في الرابع والعشرين من أبريل/ نيسان 2003، اقتحمت قوّةٌ كبيرةٌ من جيش الاحتلال بلدة قراوة بني زيد شمال غرب رام الله، بهدف اعتقال الطالب في المرحلة الثانويّة فاكر عرار، والذي كان آنذاك ناشطاً في الحركة الطلابيّة الإسلاميّة في إحدى مدارس القرية. لكنّه لم يستسلم للاعتقال واستشهد خلال المواجهات على مدخل المدرسة. قيل حينها إنّ فاكراً كان أحد أفراد خليّة للمقاومة خطّطت لتنفيذ عمليات ضدّ أهداف الاحتلال.
استشهد فاكر على طريقٍ خطّه قبله المئاتُ من كوادر الحركات الطلابيّة التابعة لمختلف التنظيمات الفلسطينيّة والتي نشطت في المدارس. ففي عام 2001 مثلاً، كانت انتفاضة الأقصى تُخرِج أروعَ ما فيها من قصصِ المقاومة والفداء، إذ قدّمت عماد الزبيدي أميرَ الحركة الطلابية الإسلامية في المدرسة الصناعية في نابلس، مُتدرِجَاً إلى طبقة الاستشهاديين، بعد أن نفّذ عملية استشهاديّة في كفر سابا شمال يافا، خلّفت قتيلاً إسرائيلياً وعدداً من الإصابات.
يعجز المقال عن حصر شهداء الحركات الطلابية الفلسطينية في المدارس أو الجامعات الذين ارتقوا إلى مرتبة الشهادة، لكن ما يقوله لنا تاريخُ العملِ السياسيِّ الفلسطينيّ إنّ الكتلَ الطلابيّةَ في المدارس والجامعات، كانت "الينبوع" الذي يمدّ التنظيماتِ بالكوادر الفاعلة في الميدانين العسكريّ والسياسيّ، بينما شكّلت الأحزابُ "الحبلَ السريَّ" الذي يُغذّي الحركاتِ الطلابية بالحياة.
بشكلٍ عامّ لا يُعلَمُ على وجه اليقين تاريخٌ محددٌ لانطلاق العملِ الطلابي في مدارس الضفة المحتلة، لكنّ ذلك يعود - حسب تقديرات البعض - إلى فترة السبعينيّات. وما نرصده في هذا المقال متعلقٌ بنشاط الحركة الطلابيّة أوائل الألفية بالتزامن مع سنوات الانتفاضة الثانيّة. خاصّةً أنَّها، شأنها كشأن الانتفاضات وأوقات المواجهة الأخرى، مثّلت فرصةً لانتعاش العمل السياسي وتقدُمِ المجتمع الفلسطينيّ نحو مساحاتٍ جديدة من الفعل، إضافةً إلى الفعل العسكري والميداني. وقد كان العمل الطلابي في المدارس الثانويّة واحداً من تلك المساحات.
الحركة الطلابيّة.. ميدان العمل السياسيّ الأوّل
من المعروف أنّ لكل تنظيمٍ وفصيلٍ فلسطينيّ كتلته الطلابيّة المرتبطة به؛ "الشبيبة الطلابيّة" هي الجناح الطلابيّ لحركة "فتح"، و"الحركة الطلابيّة الإسلاميّة" هي الجناح الطلابيّ لحركة "حماس" في الضفّة، بينما أُطلق عليه في غزّة "الكتلة الإسلاميّة"، و"جبهة العمل الطلابيّ" هي الجناحُ الطلابيّ للجبهة الشعبيّة، و"الرابطة الإسلاميّة" هي الجناح المدرسيّ لحركة الجهاد الإسلاميّ، و"جبهة العمل الطلابيّ التقدميّة" هي الجناح الطلابيّ المدرسيّ للجبهة الديمقراطيّة، وأخيراً اختار حزب الشعب اسم "كتلة اتحاد الطلبة التقدميّة" لجناحه الطلابيّ.
تتنوّع النشاطات التي تنظمها الحركات الطلابيّة، وتُعدُّ نشاطات التعبئة والتثقيف محور عملها الأساس، وتنطلق أعمالها منذ اليوم الأوّل للعام الدراسيّ من خلال توزيع بيانات ترحيبٍ وبرامج طلابيّة وتعليق مجلة الحائط. وعلى مدار العام الدراسيّ تستمر هذه النشاطات عبر أدواتها الأساسيّة: النشرات الدوريّة، والإذاعة المدرسيّة، والمسرحيات، والتظاهرات، والبيانات والمتعلقة بمناسبات فلسطينيّة وطنيّة، أو بنعي الشهداء الذين تكاثروا في سنوات الانتفاضة.
اقرؤوا المزيد: "نخبة على النقيض.. الانتفاضة الثانية وأعداؤها".
ولعل الملعب الذي يقع بالقرب من إحدى تلك المدارس في الضفّة الغربيّة شاهدٌ على هذا التنوع في النشاطات، ودورها السياسيّ والثقافيّ. يمتدُّ ذلك الملعب على مساحةٍ واسعة، وكان طلاب المدرسة يستغلون إطلالته على الشارع الرئيس للقرية، ومخارجَه الكثيرة نحو الجبال، لرشق آليات الاحتلال بالحجارة. وكما شهد ذلك الملعبُ مطارداتٍ ساخنةً بين جنود الاحتلال والفتية، فإنّه كان أيضاً ساحةً مناسبةً للنشاطات الطلابيّة والمهرجانات.
وفي أوج الانتفاضة كان الاهتمام بالقمم العربيّة أكثر من وقتنا الراهن، حينها قررت مجموعة من الطلبة تنظيم مسرحيةٍ هزليّةٍ على شكل قمةٍ عربيّة، وكان لكلِّ طالبٍ من المجموعة دورٌ في تقليد حاكمٍ عربيّ، وقد حضر حينها القذافي على الحمار، ونام ملك السعودية وهو يستمع للكلمات.
هكذا شكّلت الحركاتُ الطلابيّة في المدارس فرصةً لاشتداد عود النشاط السياسيّ في داخل كلّ كادرٍ وطالب، وشعلةَ وعيٍ تضعُ الطالبَ على طريق الاهتمام بالقضايا العامّة. وقد كانت الانتفاضة الثانيّة بيئة نضاليّة غنيّة تكاثرت فيها أسماء الشهداء والأسرى، مما ترك أثراً مضاعفاً على الدور التسيسي الذي يُمكن أن تلعبه الحركات الطلابيّة. وهكذا، انتقل جيلٌ كاملٌ على مدارج الوعي، ومارس من خلال نشاطه الطلابيّ العملَ التنظيميّ والنقابي رغم بساطة بعض تفاصيله.
ورغم ذلك، لم يكن الموضوع السياسيّ وحده الحاضر على أجندة العمل في المدارس، فقد اهتمت الحركات الطلابية بتكريم الطلبة المتفوقين، وتنظيم أنشطةٍ اجتماعيّة من قبيل تنظيف المدارس، ومساعدة الطلبة المحتاجين.
العلاقة مع المدرسة
حافظت الحركات الطلابيّة على شعرة معاوية في علاقتها مع الهيئات الإداريّة في المدارس، وعمليات الكرّ والفرّ بين الكوادر الطلابيّة ومدراء المدارس فيها من التاريخ والفكاهة في الوقت ذاته. مع كلِّ عملية اغتيالٍ لأحد قيادات المقاومة أو مجزرةٍ يرتكبها الاحتلال أو حدثٍ كبير خلال الانتفاضة، يتجهّز كوادر الحركات الطلابيّة بالرايات وأعلام فلسطين والسماعة المشهورة في معظم المسيرات، ويتوّجهون إلى مدخل المدرسة لإخراج الطلبة إلى مسيرةٍ قبل بداية الدوام، وبين شدٍّ وجذبٍ مع المدير الذي يطرح ما في جعبته من اقتراحات ليكسب بعض الحصص قبل الإضراب، تنتصر الحركاتُ الطلابيّة في النهاية، وتجوب المسيرة شوارع القرية أو المدينة.
وكانت هذه العلاقة تتمظهر أيضاً من خلال "مقصّ الرقيب" الذي كان حاضراً على الدوام في العلاقة بين المشرفين على الإذاعة المدرسيّة وبين الطلاب. لكن حدّته كانت تزيد وتنخفض تناسباً مع هامش الحريّة الذي تمنحه السلطة الفلسطينيّة للحالة السياسيّة بشكلٍ عام، إلا في الأحداث الكبيرة إذ يستوي الكل في الغضب، ولا يعودُ للتدقيقِ في مصطلحات الخطابات الطلابيّة أيُّ معنى. كما حدث بعد اغتيال القادة الكبار، مثل أبو علي مصطفى، وأحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وياسر عرفات وغيرهم، إذ كانت المدارس نقطةَ انطلاقٍ لمسيراتٍ كبيرة تجوب شوارع القرى والمدن.
أما عن العلاقة بين كوادر الحركات الطلابيّة، فلم تكن أقلّ سخونةً من التنافس الحاصل بين التنظيمات في المجتمع الأكبر، نقاشات حامية على مستوى مُصغّر خاضتها الكوادر الطلابيّة فيما بينها، كانت ساحتها غرف الصفّ، وفي التنافس على الهتافات في المسيرات. وقد كانت العلاقات الاجتماعيّة في القرية الواحدة (القرابة والصداقة) ضابطاً لمنع أو وقف أيّ احتكاكٍ عنيف، وهتاف "وحدة وحدة وطنية… فتح وحماس وشعبية" كفيلاً دائماً بإعادة التذكير بوحدة الهدف وتقريب وجهات النظر في كلّ تظاهرة أو مهرجان.
"بيعة الشجرة" بعيداً عن التوجيه
كانت انتفاضة الأقصى معركةً شديدةَ الشراسة قدّمت فيها الفصائلُ الفلسطينيّة أفضل كوادرها العسكريّة والسياسيّة، وانصبَّ الاهتمام الأكبر في ميدان البارود والنّار، وهذا رُبّما يفسّر أنّ الاهتمام بالحركات الطلابيّة في المدارس جاء في المرتبة الأدنى من العمل التنظيميّ. لكن، رغم ذلك فقد رأت الفصائل في العمل الطُّلابيّ ساحةً خلفيّةً تُزوِّدها بالكوادر في المستقبل، لذلك فرزت كلُّ واحدة منها عنصراً من جسمها الحركيّ لمتابعة العمل الطلابيّ المدرسيّ في كلِّ منطقة، وخصّصت ميزانياتٍ، اختلف حجمها من مدرسةٍ إلى أخرى، لتمويل النشاطات الطلابيّة.
ومن أوضح الأمثلة على ترابط الكتل الطلابيّة مع تنظيماتها الأمّ، ما يُروى عن الشهيد حسنين رمانة، أحد قيادات كتائب القسّام في مرحلة قبل انتفاضة الأقصى، والذي تولّى مسؤولية متابعة العمل الطلابيّ الإسلاميّ في مدارس رام الله. وهذا حال كوادر آخرين من التنظيمات الفلسطينيّة مزجوا بين متابعة العمل العسكريّ وبين الإشراف على الجناح الطلابيّ، بينهم الشهيد حسن القاضي، مسؤول حركة "الشبيبة الطلابيّة" في رام الله، الذي اغتالته مخابراتُ الاحتلال بداية انتفاضة الأقصى لدورِهِ في عدّة عملياتٍ فدائيّة.
وفي المساجد والمراكز التنظيميّة انثنت رُكب الكوادر الطلابيّة في حضرة مسؤوليهم في التنظيمات. كانت هذه مراكزهم الخلفيّة لتحضير النشاطات وتلقي الدورات التدريبيّة والتثقيفيّة والاتفاق على خطط العمل. وقد ارتسمت العلاقة بين التنظيمات وأذرعها في المدارس بين التوجيه المباشر من جهةٍ والسماح بهامشٍ من المبادرة والاستقلالية من جهةٍ أخرى. وتختلف الآراء حول انعكاس هذه السياسة على الكوادر الطلابيّة؛ هل ساهمت في تقييد إبداع الطلبة أم أنّها منحتهم خبرةً احتاجوا لها؟
اقرؤوا المزيد: "من سرق الجامع؟"
وبحسب بعض من شهدوا تلك الفترة، فقد كان الجانب الأمنيّ حاضراً بقوّةٍ في طريقة تعامل التنظيمات الفلسطينيّة مع كوادرها الطلابيّة، إذ بقي الخوف من الاعترافات سيد تفكير بعض المسؤولين في الفصائل، خاصة مع الضربات المتلاحقة التي نفّذها الاحتلال ضدّ بناها التنظيميّة خلال الانتفاضة. لذلك حاولت منحَ هامشٍ من الإدارة الذاتيّة للحركات الطلابيّة في العمل، بسبب النظرة للطلاب على أنهم لا يملكون الخبرة والقوّة الكافية لمواجهة الضغوط التي يمارسها الاحتلال خلال التحقيق مع المعتقلين.
ومما يُشير إلى بعض هامش الإدارة الذاتيّة، قصة انتخابٍ لممثل حركةٍ طُلابيّة وقعت في إحدى مدارس الضفّة. كانت طريقة اختيار ممثل الحركة في حينه عن طريق المسؤول المباشر في التنظيم، لكنّ كوادر الحركة اجتمعوا على اختيار مسؤولهم انتخاباً. وتحت شجرةٍ قريبةٍ من المدرسة اجتمعوا وانتخبوا المسؤول الجديد، وبقي الكوادر الذين تفرّقوا في دروب الحياة بين العمل أو السجن أو الاستمرار في العمل السياسيّ حتى اليوم، يُذكِّرون بعضَهم بتلك القصة التي أطلقوا عليها اسم "بيعة الشجرة".
بعد الانتفاضة: المدرسة للعلم المسطور في الكتب فقط!
تأثّرت الحركات الطلابيّة بالضربات التي لحقت بالتنظيمات الفلسطينيّة في مختلف مراحل النضال. منها الانتكاسة التي تعرّضت لها الحركةُ الطلابيّة الإسلاميّة عام 1998 بعد الحملة القاسية التي نفّذتها مخابراتُ وجيش الاحتلال ضدّ تنظيم "حماس"، خاصّةً في منطقة وسط الضفّة.
اقرؤوا المزيد: "معركة طلبة بيرزيت على ما تبقى من الهامش".
وبعد الانتفاضة الثانية اجتمعت أجهزةٌ أمنيّة وقوى سياسيّة في المنطقة على أنّها "يجب أن لا تتكرر"، لذلك توجهت الجهود لتجفيف أي منبعٍ يمكن أن يمدّها بالحياة مُجدداً، وكان من بين ذلك العمل الطلابيّ. لذلك كان لانتهاء الانتفاضة الثانية غير المُعلن، وما تبع ذلك من سياسات ضبطٍ وقمع أشرفت عليها "إسرائيل" وساهمت في تطبيقها السلطة الفلسطينيّة، كبير التأثير باتجاه أفول الحركات الطلابيّة. يسودُ هذا الرأي بين معظم الكوادر السياسيّة التي عاشت مرحلة المدرسة في ظلال انتفاضة الأقصى.
وبالعموم، تختلف الآراء حول أسباب تراجع الاهتمام بالعمل السياسيّ في المجتمع الفلسطينيّ، خاصّةً بين من يُعرفون في القاموس التنظيميّ الفلسطينيّ باسم "الأشبال"، أي الأطفال والفتية. هناك من يرى أنَّ دخول فصائل المقاومة في السّلطة بعد انتخابات 2006 وانتهاء الانتفاضة له دورٌ في ذلك. إلا أنَّ المتفق عليه أنَّ الحملة الأمنية القاسية، بما شملته من اعتقال وتعذيب، والتي نفّذتها الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة انطلاقاً من صيف عام 2007، بحقّ كوادر التنظيمات الفلسطينيّة، وبالأخص قوى المقاومة، وما يلحق بذلك من مؤسسات كالمساجد والمجمعيات، أخرجت العمل الطلابيّ في المدارس من الحياة وغيّبت دورَه لسنواتٍ طويلة.
ومع تصاعد المواجهة بين "فتح" و"حماس" عقب فوز الأخيرة في الانتخابات التشريعيّة، زاد التوتر في مختلف قطاعات المجتمع، من بينها المدارس، وقد اندلعت في تلك الفترة شجاراتٌ بين كوادر مختلف الحركات في بعض المدارس منعت العلاقاتُ الاجتماعيّة والصداقة تطوّرَها إلى صورةٍ أعنف. كما أصبحت الهيئات الإداريّة المدرسيّة تُشدِّدُ من رقابتها على مضمون خطابات الإذاعة الصباحيّة. ورفض مدراءُ بعض المدارس تنظيم مهرجاناتٍ في ذكرى استشهاد قادة في الفصائل الفلسطينيّة. واختلفت "الآراء" حينها بين معارضٍ لتلك القرارات وموافق عليها من أوساط الأساتذة والطلاب، بزعم أن "المدارس ليست ميداناً للعمل التنظيميّ والسياسيّ".
اقرؤوا المزيد: "لجان الزّكاة.. فصلٌ من تدمير العمل المجتمعيّ؟"
ومما يعكس تلك الأجواء التي سادت في مرحلة ما بعد 2007، قصة بيانٍ وُزّع في إحدى مدارس قرى رام الله بعد نقله عن بيانٍ للكتلة الإسلاميّة في جامعة النجاح في نابلس. كان البيان بعنوان "ماذا يعني الاعتراف بإسرائيل؟"، يُعقّب على ذلك الاعتراف الذي ورد كشرطٍ من شروط المجتمع الدوليّ على حركة "حماس" للقبول بها بعد فوزها في الانتخابات. بعد أن كانت المدارس ساحةً فعّالةً للنقاش السياسيّ، أثار البيانُ في حينِهِ جدالاً واسعاً على مستوى الطلاب والهيئة التدريسيّة، حول جدوى ما قيل إنّه "إدخالٌ الطلبة في أجواء هذا الصراع".
ماذا تقول لنا التجربة؟
استذكر اليوم التجربة التي أخذت حيزاً واسعاً من طفولتنا، بين الشوق الجارف والحزن على ما أصابها، لا تفارق ذاكرتي المرة الأولى التي كتبتُ فيها مقالاً على مجلة الحائط التي صنعتُها مع صديقي باسم "صوت الطلبة". كانت إحدى الحركات الطلابيّة الكبيرة في المدرسة تُطلق هي الأخرى على مجلتها اسم "صوت الطلبة"، وكانت هذه طريقتنا للفت الانتباه لنا بعد أن حاولنا مراراً الانضمام إلى هذه الحركة، وهو ما حصل فعلاً بعد سعيٍ حثيث.
"بساطة" التجربة على مستوى أطفال وفتية في المدارس، لا تنفي الأثر العميق الذي حفرته فينا كجيلٍ عَرَفَ السياسةَ من أسماء الشهداء والاستشهاديين والأسرى. كان الطالب يعتبر الحركةَ الطلابيّة في مدرسته ممرّاً نحو العمل السياسيّ أو العسكريّ الأوسع، ومرحلةَ تدريبٍ للعمل النقابيّ في الجامعات وما بعدها.
تؤكِّد تجربةُ الحركات الطلابيّة في المدارس على مركزيّة التنظيمات في الحياة السياسيّة الفلسطينيّة، وهي "الحقيقة" التي ما زالت المراحل المختلفة تزيدُها وضوحاً، إذ كان انتعاش التنظيمات يمنحُ الحياةَ لكلِّ قطاعات العمل الاجتماعيّ والطلابيّ في المجتمع.
واليوم، بعد سنواتٍ من انتهاء الانتفاضة الثانية، أجيالٌ جديدة خرجت إلى الحياة في المدارس والجامعات، ربما لا يعرف كثيرٌ من أبنائها عن التفاصيل التي عاشها جيلنا في ظلِّ الملحمة الكبرى التي اندلعت عام 2000. ورغم محاولات الهيئات الحكوميّة ومؤسسات المجتمع المدنيّ خلق "حالةٍ سياسيّة" تتناسب مع الشعارات السائدة في الساحة الرسميّة الفلسطينيّة اليوم، من قبيل تنظيم برلماناتٍ طلابيّة وفعاليات تندرج في إطار التنمية البشريّة، وتفترق عن مرحلة الانتفاضة، إلا أنَّ الحروب والهبّات الشعبيّة التي خاضتها المقاومةُ الفلسطينيّة في السنوات الأخيرة، شكّلت نوعاً من الوعي والتحشيد لدى الجيل الجديد، اختلفت فيه طرق التواصل بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وبقي المجتمع الفلسطينيّ عصياً على التطويع الكامل.