23 سبتمبر 2021

الفاشية على أشكالها تقع

يد "إسرائيل" في قمع الاحتجاجات الكولومبية

يد "إسرائيل" في قمع الاحتجاجات الكولومبية

كتب هذه المقالة باللغة الإنجليزية الباحث والصحافي آلان ماكلود Alan Macleod، ونُشِرت على موقع Mintpressnews.com، بتاريخ 28 مايو/ أيار 2021 ترجمها باختصار وتصرف للعربية حمزة بن جعفر، وتنشر على "متراس" ضمن الجهود للكشف عن العلاقات الأمنية والاستخباراتية التي تنسجها دولة الاحتلال مع أنظمة الاستبداد في العالم، وتوظيفها ما تراكمه من خبرة في قمع الفلسطينيين لبيعه والترويج له عالميّاًَ. 

----

شنّت الحكومة الكولومبيّة حرباً مفتوحةً في الشوارع والأحياء مُحوّلةً إِيَّاها إلى ساحاتٍ للمعارك ضدّ المواطنين واحتجاجاتهم، وذلك في مسعاها لدفع وتثبيت السياسات النيوليبرالية المثيرة للجدل التي قادها الرئيس اليميني المتطرف إيفان دوكي Ivan Duque. من شأن تلك السياسات ضرب القطاع الصحيّ العموميّ، وخصخصة نظام التقاعد، وخفض الحدّ الأدنى للأجور، وفرض ضريبة بنسبة %19 على المواد الغذائيّة الأساسية، وذلك ضمن استراتيجيةٍ اقتصاديّةٍ يعتبرها المنتقدون والمحتجون هجوماً شاملاً على الطبقة العاملة الكولومبيّة التي ينتمي إليها غالبيةُ السكان.

وفقاً لإحصاءات حكوميّة، قُتِل 44 مواطناً على الأقلّ في سياق الاحتجاجات التي انطلقت منذ 28 أبريل/ نيسان 2021 ضدّ هذه السياسات، فيما يناهز عدد "المفقودين" الذين ما يزال مصيرهم مجهولاً (500 شخص). بالإضافة لـ100 شخص استهدفتهم طلقاتُ الرصاص الحيّ، و28 أصيبوا في أعينهم جراء القمع الشديد الذي نفّذته الشرطة وفرقةُ مكافحة الشغب المعروفة بوَحشيِتها (ESMAD)، وذلك بمساعدة تنظيماتٍ شبه عسكريّة مدعومةٍ من طرف الدولة.  ورغم تأجج الوضع، لم يُبدِ الرئيس دوكي أيَّ نيةٍ للتنازل عن خطواته هذه، رغم من تقهقر شعبيته إلى %18 محققاً أدنى مستوى من الشعبيّة في تاريخ رؤساء كولومبيا.

يقف ضباط شرطة مكافحة الشغب في كولومبيا في وسط أحد الشوارع، بعد قمع مظاهرات واشتباكات، تمر على كولومبيا ثلاثة أشهر من الاحتجاجات المناهضة للحكومة ضد حكومة الرئيس الكولومبي إيفان دوكي. (تصوير: Long Visual Press / Universal Images Group )

تُعزِّز من هذا القمع السلطويّ للحركة الاحتجاجيّة الكولومبيّة دولةُ الاحتلال الإسرائيلي، فباستثناء الولايات المتحدة الأميركية، تُعَدُّ "إسرائيل" المصدرَ الأساسي الذي يُزوِّد الجيش والتنظيمات شبه العسكريّة الكولومبيّة بالأسلحة. ومن الجلي أنَّ أجهزةَ الشرطة والجيش الكولومبييْن يقومان حالياً بالاستفادة من الأسلحة والتدريبات العسكريّة التي توفّرها لهما "إسرائيل" لمواجهة الحركة الاحتجاجيّة الداخليّة بالدرجة الأولى. 

العلاقات العسكريّة

يوفّر الجيش الإسرائيليّ لحلفائه في كولومبيا التدريب على أساليب القتال ومكافحة الإرهاب واضعاً بين أيديهم تجربته في قمع المقاومة الفلسطينيّة. لو قام أيُّ فلسطينيّ حالياً بزيارة كولومبيا وشهد ما يجري من أحداث، فسوف يبدو له الوضعُ مألوفاً جداً.  

تُظهِرُ الصور المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعيّ جانباً من من الترسانة الحربيّة الإسرائيليّة التي استخدمتها القواتُ الكولومبيّة ضدّ المتظاهرين. من بينها المُدرعات المصفّحة من طراز Sand Cat المنتشرة بوفرة في شوارع المدن الكولومبيّة الكبرى. كما أنّ البنادق المعتمَدَة عند كلِّ وحدات الجيش والشرطة من صُنعٍ إسرائيلي؛ يستخدم الجيش رشاشاً من نوع  IMI Galil، وتستخدم القواتُ الخاصّة بنادق IWI Tavor، وتستخدم القواتُ الجويّة والقوات البحريّة والشرطة بنادقَ IWI Ace. 

وبحسب تصريح أوليفر دود Oliver Dodd، الباحث في جامعة نوتينغهام والمُهتم بتغطية الحرب الأهليّة في كولومبيا، لـ MiniPress: "يحرص المتعاقدون العسكريّون من القطاع الخاصّ الإسرائيلي على تقديم خدماتٍ مهمة للقوات الكولومبيّة تتَّصل بالتدريب العسكري، وعمليات مكافحة التمرد، وتنفيذ الاغتيالات، وجمع المعلومات الاستخباراتيّة، والقيام بتدخلاتٍ عسكريّةٍ عابرةٍ للحدود في دول مثل فنزويلا، وفي شتّى أشكال الحرب غير التقليدية. هذا ما يجعل من "إسرائيل" - بعد الولايات المتحدة الأميركية - أهم شريكٍ عسكريٍّ لكولومبيا يدعمُ سِجلّها في جرائم إرهاب الدولة". 

إضافةً إلى المُدَرعات المنتشرة في الشوارع، تم أيضاً رصد الطائرات بدون طيّار الإسرائيلية، وهي تُحلق في سماء كولومبيا لغرض المراقبة والاستخبار العسكريّ. تستفيد السلطاتُ الحكوميّة أيضاً من خدمات التكنولوجيا الأمنيّة - ومن بينها برنامج كشف الوجوه - التي توفّرها شركة AMnetpro SAS  المملوكة لرجال أعمال إسرائيليين.

لَعلّ الجانب الأكثر خطورة في هذه الشراكة هو تولِّي "إسرائيل" بشكلٍ مباشرٍ مَهمةَ تدريب المجموعات شبه العسكريّة ذات التوجه اليمينيّ المتطرف، والمسؤولة عن ارتكاب عمليات الإرهاب الأكثر وحشيةً في البلاد، طوال الفترة الممتدة منذ منتصف القرن الماضي. قد سبق لكارلوس كاستانو، وهو قائد قوات الدفاع الذاتيّ المتحدة (AUC) المعروفة بجرائمها الدمويّة، أن سافر لـ"إسرائيل" للدراسة والتدريب على يد عسكريّ إسرائيلي مرتزق1 إضافة من المترجم: لا ينحصر توصيف "المرتزق" هنا على الحمولات المعيارية السلبية للمصلح، بل للتدليل على "من يحاربون في الجيش طمعاً في المكافأة الماديّة، وغالباً ما يكونون من الغرباء" (معجم اللغة العربية المعاصرة) ذي سجلٍ إجراميّ معروف، هو المقدم سابقاً في جيش الاحتلال يائير كلاين Yair Klein. صرّح هذا الأخير في مناسبةٍ سابقةٍ أنَّه دُعي إلى كولومبيا لتدريب الشرطة الوطنيّة. 

في هذا الصدد، يُبرز أوليفر دود ميولَ الحكومة الكولومبية لتوظيف الخبرة التي اكتسبتها من "إسرائيل" بالقول: "لعناصر متقاعدة في الجيش الإسرائيلي يدٌ ضالعة في مجريات الصراع الدائر في البلد. الدولة الكولومبية تُعوِّل كثيراً على هؤلاء المرتزقة الإسرائيليين - أو المتعاقدين العسكريّين كما يحلو لمؤيديها تسميتهم-  فهؤلاء لا يتوانون في تصدير خبرتِهم الواسعة في قمع الفلسطينيّين. لا تنضوي هذه المجموعات الارتزاقية رسميّاً في صفوف أيٍّ من القوات المُسَلّحة الكولومبيّة، ولا يرتدي أعضاؤها الزيَّ العسكريّ الموحَّد، ما يمنح الدولةَ إمكانيةَ التنصل من جرائم القمع التي ترتكبها في حقّ الحركة الثوريّة والقوى التقدميّة".

اقرؤوا المزيد: "لماذا تموّل مايكروسوفت مراقبة الفلسطينيين في الضفة؟".

لقد صار وجود العناصر الإرتزاقيّة الإسرائيليّة أمراً طبيعياً في كولومبيا، حتى أنَّ الرئيس خوان مانويل سانتوس صرّح في شريطٍ دعائيٍّ لصالح الشركة الارتزاقيّة الإسرائيليّة Global CST 2 هي شركة إسرائيلية متخصصة في تدريب القوات المسلحة العسكريّة والشرطة وقوات حماية الحدود في عدة دول، خاصّةً في منطقة أميركا اللاتينية. رغم أن الشركة تصف أنشطتها بـ"الخدمات الاستشارية" إلا أنّها عُرِفت كـ"مجموعة مرتزقة" تعمل لصالح الحكومة الإسرائيلية بالقول إنّهم "يحظون بتجربةٍ غنيّة، وهم يُقدِّمون لنا يدَ المساعدة للعمل بشكلٍ أنجع".

أواصر سياسيّة

مع تمدد اليسار عبر أميركا اللاتينية في مطلع الألفينات، انطلقت دولُ المنطقة في حشد إجماعٍ شبه كامل حول الاعتراف بفلسطين كدولةٍ مستقلة. مع ذلك، ظلَّت كولومبيا استثناءً شاذاً خارج هذا الإجماع اللاتينيّ لمدة سنوات، ولم تلتحق به إلا سنة 2018. على الرغم من اعتراف كولومبيا المتأخر بفلسطين، ظلَّ الرئيس دوكي شديدَ الحرص على إشهار مواقفِه الداعمة لـ"إسرائيل". 

وخلال كلمته السنة الماضية في مؤتمر أيباك، أعلن عن نية كولومبيا فتح "مكتبٍ للابتكار" في القدس المحتلة، وهي خطوة قد تمهّد لقراره نقل سفارة بلاده إليها في تحدٍ سافر للقانون الدولي. ولم يفوت الرئيس دوكي الفرصة في هذه المناسبة للتنديد بوجودٍ مزعومٍ لـ"حزب الله" في الجارة فنزويلا معتبراً إياه تنظيماً "إرهابيّاً"، وتصريحات دوكي لم يكن الباعث لها مخاوف أمنية حقيقية، بل كانت رغبته في نيل رضى حلفائه.

لم تدَع الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، والتي خلفّت 250 قتيلاً وقرابة 2000 جريح وعشرات الآلاف من النازحين، مجالاً للشك حول موقف كولومبيا الحقيقي المتماهي مع حليفها الصهيوني، إذ شجبت الحكومة الكولومبية رسمياً إطلاق الصواريخ على "إسرائيل"، بينما أَغْمضت أعينها كلياً عن وابل الصواريخ الإسرائيلية الأشد فتكاً التي انهالت على قطاع غزّة. 

دائرة التبعية 

عزَّز التحالف السياسي المزدهر بين كولومبيا و"إسرائيل" من قوة العلاقات الاقتصاديّة بينهما. في سنة 2013، وَقَّع كلا الطرفين اتفاقيةً للتجارة الحرّة أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو اعتزازه بها؛ "هذه لحظة تاريخيّة في العلاقة بين دولة إسرائيل وجمهورية كولومبيا (...) إن مثل هذه القرارات تُهيِّئ أرضية التعاون بيننا على النحو الذي يسمح بالرقيِّ بشراكتنا وصداقتنا وأخوتنا نحو مستوياتٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ جديدة".

تُغطِّي الأسلحة والخبرة الحربيّة التي تصدّرها "إسرائيل" لكولومبيا مقابل احتياطاتها المعدنيّة الجزء الأكبر من التجارة البينية بينهما. خلال سنة 2011، شكّلت الأسلحةُ العسكريّة لوحدها %49.6 من مجموع صادرات "إسرائيل" لكولومبيا. وشكّل الفحم %89 من مجموع ما تستورده "إسرائيل" من كولومبيا لقاء أسلحتها. يتوزع الباقي أساساً بين منتجات فلاحيّة مختلفة (قهوة، وفواكه، وسكر..إلخ).

ما يستوجب الذكر هو أنه لم يكن بالإمكان استغلال الثروة المعدنيّة التي يزخر بها هذا البلد اللاتيني إلا بعد عقود طويلة مارس خلالها الجيشُ الكولومبي والمجموعاتُ شبه العسكريّة المرتبطة به شتّى أنواع المناورات لإجلاء السكان الأصليين من أراضيهم الغنية، فاتحاً المجال أمام شركات الزراعة والطاقة لإرساء مصالحها.  

وقد كان لأسلحة "إسرائيل" واستشاراتها الفنيّة دورٌ بالغ الأهمية في إنجاز هذه الخطوة. وعلى إثر ذلك، تمكّنت "إسرائيل" من جني بعض المكاسب، منها الحفاظ على إمدادات الكهرباء بفضل الفحم الكولومبي الرخيص في إطار صفقةٍ تعود عليها وعلى الشركات الكبرى بالفائدة، رغم أنَّها تُضِرّ بالشعوب وتساهم في التطهير العرقيّ في كلا جانبي العالم.

أبناء أميركا المدللون

تَتمتّع كلٌّ من كولومبيا و"إسرائيل" بحظوةٍ كبيرةٍ لدى الإدارة الأميركية، فهما حليفاها المفضلان في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط. تحصل "إسرائيل" على مساعداتٍ عسكريّة سنويّة تُقدَّر بملايين الدولارات وأسلحة تُختَبر في العموم ضدّ المدنيين في فلسطين، لِتُعرَضَ بعدها للبيع في معارض دوليّة بوصفها أسلحة "مُجرَّبة ميدانيّاً". وعلى نحوٍ مُماثل، تلقّت كولومبيا كمياتٍ هائلة من الأسلحة الأميركية مجاناً (تفوق قيمتها 461 مليون دولار سنة 2021) تحت غطاء الحرب المزعومة ضدّ المخدرات. 

وفي سياق الحملة القمعيّة الأخيرة في كولومبيا، غضَّت إدارةُ بايدن الطرف كلياً عمَّا يُرتَكَب من انتهاكات، وفي اللحظة التي كانت صواريخ "إسرائيل" تقصف أحياءً مدنيَّةً في غزّة أعلن بايدن دون مماطلة أنّه "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها". كما لم تُصدر واشنطن أيّ تصريحٍ رسميٍّ بخصوص القمع الدمويّ الذي واجهت به الحكومةُ الكولومبيّة المتظاهرين.

حسب بيلين فرنانديز، وهي صحافية متخصصة في العلاقات الشرق أوسطية والجنوب أميركية فإنّ "إسرائيل وكولومبيا قاعدتان رئيسيتان بالنسبة للإمبريالية الأميركيّة، لذلك تمنحهما الضوءَ الأخضر لإرهاب المدنيين تحت ذريعة محاربة الإرهاب". وتضيف "إنَّ الدولتين مرتبطتان بشكلٍ وثيقٍ بالولايات المتحدة الأميركية وتَشدُّهم إلى بعضهم البعض أواصر متينة جداً في علاقة ثلاثيّة اقتصاديّة وعسكريّة تقوم على إدامة عدم الأمان والتهجير القسري والاستبداد اليميني".

حاورت MintPress أيضاً مانويل روزنتال، وهو فيزيائيّ وناشط يقيم بمدينة كوكا حيث بلغَ القمعُ البوليسيّ ذروته، مبرزاً خلال حديثه بعضَ مواطن الشبه بين "إسرائيل" وكولومبيا، ودعم الولايات المتحدة لهما. يقول: "إزاء القمع الذي يرتكبه حليفاها، تلتزم الولايات المتحدة الصمت أو تُصوِّرهما  كما لو كانا مجرد طرف في صراع قُطْبي للتغطية على واقع وجود نظام غير شرعي في كلا البلدين يقوم باضطهاد الجماهير ويقمعها. ما كان لجرائم العنف في كولومبيا أن تُرتكب لولا دعم الولايات المتحدة ومصالح شركاتها. وهو ما ينسحب على الوضع في "إسرائيل" أيضاً".

مثل "إسرائيل"، تقوم كولومبيا بالدور المنوط بها كما يجب، كونها الممثل الأساسي للولايات المتحدة الأميركية في منطقتها من خلال مواجهة فنزويلا وبوليفيا أو أي من الدول التقدمية في الجوار. بالإضافة لكونها الراعي الأول للقواعد الأميركية في المنطقة. وكما يقول روزنتال: "في الشرق الأوسط، تقود إسرائيل مهمة حماية النفوذ الأميركي مقابل تمويلات ضخمة تتلقاها الحكومة لدعم نظام يَرْشح فاشية بزعامة نتنياهو، الرجل القويّ الذي لا يختلف عن الرئيس الكولومبي السابق أوريبي".

ويبدي النظامان استعدادهما الدائم للتكفل بالقيام بالمهام القذرة التي تفضل الولايات المتحدة إخفاء ضلوعها فيها. في هذا السياق، تجندت "إسرائيل" لمساندة ديكتاتورية الجنرال بينوشيه الفاشية في تشيلي واضعةً في خدمته موردها من الأسلحة، ضاربةً عرض الحائط كل الجهود التي استطاعت من قبل الضغط على الولايات المتحدة الأميركية لأجل تعليق مساعداتها العسكريّة. لم تجد كذلك أي غضاضة في الإغداق على الطغمة العسكرية الموالية للولايات المتحدة التي تسيّدت السُّلطةَ في الأرجنتين (1976-1983) بما بلغت نسبتُه %95 من مجموع ذخيرة السّلاح. 

اقرؤوا المزيد: "قمع في الأرجنتين؟ "إسرائيل" جاهزة لتقديم خبراتها".

لقد أدّت التحقيقاتُ المتزايدة بشأن تورط الولايات المتحدة في تدريب عشرات الآلاف من ضباط الشرطة وعناصر الجيش في أميركا اللاتينية على أساليب وتقنيات العنف إلى إحجامها عن الاستمرار في تقديم مثل هذه الخدمات، خاصّةً بعد ثبوت إدانة العديد من خريجي مدرسة الأمريكتين سيئة السمعة (في فورت بينينج) بتهم الإبادة الجماعيّة وجرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانية. 

في حديثه لـMintPress، يوضح إفان كينغ الذي يشغل منصب مدير برنامج "ائتلاف التضامن من أجل السلام" في بوغوتا: "تسير كولومبيا في أميركا الجنوبية على خطى إسرائيل في الشرق الأوسط إذ قد بدأت هي كذلك بتصدير هذه التكتيكات الحربية إلى دول المنطقة. هذا أفضل ما ترجوه الولايات المتحدة، إذ يرفع عنها حرج مهمة تدريب القوات العسكريّة خارج حدودها. لقد باتت الآن كولومبيا بنفسها تسهر على تدريب أجهزة الشرطة في الهندوراس والسلفادور والمكسيك. في الأمس القريب هبّت القوات الكولومبية الخاصة لهاييتي من أجل تدريب قوات الأمن هناك حيث يُستهدف المحتجون بالرصاص في الشوارع حالياً".

دول استعمارية استيطانية 

لم يكن اللقب الذي أطلقه الرئيس الفنزويلي السابق هوغو تشافيز على كولومبيا واصفاً إيَّاها بـ"إسرائيل أميركا الجنوبية" لقباً أُطلِق جزافاً، بل كان دقيقاً في كشفِهِ وظيفتَها كأداةٍ مِطواعة في يد الإمبريالية الأميركيّة. ولكنَّ الرئيس الكولومبي السابق سانتوس تلقّف وصف الرئيس تشافيز بغبطةٍ مُعتبراً الكولومبيين شعباً إسرائيلياً فخرياً لما يجمع بينهما من تشابهات وتماثلات.

إنّ التماثلات بين النظاميين في كولومبيا و"إسرائيل" أكبر مما يتخيّل البعض. فكلاهما يحظيان بحكومات مدججة بالسلاح الذي يُصَّوب في حروب لا هوادة فيها ضدّ الشعوب الأصلية. ومع ذلك، يجد النظامان من الصلافة ما يكفي لصك الآذان بالحديث عن مساعيهم في "عملية السَّلام" التي لم تأخذ قط من السَّلام غير الاسم.

تشترك الحكومتان أيضاً في ترسيخ مشاريع استعماريّة استيطانية. في كولومبيا، من الجلي أن نخبة من البيض تعمل على تطهير الأرض من أصحابها، المزارعين الكولومبيين الأصليين والذين ينحدرون من أصول إفريقية، مفسحةً المجال للشركات متعددة الجنسيات. بينما يقوم المشروع الاستيطاني في "إسرائيل" على بناء دولة متفوقة عرقيّاً لليهود على أنقاض فلسطين. 

اقرؤوا المزيد: "الشراكة الدموية بين تشيلي و"إسرائيل".

"تعامل الحكومة المركزيّة الكولومبيين الأصليين ومن هم من أصلٍ إفريقيّ كما لو كانوا مواطنين من الدرجة الثانية، إذ لا يتمتع هؤلاء بحقوقهم. ليس ثمّة قانون رسميّ لذلك، ولكنّك لو زرت المدن المأهولة بأغلبية سوداء مثل مدينة بوينافينتورا الساحلية ستفاجأ بمستوى التباين الصارخ. أعتقد أن الوضع الذي يرزح تحته السكان هناك أقرب للوضع في غزّة منه ببقية كولومبيا"، على حد قول كينغ. يعقب الأخير: "ليس هناك رسميّاً أي نظام فصلٍ عنصريّ، لكن ليس خفياً أنّهم يعملون على إخلاء الأرض من سُكانها من خلال خلق وضعٍ اقتصاديٍّ وإنسانيٍّ بالغ البؤس يدفع السُّكان للهجرة دون حاجةٍ لاستعمال العنف". 

 هل من أمل؟

بالرغم من أن أخبار العنف في كل من كولومبيا وفلسطين تَتَصدر عناوين الصحف، فإن تباشير الأمل تلوح في الأفق للمضطهدين في كلا البلدين. تُظهر الاستطلاعات ضعف حكومة دوكي وتراجعها كقوة سياسيّة أمام غوستافو بيترو، وهو مجند سابق في تنظيم يساريّ مسلح، الذي يتقدم على منافسيه بأشواط في سباق الانتخابات الرئاسيّة المزمع تنظيمها العام القادم.

في سنة 2018، خسر بيترو الانتخابات تحت التهديد باغتياله وبفعل شراء الأصوات وتزويرها على نطاق واسع ثم تهديدات المجموعات اليمينية شبه العسكرية بتصفية كل من سولت له نفسه التصويت لصالحه. لكنّ تدبير دوكي الكارثي لجائحة كورونا، ونهجه الشرس لمعالجة الأزمة الاقتصادية باتخاذ إجراءات اقتصادية صادمة، جرّ عليه سخطَ شرائح واسعة من قاعدته الشعبيّة. إذا ما حالف بيترو الحظ وظل على قيد الحياة السنة المقبلة، وهو تحدٍ صعب في الحقيقة لكل السياسيين التقدميين في كولومبيا، فسيكون الفوز من نصيبه على الأغلب. 

وبالمثل، من الواضح أن المزاج العام حول قضية فلسطين يشهد تحولاً عظيماً. فبعد أن كان الدعم المطلق لـ"إسرائيل" هو القاعدة المهيمنة، أقدم مؤخراً بعض كبار السياسيين ومذيعي الأخبار وكتاب الافتتاحيات على إدانة العدوان الإسرائيلي بشكلٍ مباشر. قد صار مألوفاً في الراهن أن يردد العديد من هؤلاء الوصف الذي أطلقته بعض منظمات حقوق الإنسان على "إسرائيل" كدولة أبارتهايد.  لعل أبرز مثال في هذا الصدد هو الموقف الداعم الذي عبّرت عنه حركة "حياة السود مهمة"، إذ ربط العديد من قادتها المنتخبين بشكل صريح بين العنف الموجه ضدّ الفلسطينيين والعنف الذي يتعرض له السود في الولايات المتحدة.

متظاهرون يحرقون علم إسرائيل خلال احتجاج ضد حكومة الرئيس الكولومبي إيفان دوكي في بوغوتا في 12 يونيو 2021. (تصوير خوان باريتو / وكالة الصحافة الفرنسية).

في بداية الشهر الجاري، قالت النائبة في الكونغرس الأميركي كوري بوش "أقف اليوم في تضامن مع الشعب الفلسطيني" في مستهل كلمة لم يكن من المعقول تصور النطق بها قبل بضع سنوات فقط. ثم أضافت: "الأدوات التي يستخدمونها في قمعنا هنا (في فيرغسون) هي ذاتها التي نرسلها للجيش والشرطة الإسرائيليين وتستغل في التنكيل بالفلسطينيين". 

وبما أن هناك ما لا يحصى من الروابط تحتم علينا في واقع الحال النظر للعنف ضدّ الشعبين الفلسطيني والكولومبي باعتبارها معركة متقاطعة الأطراف، فلربما يجمعهما أيضاً غد التحرر والانعتاق. 



21 مارس 2021
لماذا فلسطين؟

أستحي أن أطرح السؤال عارياً هكذا، لأن جواب السؤال يفترض أن يكون بدهياً على المستويات جميعها (أخلاقاً، وديناً، وسياسة). صحيح…