"لا يُمكِنُكَ تغيير الأوضاع، فالحلّ بالتالي هو تغيير أنفسنا وتحمّل مسؤوليتنا على الفشل". ليست المقولة السّابقة مقتبسة من كتاب تنمية بشريّة تجاريّ، أو من فيديو عشوائي لشابٍ عشرينيّ على الإنترنت يقدّم النصائح والإرشادات لحياةٍ أفضل. إنّما هي جملة قيلت بجديّة تامّة ضمن محاضرة لعالِم الأعصاب د. محمود حرزالله حول الأسرار الدماغيّة للفشل ضمن مؤتمر TEDx في مايو/أيار الماضي في جامعة القدس- أبو ديس. هذه واحدة من محاضرات كثيرة قدّمت في مؤتمرات TEDx في فلسطين، أوّلها مؤتمر في رام الله عام 2011 وآخر تبعه عام 2014، وآخر نُظِّم الأسبوع الماضي في جامعة بيرزيت، ومؤتمر قادم سيُنظّم في رام الله تحت عنوان" TEDx دوار المنارة" في سبتمبر/ أيلول المقبل.
إنّ الانتشار المذهل لهذا النّوع من المؤتمرات، ودخولها إلى فلسطين منذ 8 سنوات يحتّم علينا أن نطرح الأسئلة عن هذه المحاضرات، وعن المعرفة التي تقدّمها، وأن نفهمها ضمن السياق الفلسطينيّ.
140 ألف "فكرة تستحق الانتشار"؟
اكتسبت مؤتمرات TED العالميّة شهرةً كبيرةً في السّنوات الأخيرة؛ فلا بدّ لأي مستخدمٍ للإنترنت والإعلام الاجتماعي أن يكون قد مرّ على فيديو لإحدى المحاضرات في مواضيع مختلفة. عُقِدَ أول مؤتمر لـTED عام 1984 في ولاية كاليفورنيا، إذ بدأ كمؤتمر مغلق لفنانين ومصممين ومبتكرين في التكنولوجيا لمشاركة تجاربهم وأفكارهم. توقّف المؤتمر بعد ذلك لستّ سنوات لأسباب ماديّة، ثمّ عاد بقوّة في بداية التسعينيات مع توسّع في مجالات وخلفيّات المحاضرين، وأَخَذَ يكتسبُ شهرةً أكثر مع مرور السنوات.
شهدتْ بداية الألفيّة نقلةً أخرى لمؤتمر "تيد"، من ناحية تناول موضوعات جديدة مثل البيئة والتغيير المناخي. لاحقاً، جاء التغيير الأهم مع خروج المؤتمر من حدود موطنه الأمّ في الولايات المتّحدة الأميركيّة إلى دول مختلفة حول العالم تحت اسم TEDx، وهو اسم المؤتمرات المحليّة المصغّرة التابعة لـ"تيد"، ومنها المؤتمرات المنظّمة في فلسطين، والتي تُنظّم بموجب ترخيصٍ قانونيٍّ خاصٍّ يمنحه المؤتمرُ العالميّ. نُظِّم حتّى الآن أكثرُ من 30 ألف مؤتمرٍ محليٍّ حول العالم، إضافةً إلى 1,700 مؤتمرٍ مخططٍ له حتّى يونيو/ حزيران 2020.
يحمل المؤتمر الذي تنظّمه مؤسسة تيد شعار "أفكار تستحقّ الانتشار"، وترى المؤسسة بأنّ "الأفكار القوية قادرة على تغيير العالم". تنشر المؤسسة هذه الأفكار من خلال محاضرات لا يزيد طولها عن 18 دقيقة، يقدّمها أكاديميّون أو أصحاب تجارب أو خبراء في المجالات المختلفة. تتألّف كلمة "TED" من الحروف الثلاثة الأولى لكلمات "تكنولوجيا، ترفيه، وتصميم" بالإنكليزيّة، إلا أن المؤتمر بات يتناول مواضيع في مجالات أوسع من المذكورة. يمكن اعتبار بدء نشر فيديوهات مسجّلة لمحاضرات المؤتمر عبر الإنترنت اللحظةَ التي شهدت الانتشار الأوسع لـ"تيد". حتّى اللحظة، نشرت قناة TED أكثر من 3 آلاف محاضرة (أكثر من 14 مليون مشترك في قناة يوتيوب فقط)، وحوالي 140 ألف محاضرة من TEDx، وهي محاضرات نالت ما يفوق المليار مشاهدة.
النسخة الاحترافيّة لمبدأ "شوف جيالك وين صاروا"
قد تكون فكرةُ تبسيط العلوم وإتاحتها لفئاتٍ مختلفةٍ من الناس ثوريّةً وممتازةً فعلاً، إلا أنّ شبحاً حقيقيّاً يهدّد هذا المسعى دوماً، وهو تهديد يتمثّل بالتبسيط المبالغ فيه إلى درجة الانتقاص من القيمة الحقيقيّة للموضوع. هذه فعلاً إحدى مشكلات محاضرات TED، فإنّ مجرّد التفكير بإمكانية تقديم مواضيع زخمة ومعقّدة تتضمن جدلاً واسعاً وآراء مختلفةً ومتناقضةً، كمواضيع فيزيائيّة أو سيكولوجيّة معقّدة، خلال مدّةٍ زمنيّةٍ قصيرة، تُشير إلى كمّ الاختزال والتسطيح الذي تُطرح به المواضيع.
ليست محاضرات TED حالةً نادرةً من هذه الناحية في العصر الرقميّ، بل تشهد أيّامنا هذه العديد من النماذج التي تقدّم وجباتِ معرفةٍ سريعةً مليئةً بالدّسم وخالية من مراكمة معرفيّة مفيدة وحقيقيّة، قد يكون أشهرها على المستوى العربي برنامج "الدحّيح" على منصّة AJ+.
ليس على المحاضرات المقدّمة في مؤتمرات TED المحليّة أو العالميّة أن تكون بسيطة ومتاحة فقط، إنما على طريقة تقديمها أن تتسّم بالإثارة والتشويق، وأن يمتلك مقدّمو المحاضرات كاريزما وقدرة ما على شدّ المشاهدين مهما كان موضوعهم مملاً أو معقّداً. يمكن بسهولة ملاحظة التشابه الكبير في أسلوب العرض بين جميع المتحدّثين في المؤتمر باللغات المختلفة من خلال عناصر ثابتة، مثل الاعتماد على القصّة الشخصيّة بشكلٍ أساسيٍّ وتوظيف مواقف ولحظات "حابسة للأنفاس" منها، واستخدام نكات أو مواقف كوميديّة، وروح التحفيز والتفاؤل والإيجابيّة المعهودة في خطابات التنمية البشريّة وتطوير الذات.
من الجدير بنا العودة إلى فكرة الاعتماد على القصّة الشخصية للمتحدّثين في محاضراتهم، باعتبارها فكرة مركزيّة فيما يقدّمه المؤتمر، ومن أكثر المسائل التي تستحقّ المساءلة فيه. من المفترض أن تشكّل هذه القصص "نماذج للإلهام" لنا كأشخاصٍ عاديّين لا نملك "تجارب ملهمة" شبيهة. بذلك يقدّم المؤتمر بشكل أو بآخر مقولةً –بشكلٍ واضحٍ أحياناً ومضمر أحياناً أخرى- مفادها أنّ عدم تميّزك وتفوّقك (إن افترضنا أن النماذج المقدّمة هي مثال "نجاح" حقيقيّ من الأساس) هي بسببك أنت، وليس بسبب السّياق السياسيّ والاجتماعيّ الذي نعيش فيه، وإلّا فلمَ لا نحقق نحن ما حققه مقدّمو المحاضرات؟
لفهم ذلك يمكن النظر بشكلٍ سريعٍ إلى نماذج من المحاضرات التي قُدِّمت في فلسطين، ابتداءً من متحدّثة عام 2011 استطاعت العمل في كلّ ما تحبّه من بيع الفلافل والهندسة المعماريّة حتّى أصبحت كاتبة في نهاية المطاف، إلى قصة إصرار معلّمة على التعليم والعمل رغم الظروف الصّعبة والنشأة في مخيّم لاجئين وحصولها على لقب "أفضل معلّمة في العالم". وفي قصّة أخرى تطلّ علينا خريجة من تخصص الصحافة والإعلام من جامعة بيرزيت "استطاعت أن تجد عملاً في سنتها الدراسية الثالثة، وفي ثلاث مؤسسات إعلامية"، رغم أنّ نسبة البطالة بين خرّيجي الإعلام تصل 80 بالمئة، وكانت الفكرة من محاضرتها: "مهما كانت البطالة في تخصصك، أنت من تصنع لك حضوراً في سوق العمل، فقط تكلى بالشغف" (الخطأ في النص الأصليّ على صفحة TEDx BZU). وغيرها من القصص الكثيرة سواءً في TEDx فلسطين أو حول العالم حول الشفاء من أمراض عضويّة ونفسيّة، والتحوّل من الفشل الدراسيّ أو الماديّ إلى التفوّق، وغيرها من التجارب الفرديّة والخارجة عن السياقات السياسيّة والاجتماعيّة المختلفة في كلّ بلدٍ وبلد، والبعيدة عمّا نحتاجه فعلاً من دعمٍ وتغييرٍ جماعيٍّ.
ليست الإشكاليّة الوحيدة في قصص TEDx أنّها شخصيّة، بل أنها ورديّة كذلك، أو بالأحرى ورديّة أكثر من اللازم. صحيحٌ أنَّ جرعات الأمل وتقوية الإرادة قد تكون مهمّةً في عالمنا الذي يعتريه العنف والضعف والألم، إلا أن الموضوع هنا يتحوّل إلى مسرحيّةٍ مبتذلةٍ حول الحياة أجمع، فتغيب مواضيع الفشل والبؤس من حيوات المحاضرين، وهو الأمر المستحيل، على الأقل في بقعة من العالم مثل فلسطين. الخطير في الأمر فعلاً أنّ هذه الأوهام الورديّة تتخذ في TED طابعاً "علميّاً" ومصداقية أكبر كونها تُعرض في احتفالية عالية المستوى، ما يجعل من الأسهل تصديق خرافات مثل أن الإبداع والرياديّة يقودان بحدّ ذاتهما، دون النظر إلى أي سياق وظروف محيطة، إلى مستقبلٍ مشرقٍ، أو أنّه يكفي أن تحمل "شغفاً" لعمل ما حتى تحصل عليه فعليّاً.
من الجليّ لأي متابع، سواء للمؤتمر العالميّ أو للمؤتمرات المحليّة، مستوى السقف السياسيّ الذي يمكن للمحاضرات الخوض فيه. تُطرح في المؤتمر مختلف المواضيع دون ربطها مع البنى الاقتصاديّة والسياسيّة المختلفة، فلا يتطرّق المؤتمر إلى قضايا جوهريّة حاسمة في حياتنا، مثل الاستعمار أو الرأسماليّة. وإن حدث وتناولت بعض المحاضرات موضوعاتٍ نقديّةً مثل التغيّر المناخي أو البنى الجندريّة فهي لا تخدش ما يجب خدشه فعلاً من طبقات أعمق لهذه الموضوعات.
يمكن القول إنّ الهوية السياسيّة لمحاضرات تيد وتيدكس هي أن لا سياسة فيها، حيث تتسع أجندة المؤتمر لأي موضوع للطرح على أن يكون مفصولاً عن سياق أو بنية أوسع، ودون الانتباه إلى ما يمكن أن تمثله الشخصيات المتحدثة من سياسات. فحتى لو حاضر في تيد أشخاص مثل رئيس الولايات المتحدة الأميركية سابقاً بيل كلينتون، ورجل الأعمال والملياردير الرأسمالي بيل غيتس، وحتّى علماء قديرين ومعروفين بإنجازات علميّة حقيقيّة ومواقف سياسيّة مشرّفة مثل ستيفن هوكينجز، فإنّ ذلك يبقى مفصولاً عن السّياق السّياسيّ.
نحن المشكلة، وليس الاحتلال
لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل الواقع السياسيّ الاستثنائيّ في الحالة الفلسطينيّة، وهو ما يفرض ذكر الوقائع السياسيّة في مؤتمرات TEDx في فلسطين، ولا يسمح بتجاهلها. إنّما وفي الوقت ذاته، تُعرض هذه الوقائع بمستوى سطحيّ لا يمسّ جوهر الأمور، مثل ذكر أثر الاحتلال في تصعيب حياتنا بشكلٍ عابر، أو إرسال تحيّة إلى غزّة المحاصرة. يمكن أن يكون ذلك الذكر في أكثر الحالات مفارقةً وعبثيّةً، إذ تبدأ المحاضرة بمقدّمة تاريخيّة وتحليلّ للواقع السياسيّ الاستعماريّ في فلسطين بالسيطرة على الأرض ونهبها، ليتبيّن بعد ذلك أنّها محاضرة حول مشروع استملاك أراضي تابع لشركة الاتّحاد للإعمار والاستثمار الخاصّة. الأخيرة هي شركة عقاريّة تأسست عام 2005، وتهدف إلى "استقطاب المستثمرين العالميين والمحليين إلى فلسطين"، وبذلك حتّى الحديث عن السيطرة الاستعمارية على الأرض الفلسطينيّة يأتي في سياق الترويج لمشروع تجاريّ ومشروع نجاح شخصيّ.
بالجمع بين النقاط التي ذكرتها أعلاه، لا يقدّم مؤتمر TEDx مضموناً سياسيّاً فعلاً، وإن حصل وحاول التطرق إلى مضامين سياسيّة، فإنها تبقى قاصرة لأنها حبيسة القصص والتجارب الشخصيّة لأصحابها، ومحكومة بمعايير المؤسسة من ناحية ضرورة تقديمها ما هو محفّز وإيجابيّ. لا يرقى، بالتالي، التحليل السياسيّ في مؤتمرات فلسطين إلى أن يجعل الأفكار الواردة بها "تستحق الانتشار" كون الأفكار التي نحتاجها فلسطينيّاً تتطلّب تغييراً جذريّاً وجماعيّاً في وضعنا الصّعب.
المحتوى منزوع السياسة في محاضرات TEDx هو نتيجة طبيعيّة لهذه المحاضرات كونها تعبّر عن قصص وتجارب فرديّة مستنسخة عن التجربة الأميركيّة في الحديث عن الترفيه والتكنولوجيا والفنّ وغيرها. ويبدو أن التفاعل معها فلسطينيّاً هو انعكاسٌ لطرق التفكير والمعيشة في مجتمعنا التي تتوّجه أكثر فأكثر نحو قيم الفردانيّة والليبراليّة. أخذت هذه القيم تتعزز منذ بداية التسعينيات نتيجة التغيّر السياسيّ الفلسطينيّ والتحول نحو الحكم الذاتيّ الذي اتّبع سياسات اقتصاديّة أعطت الأهميّة الكبرى لأصحاب رأس المال وللسوق، ممعنةً في نهج الخصخصة والتسهيلات البنكيّة وغيرها.
تحوّلت طريقة تفكير الفلسطينيّ وأنماط تخيّله لعيشه في العقد الأخير من كونه عضواً في جماعة ينتمي إليها ويسعى إلى إحداث التغيير في أوضاعها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، إلى كونه فرداً يسعى حصراً إلى أفقٍ شخصيٍّ ينجو من خلاله من السياسات الاقتصاديّة والوضع السياسيّ الصّعب، فيغدو أقصى طموحه أن يجد وظيفة أو أن يخوض في ممارسات استهلاكيّة، وأن ينجو بنفسه.
بذلك يكون من المتوقّع أن تشكّل أفكارٌ حول التنافس في سوق العمل والقدرات المطلوبة لذلك، أو حول أثر التفكير الإيجابيّ في تحسين حياة الفرد مثلاً، مواداً مغريةً لمحاضراتٍ ذات إقبالٍ شعبيٍّ، فهي -أي الأفكار- نتاج وتعبير عن القيم المجتمعيّة التي تشكّلها المنظومة السياسيّة والاقتصاديّة، وليس مؤتمر TEDx المثال الوحيد عليها، بل العشرات من البرامج والفعاليات التي تدور جميعها في فلك "تطوير الذات" و"الرياديّة" و"التفكير الإيجابيّ"، دون أي اعتبار لسؤال أين نعيش وما هي ظروفنا المحيطة.