عقدت حركتا "فتح" و"حماس" مؤتمراً مُشتركاً في 2 يوليو/ تموز الجاري تحت عنوان مواجهة مشروع الضمّ الإسرائيليّ للضفّة الغربيّة. لم يخرج المؤتمر بشيء؛ لم ينتهِ الانقسام ولم يجرِ الاتفاق على كيفية مواجهة "إسرائيل". بدا أنّ الهدف من وراء المؤتمر هو "اللقاء بحدّ ذاته"، إذ لم نخرج منه بفكرة مُحدّدة عن الذي سيفعله "طرفا الانقسام" (بحسب تعبير الصحافة الفلسطينيّة).
جرى اللقاء بين طرفين فعلاً؛ من جهة كان اللواء جبريل الرجوب، أمين سر اللجنة المركزيّة لحركة "فتح"، ومؤسس جهاز الأمن الوقائيّ، من تتهمه المقاومة بمطاردتها منذ أيّام الشهيد محيي الدين الشريف وحتّى تسليم المطلوبين في مقرّ الأمن الوقائي في بيتونيا عام 2002 (وأيضاً صاحب مشروع "يشوفونا بشورتات ولا يشوفونا ملثّمين" بعد أن تسلّم القطاع الرياضي)؛ من جهةٍ أخرى حضر صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، الذي تعتبره "إسرائيل" أحد أهم مؤسسي كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام في الضفّة الغربيّة، حيث اعتقلته لأكثر من 18 عاماً، كما اتهمته بالوقوف خلف عمليّة خطف المستوطنين الثلاث في الخليل عام 2014، وكانت قد أبعدته عن الضفة الغربيّة قبل ذلك بأربع سنوات.
اقرأ/ي المزيد: "الضم:"إسرائيل" تُهندس الأرض، والسّلطة تُهندس الصمت".
ولهذه الأسباب، عُقد المؤتمر بين "طرفي الانقسام" من خلال تقنيّة "الفيديو كونفرنس". لأنّ أحدهم أبعدته "إسرائيل" خارج فلسطين، بينما أبقت على الآخر فيها. يكمُنُ أساس الانقسام بدايةً في وجهة نظر "إسرائيل" حول أيّ نوع من القيادة ترغب هي أن تقودنا!
قدّمت "حماس" خلال اللقاء شهادةَ الثقة بأبو مازن بأنّه لن يتنازل -ودون أن تُخبرنا عن مصدر هذه الثقّة-. لم تنتبه أنّه ليس هناك شيءٌ معروض عليه حتّى يتنازل عنه. هذا لأنّ "إسرائيل" ومعها أميركا، لم تعودا بحاجة لموافقة "الطرف الفلسطينيّ" على شيء. لقد وصل قطار التسوية إلى محطته الأخيرة. ليست هذه لحظة كامب ديفيد كما حدث مع أبوعمار، بل هي لحظة فارقة تماماً، لم تعد "إسرائيل" فيها بحاجة لتنازل قيادة السّلطة، وهي قادرة على أخذ ما تريد من الأرض والأعمار، مطمئنةً تماماً بأن إعادة بناء الأجهزة الأمنيّة الذي انطلق بعد الانتفاضة الثانيّة (وأشرف أبو مازن ونُخبتِه عليه) قد وصل إلى تمامه.
إنهاء "إنهاء الانقسام"
ليس لهذه المؤتمرات هدف في إنهاء الانقسام، وذلك لأنّ هذه اللقاءات نفسها لا تجرؤ على تسمية الجذور الحقيقيّة للانقسام: إنّها مُعدَّة للعلاقات العامة، تستثمرها "فتح" في ابتزاز القوى الدوليّة، وتستخدمها "حماس" لِـتُـثـبِتَ حسن سيرتها ومقبوليتها (فليس من الجيّد أن يُحسب عليك أنّك ضدّ المصالحة)، فيما ينسى الطرفان في هذا المشهد أن يتحدثا مع شعبهم بلغةٍ واضحةٍ يصدقها.
في الواقع، فإنّ سردية "إنهاء الانقسام" كما جرى تعميمها من أكبر الأكاذيب رواجاً في فضاء الحقل السياسيّ الفلسطينيّ: من يستطيع أن يشرح لنا كيف يمكن أن توحّد محمد ضيف مع ماجد فرج في عملٍ مشتركٍ سنُسلَّم له بأن مقولة "إنهاء الانقسام" كما يُرَوَّج لها حقيقية. نحن لسنا أمام انقساماتٍ بسيطة في الرؤية يُمكن لعزام الأحمد وموسى أبو مرزوق أن يضحكا وقت مناقشتها، إنّما نحن أمام انقسامٍ على أسئلة مصيريّة جداً من نوع: من هو العدوّ؟ وإلى أين نصوّب بنادقنا؟
لقد غُرِسَت بذور هذا التنافر في التسعينيات مع بداية "مشروع الدولة". في ذلك الوقت، كان قد أصبح لدينا رجلان يحملان البنادق ويفكر كلُّ واحد منهما على النقيض من الآخر؛ تيارٌ يعمل من خلفه الناسُ على بناء شبكات صمود محليّة من جمعيات ومؤسسات مجتمعيّة، وتيارٌ يُفكِّكها و"بهدوء عنيف" يُحِلّ مكانَها "البيروقراطية"، والبنوك، والأمن.
وفعليّاً لم نكن قريبين من "المصالحة الوطنيّة" إلا في الحدث الجامع للانتفاضة الثانيّة، والتي كان من المفترض أن يكون "مشروعُ الدولة" قد وصل معها لاستنتاجِهِ الأخير لكنّ الاستنتاج تأخر إلى الآن ونحن جميعاً ندفع ثمن هذا التأخر. انقسمنا بعد الانتفاضة الثانية على تفسيرها: من فسّرها كلعنةٍ وخطيئةٍ كفّر عنها بمشروع "القضاء على عسكرة الانتفاضة الثانية"، ومن رآها كاستعادةٍ لثقـتِـنا بذواتنا وقدرتنا على التحرر، بنى جيشاً خاض ثلاث حروب دفاعاً عن أهل غزّة، وتحمّل عن فلسطين كلها عبء تحرير الأسرى، وما زال محاصراً.
انقسامنا إذاً ليس على "السّلطة"، بل قَـبلها، وإنْ كانت "السّلطة" لحظةَ تكثيفٍ له. وانقسامُنا ليس نتيجةَ صندوق الاقتراع، وإن كان الصندوقُ مناسبةً لظهوره على السّطح. الانقسام في حالتنا ليس بين أحزاب برلمانيّة في دولة تملك السيادةَ على نفسها، بل انقسام بين تيارين يتصارعان على تمثيل الجماعة السياسيّة للفلسطينيين، ويمتلكان وجهتي نظر شديدتي التباين حول الذات وأعدائها.
انقسامنا هو نتيجةٌ طبيعيّة في حال أخذنا "الثوابت الوطنيّة" أو حتى "وجودنا المحض" على محمل الجدّ، تلك الثوابت التي يجب أن يجري الخلاف تحت سقفها، وليس عليها لدى أي شعب كان. ونحن حتى اللحظة لم نحسم ذلك، بل عَمِلنا على العكس تماماً: عمّمنا "الروح العائمة" وامتزنا بـ"اللاتحديد" في تعاملنا مع شأننا السياسيّ ككلّ.
كل المسائل الجديّة في قضيتنا حوّلناها إلى شعاراتٍ باردة، ولا معنى لها، يُمكن للجميع أن يتفق عليها دون أن يأخذَ مآلاتِها على محمل الجدّ. "عودة اللاجئين"، "القدس"، "فلسطين من نهرها لبحرها"، وغيرها من الشّعارات. نسينا بأنّ على الشّعار لكي يصبح سياسيّاً -لا تراثيّاً- عليه أن يُعبِّر عن نفسه في السياسات العينيّة التي نتخذها وفي الممارسة اليوميّة، وتكون له قوّة تدعمه وتُوَسّع منجزَه باطراد.
و"المقاومة" نفسها، يمكن أن تكون كلمةً بلا معنى، فهناك من يناصرونها، ولكنهم يعادون كلّ أحزابها وفاعليها. إنّهم يناصرون "المفهوم" هكذا، وحدَهُ مُعلقاً في الفضاء، إذ لا تعود الأمورُ مُكلِفَةً، ولا يعود لها معنى واقعيّ.
وكذلك فَعَلنا في مسألة "انقسامنا"، إذ أصبح مناسبةً لتَطَهُّرِ فئاتٍ واسعةٍ من تيار اليسار ونخبة المجتمع المدنيّ من "رجاسة" اتخاذ الموقف والالتزام بالحفاظ على "طهرانيّةٍ" مُتخيلة، حيث يمكنهم أن ينعموا باتخاذ مسافةٍ من "طرفي" الانقسام، ثمّ تحميلهما بالتساوي مسؤوليةَ كلّ التدهور الذي وصلنا إليه، دون أن ينتبهوا إلى أنّهم، لو كانوا على رأس تيار المقاومة، سينالوا المصير ذاته.
وإذا لم نُسمِّ خلافاتِنا جيّداً، ستكون مقولاتٌ مثل "الوحدة الوطنيّة" و"الإجماع الوطنيّ"، أداةً تُستخدمُ عند كل مفترق طرق لإخضاع صاحب السّقف الأعلى لكي يتساوى مع السّقف الأدنى، وهكذا تستمرّ السقوف بالانخفاض حتى نرتطم بالأرض.
ماذا خسر الفلسطينيون بـ"تردد" حماس؟
ومع أنّ المقاومة هي أكبر المُتضررين من سردية "إنهاء الانقسام" كما جرى تعميمها، إلا أنّها ساهمتْ في تغذيتها، أولاً بوراثتِها لبيروقراطية "فتح" في غزّة. لا تكمن المشكلة الجوهريّة في دخول لعبة سلطة أوسلو (مع إشكالية هذا الخيار)، بل في أنّ الخيال السياسيّ للمقاومة وخياراتها الإداريّة لم يسعفها في تجاوز إرث هذه البيروقراطية، والمعدّة سلفاً لتكون نقطةَ ضعفٍ تستطيع "إسرائيل" استغلالها. وفي ظلّ هذه الوراثة، لم تنجح المقاومة في إقناع الناس بأنّ أعباء الحصار موّزعة على الجميع بالتساوي.
وثانياً، أنّ المقاومة في أدائِها السياسيّ خضعت كليّاً لتعميم هذه الشّعارات بعد أن أدخلتها نخبةُ "فتح" في ماراثونٍ طويلٍ من لقاءات المصالحة (مكة 2007، القاهرة 2011، الدوحة 2012، الشاطئ 2014، القاهرة 2017..إلخ)، فعمّمت - أي تلك النخبة- في وعي عموم النّاس أنّ هناك سلطتين مختلفتين تتشاوران باستمرارٍ على مسائل الحكم في الغرف المغلقة. ولم تنجح "حماس" في تقديم سرديّةٍ مُنافسةٍ لما عمّمته قوى السّلطة، فجاءت سرديّةُ "إنهاء الانقسام" سهلةً وبسيطةً وغير مُكلفة وجاهزة فاستهلكَها عمومُ الناس.
وكنتيجة لذلك تتصرّف حركة "حماس" بوضعيّة خجولة، فلا تريد أن يُسجّل عليها أنّها ضدّ "المصالحة"، ولذلك تستمر في تقديم هذا النوع من "العلاقات العامة"، "لِتجبَّ الغيبة عن نفسها". تظنّ، وهي اليوم في طليعة العمل المقاوم، أنّها مدعوّة للنقاش الوطنيّ لا داعية له، وبأنّ على كلِّ نقاشٍ وطنيٍّ أن يكون باللغة التي أَجبرَتْ نُخبةُ السّلطة الجميعَ على الاعتراف بها. ما تخسره المقاومة بهذا الوهم، هو الحديث مع قوى المُجتمع وعموم النّاس، ما تخسره تماماً هو ما يحتاج النّاس منها أن تقوله.
انطلاقاً من هذه الوضعية توجّه الشّيخ العاروري للناس، بعد أن قدّم سيناريوهاتٍ للضمّ، بـ"أن لا تنتظروا منّا أن نوجّهكم.. تحرّكوا أنتم". ليس القائد السياسيّ مُحلّلاً أو صحافيّاً، بل هو من يحشد الناس تجاه حلمِهم، ويُجنِّبُهم مساراتِ هلاكهم، ويعبرُ بصدقٍ عن حاجة الناس الماسة لاستعادة أنفسهم. تتضاعف هذه المسؤولية حين تكون على رأس التيّار المقاوم، تحديداً في لحظة كالتي نحن فيها، لحظة وصلت حدّاً من الخطر لم يعد فيه لدى أي أحد ما يقول، ومع ذلك لا يخرج للناس من يُحدثهم.
تُغذّي "حماس" انفصام وعي الناس من خلال التردد السياسيّ الذي تُبديه، حين تقول المقاومة كلمتها بوضوح عسكريّاً على لسان أبو عبيدة، ثم لا تعرف كيف تترجمها سياسيّاً. يُسبّب ذلك فصاماً رهيباً، وتظهر عواقبه ليس فقط في عقول الناس من عموم البيئة الاجتماعيّة للمقاومة، بل حتى لدى أبنائها والعاملين فيها.
النتيجة التي نجنيها من عدم الوضوح لأغراض المجاملة مكلفة؛ إنّك لن تكسب أحداً من الخصم، وستخسر ألفاً من الأصدقاء وألفين من سكان المنطقة الرمادية، ثم شيئاً فشيئاً تنسى أنت نفسك ما الذي كنت تقاتل عنه. علينا أن نذكِّر أنفسنا بأنه لا أحد تؤتمن خواتيمه، (قادة الأجهزة الأمنيّة كانوا أسرى سابقين) وما نُمثّله في السياسة، نعتاده بعد فترة، ونَـصيرُه.
وحين تكون أمام لحظة تاريخيّة فارقة كالتي نعيشها، لحظة وضوح للمشروع الذي يعادينا ولحظة خلاصات حول انتهاء خيارات هيمنت على إرادتنا، لا يعقل أن تضيع الفرصة بالتعويل، مجدداً، على هذه اللقاءات و المجاملات وترداد الشعارات العائمة: "استراتيجيّة موحّدة"، "استحقاقات"، "الإجماع الوطنيّ". سيزداد شك النّاس في جدوى مشروعك فيشتدُّ حصارك أكثر، وأول خطوات كسر الحصار الذي فُرض عليك هو بعودتك لحاضنتك وناسك ومخاطبتهم بكلّ وضوح بما لديك وبما يصدّقونه، وأن تتحرك وفق ذلك أمامهم.
العدو لم يَعُد على البوابة
وصلت "إسرائيل" في مشروعها لأوج درجات الوضوح، لحظة صفقة القرن تقطع تماماً مع ما قبلها، تحرك منفرد دون حاجة إلى ديكور يُزيّنُه ودون تمثيل لـ"عملية السلام". كل المسلسل الطويل والمُمل من لقاءات (أوسلو، طابا، واي ريفير، كامب ديفيد،...الخ) أصبح فائضاً عن حاجتها، وهي ذاهبة لإنجاز مشروعها وسحقنا حتى النهاية.
اقرأ/ي المزيد: "إجابة وحيدة لـ"صفقة القرن": كلّ فلسطين".
تشكّلُ لحظة الوضوح هذا فرصة لعودتنا كفلسطينيين إلى المربع الأول في علاقتنا مع هذا المشروع، بعد أن تعمّق واقع الهزيمة وانخرط الجميع في مشاريع الخصوصيّة الجغرافيّة: خيار الدولة في الضفة الغربيّة الذي لم يعد واقعيّاً؛ وخيار فك الحصار عن غزة الذي لم يعد ممكناً؛ وخيار الاندماج وبناء المعسكر الديمقراطيّ ضمن الساحة السياسيّة الإسرائيلية، الذي هيمن خطابه على أحزاب الداخل. لقد كان قانون القومية الذي فرضته "إسرائيل" تعبيراً فجّاً عن هذا الوضوح وعن طبيعة نظامها وتعريفه لنفسه ولـ"الأسياد ضمنه" مقابل "كل الفلسطينيين في فلسطين وخارجها"، بمعزل عن الجغرافيا أو المكانة القانونية. ولذلك من الغريب أن يتحدث العاروري عن قانون القومية في الوقت الذي يُرحِّبُ فيه بأيمن عودة، أحد أبطال الخصوصية الجغرافيّة في الداخل وصاحب مشروع المعسكر الديمقراطيّ الإسرائيليّ (وفاتَه توجيه التحية للشيخ رائد صلاح المعتقل منزليّاً، وفي انتظار انتهاء إجراء محاكمته).
ما يحدث اليوم ليس فرصة لمواجهة "مشروع الضمّ" فقط، بل هو فرصة لمواجهة "إسرائيل" كلّها كمشروع حربيّ يسعى للاستفراد فينا كلّ على حدة، في لحظة وصل فيها "كل حدة" لمنتهاه. من هذه النقطة تحديداً يمكننا اشتقاق رؤية سياسيّة جديّة، ولديها ما يكفي من الثقة بالنفس لتحلم مجدداً بما يبدو بعيد المنال، أن نصيغ لغتَنا وسلوكَنا بعيداً عن المكان المهزوم الذي توطّنت فيه اللغةُ بالمجاملة والوهم والإفراط بالواقعية لدرجة فقدان الواقع نفسه.