11 نوفمبر 2023

"القضاء على حماس".. هل يقدر الاحتلال على ذلك؟

<strong>"القضاء على حماس".. هل يقدر الاحتلال على ذلك؟</strong>

بعد انطلاق معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، صرّح قادة الاحتلال، ومن حَالفَهم من دول الغربِ والعرب بما يشمل "شركة التنسيق الأمني" في رام الله، بأنّهم يريدون القضاء على حركة "حماس"، واجتثاثها بأجهزتها وقادتها وأبنائها جميعاً. 

في هذا الإطار، صرّح رئيس وزراء الاحتلال: "سنضرب حماس حتى النهاية وننتقم بقوّة لهذا اليوم الأسود الذي ألحقوه بإسرائيل وشعبها". ثمّ بدأت التصريحات والمداولات تتوالى للترويج لما سُمّي "مستقبل غزّة بعد حماس"، وكأن هدف القضاء على الحركة ممكن أو حتميّ التحقيق.

مع طول أمد المعركة، وفي ظلّ جسارة مقاتلي القسّام وتميّزها عسكريّاً وإعلاميّاً، بدأ الحديث يتغير شيئاً فشيئاً، فتدرّج الهدف انحداراً من الاجتثاث الساحق إلى القول بتدمير الجهاز العسكريّ، ولاحقاً إلى تفكيك بُنية هذا الجهاز وإضعاف الحركة وإزاحتها عن السلطة في القطاع، وصولاً إلى اغتيال شخصيات بعينها كالسنوار، وغير ذلك. وهذا التدرج المنحدر، هو بشكلٍ أو بآخر، تقديمُ اعترافٍ باستحالة تحقيق ما سُمّي "القضاء على حماس". 

في هذا المقال، نرجع إلى محاولات الاحتلال السابقة والفاشلة في القضاء على حركة "حماس"،  ونركّز على بنية الحركة التنظيميّة وتكوين مقاتليها وأبنائها، وخصوصيتها في تاريخ الكفاح المسلّح، ودور ذلك في حماية الحركة واستمراريتها إلى يومنا هذا.

تاريخ من الضربات وإعادة البناء 

تعرضت حركة "حماس" على مدار 40 عاماً من عمر نضالها لعدة حملات أمنيّة مكثفة من سلطات الاحتلال بهدف القضاء عليها وتفكيك بنيتها التنظيميّة. وقد شملت تلك الحملات، التي يُسمّيها الناس "ضربات"، الاعتقالَ لكوادر الحركة، والإبعاد خارج فلسطين، والاغتيال.

كانت أولى تلك المحاولات عام 1984، قبل التأسيس الرسميّ للحركة، وتحديداً بعد صفقة سلاحٍ أجراها الشيخ أحمد ياسين عام 1983، حصل بموجبها على نحو 80 قطعة سلاح، بهدف مقاومة المحتل. وبعد اكتشاف سلطات الاحتلال لذلك، اعتقل العشرات من الكوادر المنتمية إلى ذلك التيار الذي تشكّلت منه حماس.

اقرؤوا المزيد: رحلة الـ33 عاماً.. سيرة عسكرية لبدايات "حماس"

وكانت ثاني الضربات بعد أن استأنفت الحركة عملها مرةً أخرى بكثافة مع اشتعال الانتفاضة الأولى أواخر عام 1987، وقام الجهاز العسكري في حينه بين شباط/ فبراير وأيار/ مايو من عام 1989 باختطاف جنديين من جيش الاحتلال (إيلان سعدون وآفي سبارتوس)، وعلى إثر ذلك اعتقلت سلطات الاحتلال كل قيادات الصف الأوّل من "حماس". عندها توقف عمل الحركة بشكلٍ كبير.

ثمّ بعد عامٍ ونصف تقريباً كانت الضربة الثالثة الأهمّ والمفصلية في تاريخ الحركة، وهي التي جاءت بعد تنفيذ كل من أشرف بعلوجي ومروان الزايغ عملية طعنٍ، أوقعت ثلاثة قتلى من المستوطنين في غزّة، وذلك في الذكرى الثالثة لتأسيس الحركة، 14 كانون الأول/ ديسمبر 1990. اعتقل الاحتلال بعدها أعداداً كبيرة من أبناء الحركة، حتى أنّ أحد أفراد "كتائب القسّام" قال لعبد الكريم حنيني يومها: "شكله إسرائيل رح تسجن كل واحد بتوضى". 

وقد وصف موسى أبو مرزوق تلك الضربة قائلاً: "الضربة كانت قوية لدرجة لم يعد هناك أي جهاز من أجهزة الحركة العاملة، لا الجهاز الجماهيري، ولا العسكري ولا الأمني ولا التنظيمي، ولا الإعلامي ولا السياسي في قطاع غزة، كل الأجهزة تم إيقافها وتعطيلها. كان الوضع وكأن الحركة اختفت من قطاع غزّة".

تبعت هذه الضربات المتتالية والمكثّفة ضربةٌ رابعة عام 1992، حين اعتقل الاحتلال أكثر من 1000 فلسطينيّ، ثمّ أبعدت حوالي 400 منهم من نشطاء "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ"، إلى مرج الزهور جنوب لبنان، وذلك بعد عملية اختطاف الجندي الإسرائيلي نسيم توليدانو.

اقرؤوا المزيد: "مرج الزهور.. تجربة المخيّم الذي فُكّت خيامه".

أما الضربة الخامسة، فقد جاءت من الأجهزة الأمنيّة للسلطة الفلسطينيّة والاحتلال سوياً، وذلك بعد عمليات الثأر عام 1996 التي أطلقتها "كتائب القسّام" انتقاماً لمهندسها يحيى عياش، والتي قتلت فيها 46 إسرائيلياً. في حينه شُلّ عملُ الحركة تقريباً، العسكريّ منه تحديداً، فالكثير من مقاتلي وقادة القسّام أصبحوا في السجون، إلى أن انطلقت انتفاضة الأقصى عام 2000. حينها أصدر الشيخ أحمد ياسين قراره بإعادة ترميم الجهاز العسكريّ، وكُلِّف بذلك الشيخ صلاح شحادة كقائدٍ عام للكتائب، ومن بعده مباشرةً محمد الضيف (أبو خالد).

الأسير عباس السيد برفقة الشهيد جمال منصور والشهيد يوسف السركجي على مائدة الطعام من داخل سجن جنيد التابع للسلطة الفلسطينية، عام 1997.

ويمكن اعتبار الحملة الأمنيّة الشرسة التي شنتها السلطة الفلسطينيّة على كوادر الحركة في الضفّة الغربيّة عقب أحداث عام 2007 (التي عُرِفت بـ"الانقسام")، ضربةً سادسة. ورغم ذلك، وجدنا من خلال بعض الأحداث، كالانتخابات المحليّة في البلديات، أنّ التنظيم أعاد ترميم نفسه ونجح في تحقيق الفوز في بعض البلديات.

اقرؤوا المزيد: "هل تأخرت "حماس" عن الالتحاق بالانتفاضة الثانية؟"

رغم كلّ تلك الضربات وتتاليها وقسوتها، تمكّنت الحركة استعادة نفسها في كلّ مرة. شمل ذلك أيضاً جهازها العسكريّ الذي مرّ أبناؤه بظروفٍ صعبة للغاية أجبرته على التفكك بعد كل ضربة، ومن ثمّ ترميم نفسه من جديد ليكون أقوى من السابق. ولكن ما السرّ في عودة الحركة من جديد في كلّ مرة؟

كيف يُجند التنظيم أبناءه؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال مرتبطة، بشكلٍ أو بآخر، ببنية الحركة التنظيميّة، فحركة "حماس" تنظيم لا مجرد أفكار عائمة تجمع الناس، أي أنّها تملك بنيةً وهيكليةً تنظيميةً تُمكّنها من إنتاج قادتها وأفرادها من جديدٍ كلّما احتاجت. تضمُّ الحركة عشرات الآلاف من الأفراد (ربما يتجاوزون الـ100 ألف)، وهي مؤسسة متوزعة على عدة أقاليم وليست في مكانٍ واحد، من إقليم غزّة والضفّة والسجون والخارج. 

اقرؤوا المزيد: موجز سيرة "حماس".. من بدايات الدعوة إلى مأزق السلطة

كما أنّ هناك علاقة مميّزة بين الجهاز الدعويّ، الذي هو نواة الحركة، وبين تنظيمها السياسيّ. لأنّه بمجرد التحاق أيّ فردٍ في أسرة (أو حلقة دعويّة) فإنّه يكون من أبناء الحركة، لكنه في الوقت ذاته ليس في أجهزة الحركة، أي أنّه غير مكلّف بمهام محددة وليس له موقع عمل مباشر، فإنّ أي شخص فيها هو عبارة عن ترس في مجموعة متاريس موصولة ومفصولة عن بعضها في الآن ذاته.

في مقابلة مع أحد أفراد الحركة من الذين لا يملكون صفة تنظيمية، روى لي قصةً توضّح أهمية هذه القاعدة التنظيميّة الواسعة وكيف يمكن أن تتحوّل إلى قوّةٍ فعّالة فجأة، فبعد ضربة عام 1989 زار هذا الشخصُ أحدَ أقاربه في سجن غزّة، وكان قريبه في زنزانةٍ واحدةٍ مع الدكتور عبد العزيز الرنتيسي. عندما رأى الرنتيسي هذا الزائر، بادره بالسؤال: "كم واحد ضايل في التنظيم من خانيونس؟" ردّ عليه: "في الزيارة الجاي بخبرك، بعد ما أسأل مسؤول الحركة في خانيونس"، وفي الزيارة اللاحقة نقلَ جوابَ مسؤول المنطقة إلى الرنتيسي بأنَّه قد تبقّى 70 شخصاً فقط.

بعد الزيارة بأيام، كان هذا الرجل، أي الزائر، يحدِّثُ نفسَه: "معقول بس 70 واحد في كل هالمحافظة؟ لازم نعمل شي!"، وهنا بدأ بالتحرك فوراً، وجمع الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15-20 عاماً، وقدّم الدروس والإرشادات الدينية لهم، وذلك بهدف تجنيد أكبر قدر ممكن منهم لصالح الحركة، ورغم اعتراض مسؤولي خانيونس عليه لأنه يُخرج العمل من السريّ إلى العلنيّ، إلا أنّ مسؤول المحافظة وقف إلى جانبه ووضع ثقته فيه، مع وضع مجموعة من المحدِّدات لأسلوب العمل الجديد.

كان الرجل يبلغ من العمر يومها 27 عاماً، ولم تكن له أي صفةٍ تنظيميّة في "حماس" سوى أنه ابن جهازها الدعويّ، لكنَّهُ تمكّن خلال عامٍ ونصف تقريباً من نقل أبناء "حماس" في خانيونس من 70 شخصاً إلى 900-1000 شخص، جرى ضمهم بعد أشهر إلى جهاز "الاستيعاب" في الحركة، ومنه التحق العشرات إلى جهاز "الأحداث" الذي كان مسؤولاً عن العمل الجماهيري في الانتفاضة الأولى، ومن المهم أن المحافظات والمخيمات الأخرى في القطاع تجرأت على ذات العمل وبدأت تنشط وتسعى إلى تجنيد الشباب. 

يخبرني الرجل كيف توقف نشاطه بعد اعتقاله نهاية عام 1990 على خلفية هذه الأعمال، ولاحقاً أُبعد إلى "مرج الزهور" جنوب لبنان. هذا فرد واحد، وَلَّدَ مئاتٍ آخرين، وربما آلاف. وخلال سنواتٍ قليلة، بات العديد منهم شهداءَ في الانتفاضة الثانية، وقاد آخرونَ فصائل عسكرية داخل "كتائب القسّام"، وبعضهم ما زال إلى اليوم من قادة الوحدات (مدفعية، صاروخية، القنص). لكنَّ الشخص الذي أدخلهم في حماس، لا زال لا يحمل أي صفةٍ أو موقع داخل البنية التنظيميّة للحركة، وهو ما يكشف بوضوح، كيف أنَّ بنية هذه الحركة ونواتها هو جهازها الدعوي، وهو جهازٌ عصيٌّ على التفكيك، وكل شخص فيه يمثل ترساً ضمن المؤسسة الأم.

واستكمالاً للنقطة ذاتها، بعد ضربة عام 1990 التي فكّكت كلَّ أجهزة "حماس" كما ذكر أبو مرزوق أعلاه، فإنّ ذلك دفعه إلى ترك الولايات المتحدة والذهاب إلى غزّة وتأسيس الحركة من جديد، وبهيئات إدارية وأجهزة جديدة، وقد وضع كلَّ ماله وثروته في بناء الحركة.

عقد مع السماء

لماذا كل هذا الإصرار من أفراد وأبناء "حماس" على استكمال واستنهاض الحركة ومشروعها؟ لقد صرح الشيخ أحمد ياسين في شهادته على العصر بالمحددات الثلاثة التي يُقبل بناءً عليها الفردُ للدخول في "حماس" أو جهازها الدعوي، وهي: "مؤمن، له تاريخُه المشهود له بالإيمان، وحبّه للجهاد". من بعدها يلتحق هذا الفرد بسلسلة طويلة من الاختبارات ومن التربية الإيمانيّة والنفسيّة، وتُطلب منه عشرات المرات مهمات ليست سياسيّة أو عسكريّة، بل اجتماعيّة ونفسيّة ودينيّة، والسلسلة الطويلة ليست أياماً وشهوراً معدودة، بل ربما تمتد لسنواتٍ من المتابعة والمراقبة والتهذيب حتى يتصل زمانه بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم وجيل الصحابة، وينتقل عقده مع الدنيا الفانية ليكون عقداً مع ربِّه في السماء، وهو ما يزيد ويكثّف من فاعلية فعله في الدنيا.

طفل فلسطيني يحمل ملصقاً للشهيد يحيى عياش خلال تظاهرة في بلدة رافات - معقل رأس الشهيد عياس، وذلك عقب اغتياله في قطاع غزة.

 

انظر مثلاً كيف يُعبِّئ ويحشد الشهيد أيمن نوفل شباب "القسّام" في مسألة التحرير أثناء التدريبات: "يلي بده يحرر بده ينام ويأكل ويشرب ويتنفس وهو بفكر بالتحرير وبآلية التحرير وكيف سنكون وكيف سنقاتل وكيف سندافع ونهاجم". 

وفي هذا الصدد أتذكر قبل ثلاث سنوات قول أحد شباب "القسّام" لأحد الأصدقاء: "ليش بدك تهاجر وتسيب غزّة؟ هما كلهم 4-5 سنين ورح نحرر فلسطين ونصلى كلنا في المسجد الأقصى، اصبر شوي واحضر معنا التحرير". هذه كلمات كانت موضع سخرية يومها، ولكنها بدت اليوم أقرب إلى الحقيقة والواقع.

وهذا يُذكّرنا بعاملٍ آخر يجعل هذه الحركة عصية على الكسر، فهي ليست مجرد أيديولوجيا وأفكار تُستمد وتنهل من قارات خلف المحيطات، وليست مرتبطة بمشروع موسكو وتنهار بانهيار المركز، إنّما هي حركةٌ تستمد قيمها وأخلاقها ومحدداتها من دينها ودين الناس في منطقتها وحضارتها العربيّة الإسلاميّة.

خصوصية الحركة في النضال الفلسطيني

ثمة مسألتان تُميّز حركة "حماس" عن باقي فصائل المقاومة الفلسطينية، وهي التي ساهمت، برأيي، في استمرارية الحركة. أولاً، لو نظرنا إلى عمر الحركة سنجد أنّها تعمل منذ 40 سنة، من عام 1983 تقريباً، وهذا العمر هو أطول من عمر أي حركة مقاومةٍ فلسطينيّة أخرى، ليس بالمعنى الزمنيّ فقط، بل هي أربعون عاماً كاملة من النضال، وليست فيها أي لحظة مهادنة مع المحتل أو اعترافٍ به أو جلوس معه على طاولة المفاوضات. ويمكن هنا النظر إلى حركة "فتح"، التي لم يستمر نضالها بشكلٍ رسميّ وكبرنامجٍ مثبت سوى 23 عاماً، من لحظة التأسيس حتى عام 1988 حين بدأت الحركة ومنظمة التحرير (بكل فصائلها) التفاوض مع "إسرائيل". 

ولكن ما يجعل من "حماس" ذات خصوصية هو أنّها ليست حركةً مُشخصنة، بمعنى أن استمرارية عملها ومشروعها غير مرتبط بشكلٍ وثيقٍ بمَنَ أسّسها ومَنَ يقودها، هي متجاوزة للأشخاص. فمثلاً؛ حين جرى اعتقال الشيخ أحمد ياسين وكل القيادات عام 1989، ظنّت "إسرائيل" أنها حيّدت الحركة عن فعلها في الانتفاضة، إلا أنّه بعد أسبوعٍ صدر بيانٌ باسم الحركة، وهنا جاء المحقق يسأل الشيخ ياسين: "احنا حبسناكوا كلكوا ومع هيك ضايلين شغالين، انتوا من وين بتطلعوا بيانات إذا الكل في السجن؟"، هذا حدث مهم لفهم مدى تشابك الحركة وتجاوزها للأفراد.

اقرؤوا المزيد: كيف أدارت "حماس" جهاز الحكم في غزة؟ 

ولذلك نلاحظ أنَّ كل جيل المؤسسين الأوائل، بل وحتى قيادات الصف الثاني، قد اغتالهم الاحتلال، ولم تنهار حركة "حماس" أمام أي خسارتهم، بل إنّهم شكّلوا لكل الأجيال اللاحقة مبعث أمل ومراكمة للثأر والانتقام في نفوس أبناء "حماس"، لا محل إحباط وخوف من أن يلقوا المصير ذاته. فيما حركات فلسطينية أخرى ماتت على يد من أسّسها وليس مع موته البيولوجي فقط.

الشيخ أحمد ياسين خلال مشاركته في جنازة الشهيد إسماعيل أبو شنب بعد أن اغتاله الاحتلال في غزة، في 22 أغسطس 2003. وبعد أقل من عام اغتال الاحتلال الشيخ أحمد ياسين.

ثانياَ، لـ"حماس" خصوصيتها بأنّها اتخذت من فلسطين، وغزّة تحديداً، قاعدةً لمقاومتها وليس أراضي الآخرين، وتنهل من أرض غزّة شبابها ونضالها ولم تكلّف أحداً من خارج فلسطين عبء نضالها ومقاومتها. لم تتخذ "حماس" من الدول العربية أرضاً لمقاومة "إسرائيل" حتى تقع تحت ابتزاز الأنظمة السلطوية العربية كما جرى في الأردن عام 1970 أو نموذج خروج المنظمة من بيروت عام 1982. 

ولـ"حماس" في غزّة حاضنة جماهيريّة وشرعية، وقد اتخذت شرعيتها انعطافة غير مسبوقة من خلال معركة "طوفان الأقصى". بمعنى، خلال السنوات الأخيرة بدأ الشعور يخيّم على الفلسطينيين وعلى غيرهم، أنّ "حماس" وصلت إلى مرحلة تريد فيها الحفاظ على سلطتها وحكمها في غزّة، ولم تعد معنية بخوض حروب مع "إسرائيل"، كما شعرنا في جولات العدوان ضدّ "الجهاد الإسلامي" في العامين الأخيرين، وهو ما دفع كثيرين إلى رفض الحركة وتصوراتها وما قد تقدم عليه في المستقبل. هذا إلى جانب سوء إدارة "حماس" كحكومة في غزّة، وإثقال الغزيين بالضرائب والمضايقات.

إلا أنّ طوفان الأقصى جاء ليوقف كل هذا الهذيان في المنطقة العربية وحالة تآكل شرعية "حماس" في غزة وخارجها، فما حصل أكد وأعاد للناس تصورها عن "حماس" بوصفها حركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي. وبالتالي فإنّ "حماس" مرفوضة عند الناس اذا كانت ستصل إلى نموذج منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، رغم أن هناك مكاسب مادية من وراء نموذج كهذا، ولكن الناس يلتفون حول "حماس" حين تُأكِدُ قولاً وفعلاً أنّها حركة مقاومة رغم أي ثمن سيكلّف الغزيين، وهذا الثمن هو أرواحهم.

خلاصة القول، أنزلت "إسرائيل" خلال الأيام الماضية سقف أهدافها عدة مرات، من القضاء النهائي على الحركة، إلى تقليم أظافر الجهاز العسكري، إلى اغتيال شخصيات بعينها، لإدراكها استحالة اجتثاث الحركة من القطاع. ثم إنّ استحالة تحقيق مثل هكذا هدف تأكدت تاريخيّاً لأسبابٍ مرتبطة ببنية التنظيم الدعويّة والسياسيّة، ثمّ بالتكوين الإيماني والتربية النفسيّة والدينيّة لأبنائه ومقاتليه وثباتهم على المشروع، إضافةً إلى خصوصية "حماس" في حاضنة غزّة، مما يجعل "إسرائيل" تجد نفسها في مواجهة شعبٍ لا تنظيم فقط.