"الآخرون دائماً هُم المُخطئون، وأنت؟ أنت البريء، والصحيح، يجب أن تدافع عن حقِّك، وبطبيعة الحال، لديك إله رحيم ومُحبّ ودائماً يَقِف إلى جانبك. الآخرون هُم وحدهم المَسؤولون دائماً عن معرفة أنفسهم وملاحظة تصرّفاتهم، أمّا أنتَ فـ لا! لأنّك تحتكر كلّ الخير والطيبة والحقيقة منذ البداية، وأنتَ مقتنع أنّك دائماً على حقّ!".1Carl Jung, The Red Book: Scrutinies. Page 333.
كانت هذه إحدى مُلاحظات المُحلِّل النفسي كارل يونغ خلال ممارسته العلاجية، ومفادها أنّ الأفراد يعجزون عن رؤية تصرّفاتهم ويصرّون على رواية الأحداث من جانبهم فقط، من خلال سردية أحادية تخدم أوضاعهم الحالية دون أن يشعروا بحاجةٍ لمراجعة أنفسهم أو التغيير من طِباعهِم.
إنّ وضعيّة "الضحيّة" التي يتّخذها هؤلاء هي موضوع المقال، إذ صار خطابهم سائداً بعد تصاعده في السنوات الأخيرة بحسب ما تُشير إليه دراسات علمي النفس والاجتماع. أدّى انتشار "ثقافة الضحايا" إلى عجز الأفراد عن تعريف ذواتهم خارج إطار مفهوم الصدمة النفسيّة أو المُعاناة الاجتماعية، أو حتّى التعرّض لاضطهادٍ ما من قِبَل أحد عناصر مصفوفة القهر: العِرق، النوع الاجتماعي، التوجّه الجنسي، الطبقة، العمر وغيرها من أشكال القهر والاضطهاد.
دور الضحيّة محجوز!
ليست الملاحظة التي أشار لها يونغ مُقتصرة على العيادة النفسيّة، فهي كذلك تتجسّد في الحياة اليومية بأشكالٍ مختلفة ومُغايرة، وهو ما يُطلِق عليه علماء النفس المعرفي "انحياز المصلحة الذاتية" (Self-serving bias)، والتي تعني قدرة العقل على تضليل صاحبه وجعله أكثر مَيلاً لعزو الفضل في نجاحاته لنفسه، في الوقت الذي يعزو فشله وإخفاقاته لأسبابٍ وعواملَ خارجية. ومن أشهر أمثلة ذلك أن يقول أحدهم لأصدقائه: لقد حصلتُ في هذه المادة على علامة عالية بجدارة "نزّلتها A"، وأن يقول عن مادة أخرى أخفق فيها: لقد مَنحَني أستاذ هذه المادة علامة مُتدنّية! أو بصيغة عامّية "الدكتور حمّلني المادة".
لكن ماذا يحدث حين يصير "لوم الآخرين" واتّهام العوامل الخارجية سلوكاً مُلازماً للشخص في جميع أحواله وظروفه؟ يصطلح علماءُ النفس على هذه الظاهرة بـ"المَيل لتبنّي دور الضحيّة" (Tendency for Interpersonal Victimhood)، وتعني مَيل الشخص لرؤية نفسه بوصفه ضحيّة على الدوام وكأنّها صفة مُلازمة للشخصية، بل تصير هُويّة، إذ لا يستطيع تعريف نفسه للآخرين إلّا من خلال حديثه عن وقائع ظلمه واضطهاده وإخفاقه الممنهج والمقصود من قبل مصدرٍ خارجيّ.
اقرؤوا المزيد: "المُشكلة ليست فيك، المشكلة في الآخرين!".. هكذا تُبتذل الصحّة النفسيّة
أمّا على مستوى التفاعلات الاجتماعية، فبحسب الباحثين، ثمّة أربعة ملامح رئيسية تتحدّد بها الشخصيةُ التي تميل لتبنّي دور الضحية:
يُوصَف الملمَح الاجتماعي الأوّل لعقلية الضحية بأنّه "السعي المُتواصل لنَيل الاعتراف من الآخرين بمظلوميّتي". يُفسّر الباحثون هذا السعي بأنّ الشخص حين يتعرّض لصدمةٍ نفسيّةٍ أو اضطهادٍ ما، فإنّه يفقد ثقتَه بالعالَم الخارجيّ، وحتّى يستعيد ثقتَه بالأوساط المحيطة ولكي يكون العالَمُ مكاناً آمناً وقابلاً للعَيش، فإنّه يسعى جاهداً على الدوام لنيل الاعتراف من الآخرين عبر تصريحهم بأنّهم يشعرون بمأساتِهِ ومعاناتِهِ.
الملمَح الاجتماعي الثاني لعقلية الضحية هو "الشعور بالتفوّق الأخلاقيّ" (Moral Elitism)، إذ بعد مرور الفرد بتجربة اضطّهاد أو واقعة ظلم، فإنّه يُصبح متعطّشاً لاستعادة احترامِهِ لنفسه ورؤيته بطريقةٍ إيجابية. وأحد الطرق التي تنتهجها الضحية لتحقيق ذلك، هي في أن تشعر بالنقاء أو الامتياز الأخلاقيّ، عبر التأكيد الداخلي "بأنّي قد مررتُ بتجربةٍ تجعلني أكثر فرادةً مقارنةً ببقيّة أفراد المجتمع، وأنّ الآخرين الذين لَم يمرّوا بمثل تجربتي لا يحقّ لهم الكلامُ عن أي شيءٍ أخلاقي، فهُم لَم يَخبُروا معنى أن يكونوا مُضطَهَدين".
أمّا الملمَح الاجتماعي الثالث لعقلية الضحية فيتمثّل بـ"تراجع القدرة على التعاطف مع مُصابات الآخرين وآلامهم". ويأتي هذا الملمَح من قناعةٍ داخليّة لدى الضحايا مفادها: لقد عانيتُ شخصياً بما فيه الكفاية، ولهذا فأنا غير مُلزَم بالتعاطف مع مُصابات الآخرين. لكنّ الباحثين تنبّهوا لمستوى أكثر دقة حين أشاروا إلى أنّ هذا الملمَح هو تعبيرٌ عن "أنانية الضحية" خوفاً من أن تسرقَ قضايا الآخرين الأضواءَ من قضيتها الشخصية، وبالتالي فقدان انتباه المجتمع وتعاطفهم واهتمامهم بها. بل قد يصل هذا الملمَح لأقصاه فينـتُـجَ عنه ما يُسمّيه الباحثون "تنافس الضحايا"، وهو أن تُقَـلِّل الضحية من شأن مُصابات الآخرين أو أن تُنكِر وقائعَ ظُلمهم كي تظلّ قضيّتها الشخصية هي القضية الأبرز على الساحة.
أخيراً، يتجسّد الملمَح الاجتماعي الرابع لعقلية الضحية بـ"الاستحضار المستمرّ لمظالم الماضي"، إذ يساعد استدعاءُ ذكرياتِ الماضي وآلامه واجترارها لمساحات الحاضر، الضحيةَ على إبقاء ذاتها في وضعيّةٍ خاملة، تَحول بينها وبين أن تُقَـدِّم لنفسها حلولاً، موفِّرةً عناء البحث عن هُويّة جديدة إيجابية ومُستقلّة بعيداً عن الذات المقهورة. وغالباً ما تُستدعى مظالمُ الماضي كوسيلةٍ لتبرير تجاوزات الحاضر، وخاصّةً كُلّما تعرّضت "الضحيّة" لمساءلة حيال تقصيرها وأوضاعها الحالية، ويضرب الباحثون "الاستحضار المُفرِط للهولوكوست" عند الإسرائيليين واليهود كمثالٍ على استدعاء مظالم الماضي لتوجيه تصرّفات الحاضر.
انتشار العجز: هل أنت مسؤولٌ عمّا يجري في حياتك؟
إن كُنتَ تُريد تطبيقَ علم النفس في حياتك اليومية، فإنّي أدعوك لأن تقوم بهذه التجربة النفسيّة الممتعة: ما رأيك أن تُراقب عبارات أصدقائك وكيفية تعبيرهم عن مجريات الأمور في حياتهم الشخصية؟ لاحَظَ عالمُ النفس الشهير جوليان روتر أنّ النّاس يختلفون في تعبيراتهم عن المواقف التي يتعرّضون لها في حياتهم، وأنَّ شخصين اثنين قد يمرّان بالتجربة نفسها، إلّا أنّ كلّاً منهما قد ينسبُ ما حدث لمصدرٍ مختلفٍ من الأسباب. لنأخذ تجربة المرض على سبيل المثال، قد يقول أحد الأشخاص حين يُصاب بمرضٍ ما: كان بإمكاني أن أكون أكثر حذراً! ولو لَم أكن مُستهتراً بصحّتي لما كُنتُ الآن على فِراش المرض. بينما قد يقول شخص آخر عند إصابته بالمرض نفسه: لقد أُصِبتُ بهذا المرض بطريقةٍ غريبة، ومَهما فَعلت في حياتي لَم أكن لأستطع تجنّب الإصابة به!
تنبّه روتر إلى أنّ النّاس ينقسمون في حياتهم إلى اتّجاهين مُتباينَين، أحدها يرى أنّ مركز السيطرة على الأحداث في حياتهم "داخليّ"؛ أيّ أنّ بإمكانهم أن يُؤثّروا بالأحداث التي تحصل لهم سلباً أو إيجاباً. بينما تجد المجموعة الأخرى أنّ مركز السيطرة على الأحداث في حياتهم "خارجيّ"؛ أيّ أنّ وقوع الحوادث اليومية، الإيجابي منها أو السلبيّ، يحصل بدون حولٍ منّا ولا قوّة، وأنّ بعضَ النّاس محظوظون أكثر من غيرهم، أو أنّ الله يُقدّر النجاحَ والفشل والصحّة والمرض، وليس بمقدور الإنسان فعل أي شيء لتغيير ما يحصل له في حياته. ومن الجدير بالذكر أنّ روتر قد أشار إلى أنّ النّاس في الواقع لا تتّخذ موقفاً ثُنائياً حادّاً على طريقة إمّا/أو، لكنّ النّاس بالعادة يكونون أكثر مَيلاً لجهة من الجهات في عموم مواقفهم وتصرّفاتهم اليومية.
كُلّ نَمَط من النمطين السابقين يُنتج آثاراً مختلفة على مستوى الصحّة النفسية وكذلك العادات السلوكية. تُشير الدراسات إلى أنّ الأشخاص الذين يؤمنون بأنّ مركز السيطرة على الأحداث "داخليّ"؛ هُم أكثر نجاحاً على المستوى الأكاديمي وعلى المستوى المهني، وأكثر اتّباعاً لأنظمةٍ معيشيةٍ صحّيةٍ على مستوى الغذاء، لكنّهم في الوقت نفسه يجدون صعوبة بالتخلّي عن الأشياء، وقد يقعون في منزلق الرغبة العصابية بالسيطرة على جميع ما يحدث في حياتهم، مع أنّ بعض الأمور في هذه الحياة لا نملك تغييرها أو استرجاعها. في المقابل، وجدت الدراسات أنّ الأشخاص الذين يُؤمنون بأنّ مركز السيطرة على الأحداث "خارجيّ"؛ هُم أكثر عُرضة للتدخين، وكذلك أكثر قابلية للغش في الاختبارات، ولكنّهم من جهة أخرى أكثر قدرة على التعافي عند وقوع الأزمات والكوارث لأنّهم لا يجدون أنفسهم مسؤولين عن فعل شيءٍ ما.
غير أنّ المفارقة المُرعبة التي تُظهِرُها الدراسات، هي أنّ الأجيال الناشئة تنزع لأن تُؤمن شيئاً فشيئاً بأنّ ما يتعرّضون له في حياتهم مُجرّد أحداث لا يملكون السيطرة على إحداثها أو منع حدوثها؛ أيّ أنّهم يميلون للاعتقاد بأنّ مركز السيطرة على الأحداث "خارجيّ". وقد وجدت الدراسات أنّ هذا المُعتقَد يرتبط بالعجز المُكتسَب وانتشار الشعور بالعجز عند وقوع الأحداث الطارئة، إذ يشعر الأفراد أنّهم لا يستطيعون فعل أي شيء من شأنه أن يُحدِث تغييراً في واقعهم. هذا يعني أنّنا أمام نزعة عامّة يرى الأفراد فيها أنّهم مُجرّد "مفعول بهم"، وأنّهم عاجزون عن القيام بأي حراكٍ ذي جدوى، وأنّهم في نهاية المطاف مُجرّد ضحايا عاجزين أمام ما يحدث أو ما سيحدث.
ما وراء قصّة "النجاح" المزخرفة
إليك هذا السؤال: هل شاهدتَ "قصّة نجاح" لشخصيةٍ شهيرةٍ لا يُحدّثكَ فيها صاحبُها عن فشله مرّات عدّة وعن محاولة إحباطه وثنيه عن فعل ما يفعله، قبل أن يصيرَ ناجحاً واستثنائياً بطريقة ألجمت أفواه المُحبِطين والسلبيين الذين أخبروه مراراً وتكراراً بأنّه حتماً سيفشل؟!
من المفارقات المُضحكة التي أشار لها أحد الأبحاث أنّ الأثرياء الذين يشغلون حالياً مَهاماً إدارية أو مناصب وظيفية مرموقة في كُبرى الشركات، غالباً ما يُحرّفون قصّة حياتهم الحقيقية عند روايتها للآخرين وأمام وكالات الإعلام، فيتعمّدون إخفاء الامتيازات الطبقية التي منحتها إيّاهم عائلاتهم الثرية بالأساس، ويسردون بالمقابل قصّة حياتهم بطريقة تعكس للُمستمعين معاناتهم والتحدّيات التي مرّوا بها كي يشقّوا طريقهم ضدّ الصعاب التي واجهتهم (وهي مصاعب إمّا مُتوهّمة أو مُبالغ في تقديرها)، كي يُضفوا شرعية الجدارة والاستحقاق على نجاحاتهم ومواقعهم الحالية.
لكن، لماذا نحتاج إلى الألم لتبرير أنفسنا؟ ليسَت هذه مشكلة الأثرياء فحسب، إذ إنّ استدعاء المعاناة الحياتية والتذمّر المستمرّ وتقمّص دور الضحيّة، يُعطي الشخص مساراً سهلاً لتحقيق الذات، وشرعية هُويّاتية في عالَم يتحسّس من الأقوياء ويستفزّه أن يعبرَ أحدٌ النظام وأن يترقّى ويبلغ مكانةً عُليا في سُلّم المجتمع دون أن يكون قد تعرّض لأي واقعة ظلم أو معاناة.
وهكذا، فإنّك بدلاً من أن تخوض رحلة شجاعة في الحياة لتعريف نفسك وإيجاد مَعنى حياتك بالطريق الصعبة ضمن سياق نبيل وخلّاق، فإنّ الأسهل عليك أن تبحث عن حادثة اضطهاد مهما كانت صغيرة أو تافهة، ومن ثمّ تجلعها مرتكزاً ومصدراً كي تحصّل اهتمام الناس وتعاطفهم وأحياناً شفقتهم، وبالتالي تحصل على اعتراف هُويّاتي لكَ في المجتمع الذي تتواجد فيه.
غير أنّه لماذا يبحث المقهورون عن اعتراف من نفس المؤسسات التي يرفضونها بالأساس باعتبارها بُنَى جائرة؟ يُشير النُقّاد إلى مفارقة جوهرية حول "ثقافة الضحايا"، بأنّ نهجهم هذا أدّى إلى تكيّف الأنظمة القهرية، بحيث تكون الصدمة النفسية واضطهاد الضحايا هي الأساس الوحيد الذي يُمكن للنّاس أن يتحرّكوا من خلاله. بل إنّ نُقاداً آخرين أشاروا إلى أنّ "الضعف" بالنسبة للنظام الرأسمالي، قد تحوّل إلى سوق مفتوح يُزايد فيه النّاس على السياسات العاطفية للضحايا بوصفها شكل من أشكال "رأس المال العاطفي"، والذي يحتاج أن يبقى مُستداماً عن طريق إعادة إنتاج وقائع الظلم والقهر.
من هنا، فقد بات من الشائع أن ترى خانة الوصف الشخصي على منصّات التواصل الاجتماعي تتضمّن تعريفاً للذات مفاده بأنّ صاحب هذا الحساب هو أحد الذين نجوا من اعتداء أو اضطهاد ما، أو قد يخبرك أحدهم بكلّ فخر أنّه مُشخّص رسمياً باضطراب الشخصية الحدّية أو أنّه ثُنائي القطب، وبالتالي عليكَ أن تحذر وإلّا فقد أُعذرَ من أنذر. وليتَ أنّ المشكلات النفسية تأتي كمعاناةٍ فردية فحسب، لكنّ أسوأ ما في ثقافة الضحايا، هي أنّها تُحوّل أيّ مُعاناة شخصية إلى شعور بالاستحقاق بأنّ على الآخرين أن يحتملوا ذاتي الكريهة وآلامي الشخصية.
اقرؤوا المزيد: "حتماً سأصل".. حتماً تحتاج إلى هذا المقال
وسيكون من المدهش أن نتتبّع المآل النهائي لخطاب الضحايا والعدوى الأخلاقية السامّة التي تنشرها ثقافةُ الصدمة النفسية والاضطهاد، حين يتمّ تسويقها بوصفها سلسلة لانهائية من التأثير، تصير بفعلها كلّ ذات بريئة جزءاً من تصرّفاتها القبيحة واللاأخلاقية، إذ كُلّنا ضحايا لانحرافات ضحايا آخرين، فمَن ذا الذي بإمكانه أن يلومَنا؟ وما العمل إن كُنّا ضحايا الضحايا؟ حين نعي هذا التبرير الأخلاقي الذي تروّج له ثقافة الضحايا، لَن يكون مُستغرباً أن تنتشر أغنية "ذا ويكند" (وفّر دموعَك Save Your Tears) انتشار النّار في الهشيم، فحقّقت أكثر من مليار مشاهدة على اليوتيوب، بالرغم من كلماتها شديدة السُمّية والتي تتجسّد بالمقطع الذي يقول: نَعم! لقد حطّمتُ لكِ قلبَكِ، كما حطّم أحدهم لي قلبي مِن قَبل.
تغيير الأسئلة
ما البديل إذاً؟ وكيف نُحَرّر أنفسنا من عقلية الضحية؟ يكمن جوهر الإجابة في أنّ نُغيّر طبيعة الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا حين نواجه ما نتعرّض له من مواقف في حياتنا. فبدلاً من أن تقول: "لماذا يحدث هذا لي؟" سيكون من الأجدر أن تطرح سؤالاً عملياً: "ماذا يتوجّب عليّ فعله الآن كي لا يتكرّر ما حدث معي مرّةً أخرى؟". ذلك أنّ الخبر السارّ هنا، هو أنّ الإنسان يملك تعديل "مركز السيطرة" لديه باستمرار، وبأنّ يُغيّر من رؤية نفسه كضحيةٍ إلى رؤية نفسه كمسؤولٍ وفاعلٍ حقيقي في مجتمعه. من الجدير بالذكر أنّ المَوجَة الثالثة والأخيرة، والتي تُهيمن على مناهج العلاج النفسي المعاصر، تقوم على فكرة التمييز بين ما يُمكِن تغييره وما لا يُمكن تغييره، وفي كيفية التعاطي مع كلّ حالةٍ من الأحوال. ثمّة أمور في هذه الحياة لا يُمكِن تغييرها، مثل: الفقد الناجم عن الموت، أو الإصابة بمرض عُضال، أو التعرّض للقتل أو الاغتصاب، في المُقابل ثمّة أمور قابلة للتغيير، مثل: اجتهادي في دراستي ووظيفتي، أو الخروج من دائرة الفشل وتحطيم الذات وجرّها إلى مزالق الاكتئاب والقلق.
ولعلّك قد سمعت في أحد الأفلام الدعاءَ الشهير في الّلاهوت المسيحيّ المُسمّى "صلاة السكينة"، والذي يقول: "إلهي، امنحني السكينة لقبول الأشياء التي لا أستطيع تغييرها، وامنحني الشجاعة لتغيير الأمور التي أستطيع تغييرها، وامنحني الحكمة لأميّز بين الأمرين". التمييز بين الأمرين مُهِم، لأنّنا حين نتقبّل أموراً يُمكن تغييرها، فإنّنا نكون مسؤولين عمّا يجري لنا من قهرٍ وظلمٍ وأوضاع سيّئة، وحين نقاتل أموراً لا نملك تغييرها فإنّنا نحرق ذواتنا ونستنزفها في صراعاتٍ لا طائل من محاربتها. وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن الرسول الكريم ﷺ: "لا ينبغي لمؤمن أن يذلّ نفسه. قيل وكيف يُذِلُّ نفسَه؟ قال: يتعرّض من البلاء لما لا يطيق". فإن كُنتَ تملَك خيار أن لا تكون ضحيّةً فلا تُذلّ نفسك، ولا تُسمّي الأسماء بغير مُسمّياتها وتعلّقها على شماعة البلاء، بينما أنتَ تُعرّض نفسكَ لكلّ هذا الذُلّ طواعية واختياراً.