5 ديسمبر 2018

ألوان فلسطين

علمٌ خاطَتهُ السياقات

علمٌ خاطَتهُ السياقات

حين اختطفتْ صواريخُ الاحتلال قدميه، في عدوان عام 2008 على غزّة، لم يتبقَ لابراهيم أبو ثريا ابن الثمانية والعشرين عاماً سوى يديه وعَلمِه، يحملُهُ، يقتربُ به إلى السّياج الفاصل، ويلوّح به أمام قناصي جيش الاحتلال. قبل استشهاده بأيام، انتشر مقطع فيديو يظهر فيه أبو ثريا أثناء مسيرات العودة مُتسلِقاً أحد أعمدة الكهرباء بيديه، ويثبّت علماً فلسطينياً عليه، ثمّ يَنْزِلُ عنه بسلامٍ. في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2017، وأثناء اقترابه من السّياج الفاصل ضمن "طقوسه" المعتادة، كان العلمُ الذي حاول غرسه هناك شاهداً على ارتقاء حاملِهِ شهيداً.

على ذات السّياج إلى الجنوب قليلاً، شرق خانيونس، وبعد ذلك بأشهر، فجّرت "ألوية الناصر صلاح الدين" علماً فلسطينياً نصبَتْهُ كميناً في مجموعة من الجنود. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حظي الفلسطينيون بمشاهدة "كمين العلم" مُصوّراً من خلال الفيديو الذي نشرته الألوية. كان العلمُ الفلسطينيُّ وساريتُه، حرفيّاً لا مجازاً، قنبلةً مُتَفَجِّرَةً في ستةٍ من ضبّاط وجنود الاحتلال على "الحدود" مع قطاع غزّة. فيديو أعاد للعلم فاعليّته في الصّراع، وذكّرنا أنّ أهميّةَ العلمِ تَكمُنُ في سارية فعليّة تُعليه وترفعه، وهي المقاومة.

من الملاحظ أنّه تجري على العلم تحوّلاتٌ عدّةٌ، فمعناه ليس ثابتاً. يعتمد ذلك على عوامل مختلفة: من الذي يرفعه؟ وأين يحدث ذلك؟ وما هو السياق الذي يُوضَع فيه؟ أنْ يكونَ مُتضمناً لفعلٍ ماديٍّ على الأرض، ليس كأن يَكونَ مُفرغاً من فاعليّته أو مجرد "رمز" بلا سياق، وأنْ يُرفع في الأمم المتحدّة كتعبيرٍ عن "وهم الدولة" في ظلّ الاحتلال، ليس كأن يُرفع في مسيرات العودة على السياج الفاصل مثلاً.

تاريخٌ يُدافع عن علم

أُقرّ العلمُ الفلسطيني كعلم للوطن الفلسطيني في المجلس الوطني الفلسطيني الأول ضمن "منظمة التحرير" الفلسطينيّة في مدينة القدس عام 1964، ولكنّ المواجهات التي بدأ العلم في خوضها كانت بعد ذلك بثلاث سنوات تقريباً.

مع انتهاء حرب عام 1967، وبعد أن فرغ الاحتلال من السيطرة على ما تبقى من الأراضي الفلسطينيّة (الضفّة الغربية والقدس وقطاع غزّة)، حوّل بعض انشغاله إلى السيطرة على الرموز، من ضمنها العلم الفلسطيني. حينها اعتُبرت حيازةُ العلم الفلسطيني عملاً غير قانوني، ومُنِعَ رفعُه بأيّ شكلٍ من الأشكال في الأراضي المحتلّة عام 19671.

في ظلّ هذا المنع، أصبح التعاملُ مع العلم الفلسطينيّ وخاصّة في الانتفاضة الأولى سرّاً يتطلب خطّة مدروسة. تحوّل العلم فيها إلى صناعةٍ شبيهةٍ بالصناعة العسكريّة، تَخِيّطُهُ النساءُ سرّاً في بيوتهن مما يتوفّرُ لهن من الأقمشة الملوّنة، ويُسلّمنهُ في عمليّةٍ سريّةٍ إلى الشباب لرفعه في المواجهات مع قوّات الاحتلال. تروي السيدة سهام الطويل من بلدة بيت ساحور، في فيلم "المطلوبون 18" كيف كانت هي وصديقاتها يذهبن بالتناوب إلى محلّات القماش لتشتري كلَّ واحدةٍ مِنهن في أوقاتٍ مُختلفةٍ قطعة قماشٍ بِلونٍ مختلفٍ من ألوان العلم، حتّى لا يتنبه أحد لما هنّ مُقدِمَاتٍ على تخييطه. لاحقاً، تجتمع هؤلاء النسوة في بيت إحداهنّ، فينشغل بعضهن في صنع العلم الفلسطيني من القماش، في حين تراقب إحداهنّ البيت في حال اقتراب غير المرغوبين منه.

في المقابل، استَخدِم العلم الفلسطيني في ظلّ الانتفاضة الأولى كـ "باسورد" للدخول بسيارتك ذات لوحة التسجيل الصّفراء2 إلى شوارع وأحياء الفلسطينيين، إذ جرت العادة أن يضع أصحاب تلك السيارات العلم على "تابلو" السيّارة ليعلم الشبّان أن من بالسيارة فلسطينيون، فيمتنعون بذلك عن رشقها بالحجارة. في إحدى الليالي، وفي طريق عودتها هي وزوجها إلى منزلهم في مدينة رام الله، تروي إحدى السيدات أنّ العلم "مفتاح الأمان" لم يكن ظاهراً بما فيه الكفاية، لأن الضوءَ الداخليّ في السيّارة معطّل، فحظيت السيارة برشقات من الحجارة ظانّين أن من بداخلها إسرائيليون، فأصيبت السيّدة في وجهها ونقلت إلى المستشفى.

وإلى اليوم، يحمي العلمُ الأمواتَ كما الأحياء، ففي جنازات الشّهداء نراه ملتفاً حول جسد الشّهيد. يكونان هنا: العلم والشهيد، تعبيراً جامعاً للفلسطينيين وتذكيراً لهم بوجود الاحتلال، وعامل تعبئة وحشد. في جنازة الشّهيد ساجي درويش، حمله رفاقه وساروا به وهو مكفّن بالعلم، وصلوا مقبرة بلدته بيتين ودفنوه، ومن ثمّ أخذوا دم الشهيد وأعلامهم -التي لفّوها كلثام على وجوههم- معهم إلى مواجهة قوّات من جيش الاحتلال كانت بانتظارهم مسبقاً.

رؤية عَلمين

أثناء جلوسك في مكانٍ مرتفعٍ في مدينة القدس مثلاً، ستتعرّض عيناك لمشهد العلم الإسرائيلي، فلا يخلو أفق رؤيتك من ظهوره مهما حاولت تغيير زاوية النّظر. هذا التعرّض الدائم لنفس العلم، قد يخلق شيئاً من الاعتياد والروتينيّة، فرؤيتك للعلم يوميّاً لا تعد باعثة لذات القلق والصدمة.

سارية العلم الفلسطيني في طولكرم كما تظهر من الأراضي الـ 48
سارية العلم الفلسطيني في طولكرم كما تظهر من الأراضي الـ 48

في مشهد آخر، يقتحم جيشُ الاحتلال الاسرائيليّ بلدةَ سبسطية شمال غرب نابلس، ويشتبك مع شبّان القريّة، ثمّ يتجهُ نحو سارية العلم الموجودة في تلّة عيسى، ويُفجّر السّارية لإنزال العلم. لكن لماذا أزعج العلم الفلسطيني قوّات الاحتلال لتعاود اقتحام القرية أكثر من مرة بهدف إنزال العلم الّذي لا يملّ أهالي القريّة من محاولة رفعه من جديد في نفس المكان؟3

تتربّع سارية العلم على تلّة عيسى؛ منطقة أثريّة ضمن منطقة "ج"4. تطلّ التلّة على مستعمرة "شافي شمرون"، ويظهر العلم الفلسطينيّ مرفرفاً فوقها. مشهدٌ من الممكن أن يحيل لاحقاً إلى أن وجود الفلسطيني أمرٌ طبيعي، لذا يبدو معقولاً إصرار الاحتلال إنزال العلم عن ساريته، فالسيطرة على الأرض هي نفسها السيطرة على الأفق.

ثمنُ رفع العلم

في خطابه الأوّل في الأمم المتحدة، عام 1974، طلب ياسر عرفات من جموع ممثلي الدول المتواجدين، ألاّ يُسقِطوا غصنَ الزيتون من يده. وقتها بدأت مرحلة جديدة في الحديث عن "الدولة" وما يستتبع ذلك من رموز، بدلاً من الحديث عن "التحرير. هي مرحلةُ استمرت على نهجها السّلطةُ الفلسطينية، حتّى حصلت فلسطين عام 2012 على صفة عضوٍ مراقبٍ في الأمم المتحدة. حينها رُفع العلم مُثقلاً بوهم "الدولة"، متخفّفاً من معناه وفاقداً لأي معنى من معاني السيادة.

في هذا السياق يقول محمود درويش في قصيدته "مديح الظل العالي"، مُسائلاً حُلم عرفات: "ماذا تريدُ؟ وأنت من أُسطورةٍ تمشي إلى أُسطورةٍ. عَلَمَاً؟ وماذا تنفع الأعلام؟ هل حَمَتِ المدينَةَ من شظايا قنبُلَهْ؟". يحيلنا هذا المقطع للتساؤل عن رغبة السلطة الفلسطينيّة في رفع العلم الفلسطيني في "الأمم المتحدة" في حين أنه ليس بإمكانها أن تحمي علماً مرفوعاً في شوارع القدس مثلاً؟

في مظاهرات الاحتجاج على نقل السفارة الأميركية في القدس، كانت الأمور غالباً ما تظلّ هادئة نسبيّاً بين المتظاهرين الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين، إلى أن تُرفع الأعلامُ الفلسطينيّة فجأةً، فيقتحمُ الجنودُ صفوف المتظاهرين بالخيول، ويبدأ الضرب، ويلاحق الجنود كل من معه علم لمصادرته، ويعتقل جزءاً منهم في محاولة لتفريق صفوفهم وإعلامهم بأن رفع العلم هو الخطّ الأحمر لتحمّلهم تلك المظاهرة.

بعيداً عن هذا "الخطّ الأحمر"، وعلى بعد 25 كم شمال مدينة القدس، تقبع مدينة روابي على سلسلة من التلال. المدينة الّتي يقدّمها مؤسسها رجل الأعمال بشار المصري كـ"تحدٍّ للاحتلال وتثبيت للشعب الفلسطينيّ على أرضه"، رُفع على إحدى تلالها العلم الفلسطيني على سارية طولها 24 متراً، تحيط بها ساريات أخرى أقصر منها. يظهر العلم من بعيد عالياً يرفرف في سماء فلسطين، أما من قريب فهو مثُبّتٌ على قاعدة صنعت من إسمنت ومواد خام إسرائيليّة، تم استخدامها في عملية بناء المدينة.

بعد مدّة من إنشاء سارية روابي، احتفلت جموع فلسطينيّة رسميّة وغير رسميّة، برعاية الرئيس محمود عباس، حول دوّار جورج حبش في طولكرم، برفع العلم الفلسطيني على أطول سارية في فلسطين، بلغ ارتفاعها 60 متراً. ظهر ذلك على أنّه منافسة بين رأس المال والسلطة الفلسطينيّة على أطول سارية للعلم الفلسطيني؛ علمٌ تستطيع رؤيته من قرية أم خالد المقام عليها مستعمرة "نتانيا" ومن شارع رقم 6 الرئيسي في الأراضي المحتلة عام 1948، لم يزعج حجمه ولا شكله قوّات الاحتلال. حين رفع هذا العلم، كان "استكمالاً لجهود الرئيس برفع العلم أمام مقر الأمم المتحدّة" و"انتصاراً للدبلوماسيّة الفلسطينيّة"، حسب تعليق محافظ طولكرم، عصام أبو بكر.

على ما يبدو، أن ثمّة نوعين من الهوس لرفع العلم الفلسطيني: الأول يقتضي منك دفع ثمنٍ من لحمٍ ودمٍّ لرفعه، والثاني يحتاج سارية طويلة ليس إلّا. وللمفارقة، بينما كانت النساء في الانتفاضة الأولى تجتمعن سرّاً لصناعة العلم، فإنّ رفع العلم على أطول سارية في فلسطين، كان من خلال اجتماعات تشاوريّة علنيّة ومصوّرة وببدلات أنيقة. لكنّ، وكما هو واضح، "علم عن علم بفرق".

  1. بعد توقيع اتفاقيّة أوسلو، أُزيل "تقنياً" المنعُ الإسرائيلي القانوني لرفع العلم الفلسطيني. مع ذلك، فإن شرطة الاحتلال تستخدم "القانون" لمنع رفعه، وبالأخصّ في القدس وفي الأراضي المحتلة عام 1948، برز ذلك في الانتفاضة الثانية، وفي الهبة الشعبيّة الأخيرة، ومن ثم في الاحتجاجات على قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل". وعلى الرغم من أن قانون منع رفعه أُلغي، إلا أن الشرطة تُبرر ذلك بواسطة تعليمات قانونية أخرى تُتيح لها الأمر بإنزال العلم في حال أدّى إلى "الإخلال بالسّلام والأمن"، أو من واقع قانون "منع الإرهاب".
  2. تحمل مركبات الفلسطينيين من القدس والداخل لوحةَ تسجيلٍ صفراء، وهي نفسها السيارات التي يركبها الإسرائيليون، فيما مركبات سكّان الضفة والقطاع كانت تحمل لوحة خضراء.
  3. في إحدى المرّات، بعد أن قامت قوّات الاحتلال بتفجير سارية العلم في البلدة، قام شبّان من البلدة بتثبيت السارية "بالباطون"، كما قاموا بحفر الطريق المؤدية إلى السارية حتى لا تستطيع قوات الاحتلال الوصول إليها.
  4. يحاول الاحتلال الاسرائيلي فرض سيطرته على هذه المنطقة بشتّى الطرق، كانت إحداها محاولة إنشاء طريق جديد للوصول إليها لا تمر عبر بلدة سبسطية