16 يوليو 2025

وحوش بزي أطباء.. شهادتي عن سجن "سدي تيمان"

وحوش بزي أطباء.. شهادتي عن سجن "سدي تيمان"

قررت أن أخوض مغامرة صعبة ربما لن أعود منها حياً، وأطلب زيارة الطبيب عسى أن أكون محظوظاً وأحصل على حبة مسكن فقط. كان ذلك ضربا من الجنون، فالطريق إلى ما يُسمى "طبيباً" في سجون الاحتلال، ليس إلا درباً من دروب الموت البطيء. 

لم أتجرأ على هذا الطلب، إلا بعد معاناة استمرت نحو 40 يوماً من الألم الشديد، بعد أن أُصبت إصابة كادت أن تكون قاتلة، نتجت عنها كسور شديدة في القفص الصدري خلال تعذيبي في سجن سدي تيمان.

لا سيارة إسعاف تقلنا، ولا يد رحيمة تمسك بنا، محاطون بجنود يتفننون في القمع والبطش خلال نقل الأسرى المرضى في رحلة صعبة إلى ما تُسمى "العيادة". رحلة تحمل معها أدوات الموت أكثر مما تحمل من أدوات الحياة، فإن نُقِلْت عبرهم بشكوى مرض، خرجت من عندهم بألف جرح، وإن سَلِمت منهم حياً، فأنت من القلّة الذين لا يُكررهم الزمن، وحده الميت يعود بلا ألم، لأن السكين لا تضير الشاة بعد ذبحها.

عندما صرت بلال 

يُقيّد الأسير من يديه خلف ظهره، تُعصب عيناه، يُجبر على السير منحنياً في أروقة القهر، ترافقه ضربات الهراوات، وركلات البنادق، والصعق بالكهرباء، وسيل طويل من الشتائم، وكأنهم يختبرون صبره على الحياة، لا على الألم فقط، وكلما تأوّه الجسد من وجعه، زادوه بطشاً في نفس الموضع، في الرئة التي تنزف، أو في الكتف الذي انكسر.

اقرؤوا المزيد: الناجي من جحيم "سدي تيمان" 

خطورة الطريق إلى الطبيب كانت أحد الكوابح التي تحول بين حاجة الأسرى المُلحة إلى الرعاية الطبية وبين طلبهم لها، وأن يتعايش الأسير مع وجع واحد خير له من أن يتعايش مع ألف وجع. لذلك يفضل الأسير الموت من الألم على أن يطلب الرعاية الطبية ويموت من بطش الجنود في الطريق إلى الطبيب. 

منذ طلبت الطبيب، مضت 12 ليلة كأنها دهر من الجحيم، لم يغمض لي فيها جفن، ولم أعرف للنوم طعماً، كنا نُجبر وقت النوم على الاستلقاء على ظهورنا، وتغطية رؤوسنا، وبالنسبة إليّ، كان الاستلقاء موتاً بطيئاً، أحسست أنني بلال بن رباح في رمضاء مكة، والصخرة الثقيلة لا تفارق صدري، أنفاسي تهرب منّي، وروحي تتوسل مني أن أطلق سراحها، فكنت أهرب إلى الحمام، أختطف أنفاسي كمن يسرق الحياة من تحت جفن الموت، لكن حتى هذا الهروب لم يكن مسموحاً به طويلاً.

الوصفة الطبية الوحيدة: الماء

وفي اليوم الـ 52 من إصابتي، جاء ضابط إسرائيلي بزيّ عسكري، زعم أنه الطبيب، وقف بعيداً عني، يفصلنا جدار وأسلاك شائكة. لم يقترب ليرى حجم النزيف في داخلي، وبعد جولة من النظر من بعيد، أخبرني بلهجة باردة: "لديك نزيف قديم في الرئتين، وتجلط دموي فوقهما"، ثم قال عبارته التي لا تزال ترنّ في أذني كطعنة: "اشرب ميه، وبطيب بعد أسبوعين أو ثلاثة".

نعم، "اشرب ميه" أو "اشتيه مايم" بلهجتهم العبرية، هو العلاج اليتيم لكل الأوجاع في سجون الاحتلال، إن كان كسرٌ في الضلع، فالماء دواؤك، وإن كان سرطانٌ ينهش جسدك، فالماء أيضا دواؤك، حتى من اخترقت جسده رصاصة، كان علاجه الوحيد" "اشرب ماء". 

اقرؤوا المزيد: القواعد الستّة في مواجهة السجّان.. حوار مع مرح بكير

الاستثناءات حالات نادرة، لا يُقدم العلاج إلا لمرضى السكري والضغط، وقلة قليلة قد تنجو بحبة دواء هنا أو هناك، وحتى حين تُصرف الأدوية، تُمنح من دون اسمٍ أو غلاف، لا يُفصح لنا عن مكوناتها أو تركيبتها أو استخداماتها، كنّا كفئران تجارب، يتلاعبون بنا كيفما شاؤوا، فتبديل الأدوية، أو إعطاء أدوية خاطئة، أمر معتاد، يزرع في جسد الأسير مرضاً فوق مرض، وألماً على ألم.

"استدعوني عندما يموت" 

في إحدى زنازين معسكر عوفر، كان برفقتنا أسير تجاوز عمره 60 عاماً، أصيب بالتهاب رئوي حاد. وبعد أيام متتالية من السعال حتى جف حلقه، وتورمت رئتاه، إلى أن اختنق، وسقط مغشياً عليه، هبّ الأسرى، وبدأت أصواتهم تعلو، احتجاجاً وغضباً، حتى جاء الطبيب بعد ساعات، طلب من أحد الأسرى أن يضع إصبعه على أنف الرجل ليتأكد إن كان لا يزال حياً، وحين أخبره أنه يتنفس، صرخ بأعلى صوت لِمَ استدعَيتموني إذا؟ أنا وظيفتي أن أتأكد إن كان قد فارق الحياة لأحوله إلى المقابر، استدعُوني إن مات فقط.

قلة قليلة هم من يُنقلون إلى المستشفيات، الأسير خالد الحيلة كان من هؤلاء القلة، بعد أن كُسر حوضه تحت التعذيب، وبعد شهور نُقل إلى "عيادة سجن الرملة"، أجرى له الطبيب هناك فحوصاً وصوراً، وصُدم بحجم الكسر، قائلاً: "لم أرَ في حياتي كسراً بهذا الحجم!، وتحتاج إلى عملية زراعة مفصل بشكل عاجل"، ثم أكمل بابتسامة ساخرة: "لكن.. سأدعك تتألم، ولن أجري لك هذه العملية".

أمضى الأسير الحيلة أكثر من عامٍ يعاني، لا يقوى حتى على قضاء حاجته، كان قضاء حاجته جالساً أمراً مستحيلاً، كل لحظة يمر بها تعني انكساراً للروح، وعذاباً لا يراه أحد، ظل حبيساً لآلامه إلى أن منّ الله عليه بالحرية في شباط/ فبراير 2025.

 

عندما عذبنا الطبيب 

يشارك الأطباء في سجون الاحتلال في تعذيب الأسرى، وهذا ما حدث مع الفتى الأسير عادل صبيح، فبعد إصابته في ساقه خلال التعذيب، ظل الأطباء يُرهبونه ليُجبروه على التوقيع على وثيقة بتر ساقه. كانوا يضربونه على موضع الإصابة ولا يتوقفون عن تهديده حتى يرضخ، كان من الممكن أن تنجو ساقه، لكن سجانه أراد غير ذلك فتركه بجسد مبتور.

في سجون الاحتلال التعذيب سياسة، والإهمال الطبي عقيدة، والأسير لا يُعامل كإنسان، بل كجسد يُستنزف، وصوت يجب أن يُخرس، وروح يجب أن تُقهر، لكن الأجساد المنهكة، لا تموت بسهولة.

اقرؤوا المزيد: يوميّات أسرى في "الفورة"

الإهمال الطبي في سجون الاحتلال ليس مجرد غياب لعلاج أو تأخير في وصف دواء، بل هو شكل من أشكال القتل البطيء، وسلاح يُستخدم لإخماد الأصوات، وكسر العزائم، وسلب الحياة من داخل الجسد شيئاً فشيئاً، لم يكن الألم وحده ما عانى منه الأسرى، بل الشعور بأنهم يُتركون للنزيف بصمت، دون أن يُحرك أحد ساكناً.

اليوم خرجتُ من السجن، لا لأن حكايتي انتهت، بل لأن دوري بدأ خارج الأسوار، خرجتُ حاملاً أوجاع من لم يُتح له الخروج، ومن لا يزال يتنفس الألم بصمت، ويتوسد ألمه في كل ليلة.

أنا لست حُراً بالكامل، ففي كل سطر أكتبه زنزانة، وفي كل كلمة جرح مفتوح، وفي كل نقطة قلبٌ خلف القضبان يواصل النبض. أكتب لأنني نجوتُ، وأكتب لأجل من لم ينجُ، لأحفظ وجوههم من الغياب، وأصواتهم من الانطفاء، أكتب لأن الحكاية لا تنتهي حين ينكسر الجسد، بل حين يُخرس اللسان.

الآن، بعدما تكسرت أضلعي هناك، صار قلمي ضلعاً جديداً، أتكئ عليه لأقف، وأحمل به القضية، فإن كانوا قد منعونا من الدواء، فلن يمنعونا من أن نكون الدواء لبعضنا، بالكلمة، بالحقيقة، بالشهادة التي لا تُسكتها القضبان.