10 مايو 2023

يموت الشهداء بلا ألم، صح؟

<strong>يموت الشهداء بلا ألم، صح؟</strong>

كان شروق الشمس يوم أمس الثلاثاء، 9 أيار، باهتاً. سكون ساعات الليل الأولى استحال مرةً واحدةً إلى صخبٍ صاعقٍ تلمحه في حمرة شرايين عيون الناس التي لم تنم. الشوارع فارغة، والمحال مغلقة. أصواتُ مذيعي الأخبار تهبط من كلِّ شباكٍ وتتسلّل من كلِّ باب إلى آذان العابرين، وتدعوهم لشيءٍ واحدٍ فقط: الحزن العميق. 

تعبق رائحةُ الجوِّ بالركام والدهان المحروق. يحتشد الناس قرب البيوت المُهدّمة. يشرح بعضهم للآخر كيف داهم الصوتُ رأسَه. يُشير الطفل عائد الفيومي إلى بيته القريب من منزل عائلة البهتيني المستهدف، ويقول بحيويّة مفرطة: "كنت نايم. وفجأة حسيت بحاجة بتسحبني لتحت مثل المغناطيس". يمرِّن جسده، ويُعيد تمثيل المشهد، ثمَّ يخرج بالخلاصة التالية: "يعني الصواريخ لما تكون قريبة منك ما بتسمع صوتها! كمان ما بتحس فيها! هيك الشهدا بموتوا بدون ألم يا عم، صح؟".

 قرب حجرٍ كحجارة القدس

 بوجوهٍ جبسيّة كأنّها خالية من الدمّ تجمع المشيعون فوق حيطان المسجد العمري وفي زواياه، يحدقون في الجثامين المُمدّدة قرب المنبر، بصمتٍ عميقٍ تُمزّقه بين الحين والآخر حشرجةُ الإمام في سماعات المسجد وهو يأخذ نفسَاً ليستريح بين كلِّ جملةٍ وأخرى، كأنّه يرتق فتقاً في قلبه. للمسجد العمري انعكاسٌ خاصّ في مخيال الناس في غزّة. يقولون إنَّ حجارته القديمة المُدّببة تشبه حجارة القدس، ولأنّه ليس بالإمكان زيارة القدس: فلنصلِّ قرب حجرٍ يشبه حجارة القدس. لهذا أيضاً يُشيَّع كثير من الشهداء من المسجد العمري.

 قبالة كلِّ رأسٍ معصوب بالأبيض رأسُ حيٍّ يُمطره بالدمع كأنّه يحاول إعادته للحياة. تتحرك الجنازة، تختلط الأصوات، يشرح أحد المشيعين بصوتٍ مسموعٍ معنى المشاركة في جنازات الشهداء: "لا نعرفهم، لكن نحبهم.. حملوا عنا  الكثير، لذا، حق علينا أن نحملهم، وأن نمشي معهم تقرباً إلى الله عبرهم وبهم".

 البحث عن يدٍ يعرفها

 بعينين تائهتين يفتشُّ الحاج أبو محمد السواركة في الأيادي المتدلية من الأكفان عن يدٍ يعرفها ويألف ملمسها. نجح بعد أن دفعته الأكتافُ التي تحمل الجثمان في أن يسترق نظرةً لوجه الشهيد البارز بصعوبة، ثمّ مسح عينيه فوراً كأنه يودُّ أن يحذف من ذاكرته ما رآه: "ما تعودت أشوف وجه الدكتور جمال هيك!". يفرج بين شفتيه بأصابعه ويُظهر أسنانه: "شايف هدول الأسنان؟ كلهن ركبهن إلي الدكتور جمال لوجه الله!". 


يمشي بخطواتٍ ثقيلة كأنّ قيداً يُكبِّل قدميه، محاولاً اللحاق بالجنازة. يقول السواركة إنّ جنازة الدكتور جمال خصوان (53 عاماً) تُذكِّره بسمعة الدكتور الطيبة التي تسبقه دائماً: "هينا بنحاول نلحق فيه كالعادة".

 يُلملّم السواركة نفسه ويقول إنّ الدكتور جمال ترك في فمه إرثاً لن ينساه: "بدك أحسن من حد حط في فمك ابتسامة؟" لم يكن الدكتور جمال خصوان أحد أمهر أطباء الأسنان في غزّة فقط، بل تجاوز مهارته في المهنة بكرمه الشديد وإحساسه العميق بالغير، "أسهل شخص يمكن أن تصاحبه، وجه ضاحك، وقلب أبيض مش رح تقابل مثله، الأطباء بتعاملوا مع المرضى كأنهم مرضى، إلا هو بتعامل معهم كأنهم أصدقاء"، يقول السواركة.

يشرد قليلاً، ويقول: "إلي ما بعرف الدكتور جمال.. ما بعرف شيء... صوت بنته ميرال وهي تنادي "بابا" أصدق شيء ممكن يوصفه". استشهد الدكتور مع ابنه طالب الطب وزوجته الطبيبة في قصفٍ ليلة أمس.

البحث عن يدٍ يعرفها. رسم: إسراء الصمادي.

 هادراً كالماء

 يَشدُّ المشيعون هادي عن أبيه، لكنّه يتحلّل من أيديهم كأنّه بقعة زيت، ويهوي على جثمان والده وهو يصرخ: "سيبوني!" مرّ وقتٌ طويل على آخر مرةٍ رأى فيها والده الذي كان لا يظهر إلا قليلاً. حتى في حارته القريبة، بالكاد يمكن أن يلمحه أحد، في الليل يأتي ليسلم على أهله وزوجته، وفي الليل يذهب بعد أن يودعهم، هذا هو خليل البهتيني كما يقول جاره علي أبو سيف. لم يمضِ على زواج هادي سوى أقل من عام، وكان والده يتحين اللحظة التي سيحمل فيها حفيده، لكنه الليل الطويل الذي يحبُّه خليل.

 يوزّع الطفل محمد البدرساوي نظراته على البيت، ويقول إنه سمع أول الأمر شيئاً هادراً كأنّه ماء: "ما فكرت إنه قصف". ثم خرج فوجد خليل البهتيني محمولاً. من المنازل المحيطة يهبط نواح والدة خليل على مسامع المعزين في الشارع: "والله من بعده بيّن الألم". لخليل ملامح صلبة، لكن خلف هذا الجسد الصلب قلباً مرهفاً يرتجف إن أحس بألم والدته مريضة السرطان. قضى كل سنواته الماضية محاولاً توفير ما يمكن أن يُخفّف عنها، وكان يُخاطر بنفسه لأجل أن يُسلّم عليها. تبكي والدته: "خليل إلي بحمل هم الناس، الآن الناس حملته"!

 تداري ابنته لين وجهه المخضب بالدم، وتعاتبه: "ليه سبتنا يابا، ليه.. ليه". يختلط صوتها بصوت شقيقة الشهيد: "والله ما فيّ أطيب وأحن منه".  

 300 عام وتسعة أشهر

 تلتف الأجساد حول النعش الذي يحمل جثمانه وجثامين أطفاله. على يمينه طفلته ميار وعلى يساره طفله علي. يهمس مشيعٌ لآخر: "بقولوا أولاده كانوا قاعدين حواليه في مكتبه وهيهم تشيعوا معه".  قبل نحو 21 عاماً، وجّهت له نيابة الاحتلال حكماً بالسجن بـ300 عامٍ وتسعة أشهر. لكن بعد عشر سنوات مزّق طارق عز الدين ورقة الحكم وصنع بأصابعه شارة النصر وخرج من الأسر ساخراً من سجانه الذي تعهّد بعدم الإفراج عنه: "ها أنا خرجت رغماً عن أنفه، وسنُخرِج باقي الأسرى". وكان يقول إنّه أحسّ بعد أن تحرر بأنه عاش قدراً لا يمكن تصوّره من الحرية، لهذا، لم يعد يخشى شيئاً.  

كيف تركت الصواريخ منزل الأسير المحرر الشهيد طارق عز الدين؟ رسم: إسراء الصمادي.

وبقدر لطافة لكنته التي كان جيرانه يحبّون سماعها، كانت دماثة أخلاقه أول ما يدفع الناس للتقرب منه. أُبعِدَ ابن بلدة عرابة جنوب غرب مدينة جنين إلى غزة، وبقدر بعده عن بلدته كان قريباً منها كأن عينه لا تبصر غيرها. 

"ارفعني على كتفك يا عم بالله.. بدي أشوفه آخر مرة"، يقول الطفل أحمد صديق الشهيد علي وهو ينسل بين أجساد المشيعين محاولاً مجاراة الجنازة. يتذكر أنَّ علي وعده بأن يُعلّمه ركوب الخيل. كان علي وأخته ميار فارسين. يتتبعّ جمال أسامة الزبدة جثمان صديقه علي وهو يجاور والده، عزاؤه الوحيد أن صديقه علي استشهد رفقة والده، ولم يعش ليتألم الفقد الذي عاشه هو. "استشهدوا مع بعض، أحسن بيضلوا هم التنين مع بعض عايشين في الجنة"، يقول وهو يضيف اسماً جديداً لقائمة الشهداء الذين يحبهم: والدي، خالي، جدي والآن صديقي علي. 

يلتفّ الأهالي حول زوجة الشهيد، تحيطها الأيادي كأنها تخشى عليها السقوط، وهي تطبع بيدها قبلة على جباه زوجها وأطفالها. ليلة القصف، جمع طارق إخوته في مكالمةٍ وودعهم، كان طارق وأولاده على موعد مع رحلة بدروب مختلفة: أولاده في رحلة مدرسية، وهو من المقرر أن يسافر خارج غزة، لكن دمهم ارتحل إلى أمنيته الأخيرة التي كتبها بعد استشهاد رفيق دربه الشيخ الشهيد خضر عدنان: "هذا هو طريقنا.. وهذه هي أمنيتنا الشهادة في سبيل الله".

 فستانان.. للعروس وأختها

بعينين منتفختين، يحدق في الجثمان المسجى أمامه. تارةً يحيط بكفيه رأس الشهيدة، وتارة أخرى يرتل على رأسها القرآن. تسنده الأيدي من الخلف كأنها تخشى عليه من جلسته هذه. يميل برأسه على كتف والد الشهيدتين، خطيبته وأختها، كأنهما يحاولان أن يُطببا حزن بعضهما البعض. بعد نحو شهر من الآن كان من المفترض أن تُزف دانا عدس (19 عاماً) إلى عريسها، لكن حلماً خطفها من ذلك. يقول والدة الشهيدة إنَّ ابنته الشهيد إيمان (14 عاماً) حلمت بأنها ترتدي هي وأختها فساتين بيضاء. ضحك، وقال لها في حينه: بس أختك العروس!". يعاتب نفسه الآن: "كان كلامك صح يابا".

عريس يودّع "عروساً". رسم: إسراء الصمادي.

من صلصالٍ كالفخار

يحاول الناس تهدئته. كذّب الأمر كثيراً لكنه تعرّف أخيراً على جثة أخيه. يتلوى على الأرض كأنه يحاول مجاورة أخيه الشهيد: "كسرني يما.. كسرني". تؤازره الأصوات: "شهيد هذا.. شهيد". في خطبته الأخيرة، كما اعتاد أن يُسمّي أصدقائه كلماته الحماسية، قبض المزارع محمد يوسف أبو طعمية (24 عاماً) على سترته، وقال: هاد هو الشرف.. الشغل شرف. عصر يوم الثلاثاءّ 9 أيار، قضى شهيداً بقصف من طائرات الاحتلال. 

يرتل مشيعٌ وهو يعتلي مسطبة ليطل على الجنازة، أية: "خلق الإنسان من صلصال كالفخار". تعطي لفظة الكسر معنىً أكثر دقة للحركات التي تحيط أهالي الشهداء، إذ تبدو الأذرع التي تطبق على أهل الشهيد، كأنها محاولة لعناية شيء من الكسر، أو خشية أن يتكرر الكسر.

رسم: إسراء الصمادي.

 "الشعب يريد تدمير تل أبيب"

تتحرك أقدام المشيعين في عجالة، يد واحدة قد تتعثر، لكن أيادٍ كثيرة غيرها تلتقط النعش وتكمل المسير. يهتف المشيعون بصوتٍ مشحون بالغضب: "الشعب يريد تدمير تل أبيب". تتسرب أحاديث الناس إلى مسامع بعضهم: "خلينا ناخد هوايتنا (ضربتنا) أول بعدها بنحكي". بقدر الألم الذي حفرته المجزرة في قلوب الناس ثمة شعورٌ وإيمانٌ ثابت يسكنُهم بقدرتِهم على ردّ الأذى من حيث جاء. وهو شعور وإيمان صنعته وصاغته المقاومة في مخيال ناسها وما تزال تدفع ثمنه من دمها ودم أهلها.



8 ديسمبر 2023
اليوم 63: بدلاً من تحريره قتلوه

في خانيونس جنوباً، وفي جباليا والشجاعية وبيت لاهيا شمالاً، تجري أعنف المعارك بين المقاومة والجيش الإسرائيلي. تستهدف القسّام وسرايا القدس…

9 ديسمبر 2023
اليوم 64: باب المندب يتّسع

17.700 شهيد، 210 منهم في الساعات الأخيرة. عدّاد الشهداء في تزايد باستمرار، لا تألفوا الدم، ولا تألفوا المجازر، هذا ما…