر على إعادة خلقها: صورةُ الملثّم الذي يُهدّد بقصفِ "تل أبيب". لكن ما نستهجنه اليوم، هو صورة صاحب البدلة الذي يتحدّث للإعلام الغربيّ، ويُحاول رفعَ الحصار، مُقدّماً نفسه للعالم بلُغةٍ تجمعُ بين الحقوقيّ والأيديولوجيّ، وتجمعُ بين رغبته في التحرّر، وحقّه في النجاة، هذا الاستهجان اللاواعي يُقدّس صورةً أكثر من كونه يُمارس السياسة.

ليست المسألة هنا في أن ندعو للحرب، لكن في أن نعلم أنّها محلّ احترام، حين يكونُ البديل: أن يمسحونا عن بكرة أبينا. هذا ما نخشى دائماً مواجهته، لأنّ ذاكرتنا عن "بدلات فتح" تكفّلت بـ"بهدلتنا".


مقابلةُ الرجل يُمكن المُراكمة عليها، ولا تُقارنُ بخطابات عبّاس حينما يتحدّث إلى الصحافة الإسرائيلية، عن التخلّي عن صفد، ولا بطريقة جبريل الرجوب بأن "يرونا بالشورتات"، لكن هذا التمايز عن خطاب "فتح" ليس دليلاً كافياً على التوجّه الصحيّ للتحرّر.

لم يجرِ، حتّى الآن، تقييمٌ جديٌّ لحروب غزّة الأخيرة (تقييمٌ بدا مُرتبكاً في المُقابلة)، ولا لمسيراتها الشعبية مؤخّراً (التي بدت كخلاصٍ في المقابلة). كما أنّه، على الأرض، يبدو كما لو أنّ حواراتٍ تجري، تحت الطاولة، مع المصريين وغيرهم، ولا نعرف عنها شيئاً. حواراتٌ تتعلّق بنوعيّة الحلول المطروحة، دون أن تكون هناك رغبةٌ في إفهام الناس حقيقة ما يجري.

ثمّة أهميّة لمخاطبةِ العالم، وأهميّة أخرى ملحّة تقعُ على عاتق "حماس": تكمنُ في مُخاطبة حاضنتها الشعبية، التي تظنّ أنّها مُجرّد تحصيل حاصل، وأنّ مخاطبة العالم، وإعادة تقديم نفسها، هو ما ينقصها. تخلقُ "حماس" بذلك، خطاباً مزدوجاً، أحدهما للاستهلاك المحلّي، والآخر للاستهلاك الدوليّ.

هذا، مع أنّ العالم كلّه، كما تقول التجربة، لا يعني شيئاً أمامَ مشاعرِ شعبكَ تُجاهكَ. ففي النهاية الشعب، هو من سيدفع ثمنَ الخيارات أيّاً كانت. دماءُ هؤلاء وعرَقهم، هي التي ستحدّد شكلَ المستقبل الذي نحلم به.