28 ديسمبر 2021

"الطيرة".. الحيّ الذي تنكّر لسكّانه

"الطيرة".. الحيّ الذي تنكّر لسكّانه

"إذا كان لكل مدينة صوت، فصوت حفّارات البناء هو صوت مدينة رام الله". عبّاد يحيى.1مّما قاله عبّاد يحيى خلال لقاء أجري معه حول روايته "رام الله"، جمعية الثقافة العربية، 20/8/2021.  

شهدت مدينة رام الله في العقود الثلاث المنصرمة تحوّلاتٍ عدّة، ساهمت في تشكيل المشهد الحضريّ والاجتماعيّ للمدينة. كانت اتفاقيّة أوسلو عام 1993 التحوّل الأبرز، وربما المفصل الأهم في إعادة تشكيل المدينة على ما هي عليه اليوم. تتفق مع ذلك الأرقام، إذ بُني في رام الله خلال الفترة الواقعة ما بين 1994 - 1999، ما يُعادل 50% من بناء المدينة على مرّ التاريخ.2نظمي الجعبة وخلدون بشارة. (2002). رام الله عمارة وتاريخ. رام الله: رواق، مركز المعمار الشعبي. ص 223.

 لم تكن التغيّرات على مشهد المدينة الحضريّ والاجتماعيّ مُتماثلة، إنّما أخذت أشكالاً مختلفة على اختلاف المناطق والأحياء فيها. حيّ الطيرة، الذي يبعد عن مركز المدينة بضعة كيلومترات باتجاه الغرب، هو المثال الأبرز على ذلك، إذ طرأت عليه تحوّلات في البنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة اتّصلت بشكلٍ وثيقٍ مع التحوّلات السياسيّة إثر تأسيس السلطة الفلسطينيّة عام 1994. مثلاً، ازداد عدد المباني في الحيّ خلال فترة زمنيّة قصيرة، وارتفعت أسعار الأراضي بشكلٍ كبير.

يحاول هذا المقال فهم أهمّ الركائز الأساسيّة التي ساهمت في إحداث التحوّلات التي طرأت على حيّ الطيرة، وذلك على ضوء التغيّرات الأوسع لمدينة رام الله.3يستند النص في معلوماته وتحليله على مجموعة من المُقابلات مع مُختصّين، ومع سكّان الحيّ الذين عايشوا التحوّلات على الحيّ المذكورة في المقال. 

رام الله مدينة الجميع!

جعلت السلطة الفلسطينيّة، بعد نشوئها إثر توقيع اتفاقيّة أوسلو، من رام الله مدينةً مركزيّةً، تحديداً مع توجّه العائدين من الخارج إلى رام الله واستقرارهم فيها، ومع تركّز مؤسسات ووزارات السّلطة فيها. أدّى ذلك إلى دفع عددٍ كبيرٍ من فلسطينيّي المناطق المُختلفة، مُدناً وقرى ومُخيّمات، إلى الهجرة إليها والاستقرار فيها طلباً للعمل، ولربّما أيضاً طلباً لنمط حياة مُختلف تُسوّقه المدينة عن نفسها، "لتتحول رام الله إلى مدينة الجميع".4ليزا تراكي وريتا جقمان. (2008). إجهاض الحداثة وعودتها المتجددة: أساليب الحياة الحضرية في فلسطين. ليزا تراكي (محرر). الحياة تحت الاحتلال في الضفة والقطاع: الحراك الاجتماعي والكفاح من أجل البقاء. بيروت. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ص 51. بالإضافة إلى موجة أخرى من القادمين وفدت من قطاع غزّة إلى المدينة بين عامي 2006 - 2007؛ أي بعد أحداث الانقسام بين حركتي "حماس" و"فتح".

إذاً، كان لأوسلو دور في جعل رام الله مدينةً مركزيّة، إلا أنّ قصّة المدينة والتغيّرات التي طرأت عليها لا تنحصر بذلك. فالتهجير الذي تعرّض له الفلسطينيّون في نكبة عام 1948، غيّر من البنية المعماريّة والتركيبة الاجتماعيّة للمدينة، إذ توجه إليها التجار والمستوردون وذوو الملكيات. وعلى الرغم من تضرّر هذه الشرائح بفعل التهجير، إلا أنّه توّفرت لهم الفرصة لإعادة تنظيم أعمالهم من جديد، فاستقرّ مُعظمهم في مدن مثل رام الله وعمّان. فيما كان الفلاحون والعمّال الأكثر تضرّراً والأقل قدرة على التكيف بعد التهجير، لذا وجدوا ملاذهم في المخيّمات التي كانت تعتمد بدرجةٍ كبيرةٍ في توفير حاجاتها الأساسية على مساعدات الأونروا.5مجدي المالكي وحسن لدادوة. (2018). تشرذم المجتمع الفلسطيني بعد النكبة. مجدي المالكي (محرّر). تحولات المجتمع الفلسطيني منذ سنة 1948: جدلية الفقدان وتحديات البقاء. بيروت. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ص 77.

اقرؤوا المزيد: يتامى أوسلو.. "غلطة وندمان عليها".

كذلك، شهدت رام الله عدّة تحولاتٍ في بنيتها الاجتماعيّة والطبقيّة في الفترة بين عاميّ 1967 - 1987، على إثر خروج بعض أبنائها إلى الخارج طلباً للعمل والتعليم العالي، ممّا ساهم في خلق حراكٍ اجتماعيٍّ وسّع من حجم الطبقة الوسطى فيها.  وأيضاً كانت رام الله من أهم المدن التي شهدت تلك التحولات الطبقيّة، لكونها الأكثر انفتاحاً في استقبال الخريجين الباحثين عن عمل والراغبين في تغيير أماكن سكنهم.6ليزا تراكي. (2010). رام الله - البيرة: مجتمعات وهويات. في كتاب أمكنة صغيرة قضايا كبيرة. بيروت. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ص 32-33. 

أمّا عن الانتفاضتين الأولى والثانية وعلاقتهما بالمدينة، يُحدّثنا أحد السكّان (54 عاماً) ويعود بذاكرته: "لم تكن هنالك تغيّرات معماريّة جذريّة في الانتفاضة الأولى، بل تركّز أثرها على المنحى الاجتماعي؛ فيما يتعلق بازدياد التضامن الاجتماعيّ وازدهار التعليم الشعبيّ والزراعة المنزليّة. بعكس الانتفاضة الثانية التي ولدت دماراً على مستوى المعمار والبنية التحتية في المدينة، وهو ما حَتمَ الدخول في مرحلة إعادة إعمار مصحوبة بتجديدات للمشهد المعماريّ بعد انتهاء الانتفاضة".7 8مُقابلة أجراها الكاتبان مع أحد سكان مدينة رام الله، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021.

لماذا حيّ الطيرة؟

شكّل حي الطيرة في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي مُستقرّاً للعائلات البسيطة؛ نظراً لتدنّي أسعار الأراضي والإيجارات حينها، ذلك لبعده عن مركز المدينة والخدمات العامة. وصلت هذه الأخيرة إلى الحي في النصف الأول من الستينيات، مع تعبيد الشارع الرئيسي الواصل بين أواخر رام الله التحتا وكلية "مجتمع المرأة برام الله" التابعة لوكالة الغوث، المتعارف عليها بـ "معهد الطيرة". في مرحلة لاحقة، امتدّ الشارع إلى ما بعد ذلك، وهو ما زاد الحيّ حيويّة، وأدّى إلى زيادة عدد سكّانه بوتيرة بطيئة نسبيّاً. ازداد هذا التوسع في بداية السبعينيّات، إذ شرعت بلدية رام الله بتنفيذ مخطط توسعة للمدينة صادقت عليه دولة الاحتلال في فترة 1971 - 1973؛ أي خلال فترة الإدارة المدنيّة الإسرائيليّة المباشرة للضفة، فأُدخلت أراضٍ جديدة ضمن حدود المدينة، تحديداً في منطقة الطيرة.9مُقابلة أجراها الكاتبان مع خلدون بشارة، مدير مركز رواق سابقاً وأستاذ مساعد في دائرة العلوم الاجتماعيّة في جامعة بيرزيت، في سبتمبر/ أيلول من عام 2021. 

اقرؤوا المزيد: معركة "المصيون".. رام الله تُبيد غزاتها.

مع بداية التسعينيّات، تُرجِم التوسع الجغرافيّ للمنطقة إلى توسّعٍ معماريٍّ وتزايدٍ سُكّانيّ في الحيّ. مردّ ذلك إلى التصنيف الذي جلبته أوسلو لأراضي الضفّة الغربيّة؛ مناطق "أ" و"ب" و"ج"، الذي صنعت السلطة الفلسطينية من خلاله شعوراً زائفاً للناس يوهمهم بتركّز الأمان والاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ في مناطق "أ"، فهي المناطق الخاضعة لسيطرتها الأمنيّة والمدنيّة "الكاملة".10غير أنّ صورة الاستقرار والأمان التي خلقتها السلطة الفلسطينية عن مناطق "أ" سرعان ما ثبت أنها واهمة، وذلك مع الاقتحامات المُتكرّرة لجيش الاحتلال الإسرائيلي ولمجموعات المستوطنين للحيّ؛ منهم مستوطني مستوطنة "دولف"، التي يفصل بينها وبين الحي أراضِ قرية عين قينيا، والذين يقتحمونه بزعم وجود قبر وقطعة أرض تعود ملكيتها لهم. وما ساعد على ذلك، أن شرعت السلطة ببناء هياكل "الدولة" ومؤسساتها على هذه المساحات، فأعادت رسم محيط المدينة وهندستها داخليّاً على المستويين المعماريّ والاجتماعيّ، بما يتناسب مع تصوّرها عن المدينة ومحدوديّة سيطرتها على المكان. 

ربما تكمن الإجابة عن سؤال "لماذا حي الطيرة؟" في خطّة السلطة الفلسطينيّة لتوسيع مدينة رام الله، إذ اتجهت بالتوسعة نحو المساحة الأكبر من المناطق المصّنفة "أ" الخاضعة لسيطرتها. وفقاً لخارطة المدينة، نجد أن النقطة الأبعد عن مركزها المُتمثّل بـ "دوّار المنارة"، والتي تدخل ضمن حدود بلديّة رام الله وتُصنّف كمناطق "أ"، هي المساحة الممتدة بالاتجاه الغربيّ للمدينة إلى ما قبل الوصول لأراضي قرية عين قينيا المصنّفة كمنطقة "ج"، وهذه الأراضي هي المتعارف عليها بحيّ الطيرة. 

الطيرة طيرتان!

ينقسم حيّ الطيرة إلى منطقتين متباينتين معماريّاً واجتماعيّاً: تمتد المنطقة الأولى باتجاه الغرب من الشارع الرئيسي، في محيط دوّار أحمد ياسين -المعروف باسم دوار نبيل عمرو-، إذ تتسم بالازدحام السكّاني والمعماريّ نسبيّاً، الذي يتجلّى بكثافة الأبنية وضآلة الارتدادات بين العمائر والمنشآت. فيما تمتد المنطقة الثانية باتجاه الشرق من الشارع الرئيسي، في محيط دوّار نيلسون مانديلا، والتي تمتاز بالبنايات الباذخة، فتسكنها شريحة تتمتع بامتيازات طبقيّة ومكانة اجتماعيّة "أرقى" من الشريحة التي تسكن في المنطقة المُقابلة. 

يمكن الانطلاق بقراءة هذه المفارقة المعماريّة الاجتماعيّة بين المنطقتين من مفارقة طبوغرافيّة. تمتاز منطقة دوّار نيلسون مانديلا بوقوع أراضيها المُنبسطة على الشقّ المُرتفع من الجبل، لذا فإنّها تتمتّع بأفقٍ غير محجوب وإطلالة "بحريّة" في ساعات الغروب، وهو ما قد يُفسّر جزء من تردّد العديد من الشباب والشابّات بسيّاراتهم على المنطقة. كذلك، فإنّ الإطلالة شكّلت عامل جذب مُهم، إلى جانب تدنّي أسعار الأراضي في ذلك الوقت، لإقامة "إسكان بيرزيت" في السبعينيّات، والذي ساهم لاحقاً في رفع أسعار الأراضي في المنطقة بشكل كبير، كما ساهم في جذب فئةٍ مُعينةٍ من السكان. 

لاحقاً، بات الإسكان بنمطه المعماريّ المعتمِد على نظام البيوت المستقلة (الفلل)، بمساحاتِها الواسعة وحدائقها وشُرفاتها، نمطاً معماريّاً للحيّ في شقّه العلويّ. حافظت المنازل المستقلة والإسكانات الأخرى، مثلَ إسكان "تل الصفا"، على ذات نمط البناء الذي بات عامل جذب لذات الفئة المتقاربة اجتماعيّاً، والقادرة على التملّك بأسعار مرتفعة. ممّا شكّل شبه منعزل اجتماعيّ لتلك الفئة، بالرغم من اقتحام البعض من خارج المنطقة وتردّدهم عليها للتجوّل مع حيواناتهم الأليفة أو للركض أو للتسكّع بالسيّارة.

وبعكس العامل الجمالي الذي كان حجر الأساس في تشكيل مشهد الجزء العلويّ من الحي، كان العامل الوظيفي هو المعيار في عمران الجزء المُقابل؛ المُنخفض من الجبل. وعلى الرغم من أنّ أول إسكاناتِ هذا الجزء كانت في الستينيات على هيئة بيوت مستقلة، وأنّ بعض البيوت المستقلة ذات طابع جماليّ، إلا أنّ الشكل المهيمن على المشهد في الجزء السُفلي من الحيّ هو العمارات المرتفعة متعددة الطوابق، وقليلة التباعد فيما بينها. وهذا المشهد بهذه السمات، هو مشهد يتشابه مع مختلف أحياء رام الله سريعة التوسع، التي يمكن قراءتها كجزء من نمطٍ معماريّ ازداد انتشاراً من بعد أوسلو، ويمكن فهمه كنتاجٍ للتخطيط العشوائيّ والسريع، الهادف لاستيعاب الطلب الكبير للسُكان الجدد الذين انتقلوا إلى المدينة، بعدما تمركزت بها السُلطة الفلسطينيّة ومؤسساتها.

طيرة لغير سكّانها

يتمظهر منطق الربح كهدفٍ منشودٍ وجليّ اليوم في مشهد مدخل الحيّ، ما بين "دوار السرية" حتى معهد  الطيرة، وهي المنطقة التي شكّلت معظم حيّ الطيرة في الزمن الماضي، إذ باتت المنطقة تخسر معالمها كحيٍّ سكانيّ مع خسارة كلِّ بيتٍ أو حاكورةٍ لصالح مجمع تجاريّ، لتصبح منطقةً بمعالم تجاريّة خدماتيّة، مع زيادةٍ في عدد المطاعم "والكوفي شوبات" المتسربة كراسيها إلى الرصيف في ساعات الازدحام و غير الازدحام أحيانًا، سالبةً إيانا قرابة المترين من حقّنا كمُشاة.

اقرؤوا المزيد: "المول" ضدّ البسطة.. هذا الطريق آخرته لحن حزين.

إنّ ماضيَ الحيّ الذي وصفه سُكانه القدامى على أنّه أكثر أمناً وألفةً وهدوءاً من حاضره، بات اليوم غيره بانقلاب معالمه. ولعلّ أصدق تعبيرٍ عن هذه التحولات ما قالته إحدى ساكنات الحي (60 عاماً): "أشعر أحياناً بأنني غريبة عن شارع الطيرة بالرغم من إقامتي هنا منذ ستين عاماً. السكان الجدد هم أكثر انتماءً للمكان منّي؛ ربما لأنهم لم يشهدوا التغيرات الكبيرة والجذريّة التي عمرها عشرات السنوات. أما أنا، فلا أشعر بأن المكان هو ذاته ما بين مرحلة طفولتي وشبابي وشيخوختي… في واقع الحي اليوم، الشارع والرصيف وحتى ساعات الراحة على شرفة المنزل، هم ليسوا لي".

ربما تكمن أهمية تسليط الضوء على علاقة الناس في حيّ الطيرة بالحيز العام، في الكشف عن التحولات التي مرّ بها الحيّ على امتداد السنوات السابقة، حتى وصل الآن إلى منطقةٍ سكنيّة بمعالم تجاريّة متطرفة، يسلب منطقُ الربح فيه حقَّ الناس في فضائهم الاجتماعيّ، ويُحوِّلهم إلى أفرادٍ غير فاعلين في تشكيل حيزهم المكانيّ، مُجبرين على التأقلم مع الواقع المرسوم لهم الذي يصادر شعورهم بالانتماء لِمكان سكنهم، لاجئين للاحتماء بمحاولاتهم الدائمة لاسترجاع صور الحيّ القديمة. 

وبالرغم من تمحور هذا المقال حول حيّ الطيرة بحاضره وماضيه الحاضر بذاكرة سكانه، إلا أنّ هذا التمرحل والانقلاب الحضريّ الذي شهده الحي لا يقتصر عليه فقط، فلا يمكن فهمه إلا في ضوء التغيرات الأشمل التي مرّت بها مدينة رام الله، والتي تُشكِّل حالةً نموذجيّةً بالنسبة لباقي مدن الضفّة الغربيّة، بوصفها تكثيفاً لـ"مشروع بناء الدولة".