9 يوليو 2024

هل يخوض "حزب الله" معركة أعمدة؟

<strong>هل يخوض "حزب الله" معركة أعمدة؟</strong>

تضيع الكثير من الحقائق في زحمة الأحداث التي نعيشها هذه الأيام، وكثيراً ما تغلب العواطف وتطغى التصورات المسبقة على القراءة الموضوعيّة للمشهد. يتجلّى ذلك مثلاً في تحليل البعض لنهج "حزب الله" اللبنانيّ مع تفاعله مع الحرب على غزّة، إذ يقولون ساخرين: إنّه يخوض معركةَ أعمدةٍ يستهدف فيها معدات التجسس الإسرائيلية، ضمن حالةٍ من التسطيح لمشهدٍ مهمٍ تجدر متابعتُه بجديّة لارتباط الأداء العسكريّ فيه بساحات قتال أخرى. 

تسعى الفقرات القادمة لتتبع الخطّ الزمنيّ لتطور الصراع العسكريّ بين "حزب الله" ودولة الاحتلال منذ بدء "طوفان الأقصى" حتى بداية تموز/ يوليو 2024، وأسباب الإحجام الإسرائيلي عن توسيع الصراع في ظلّ تصاعد الحديث مؤخراً عن احتمال شنّ عمليةٍ عسكريّة موسّعة ضدّ لبنان.

التدرّج في العمليّات 

مع استشعار واشنطن لخطورة "طوفان الأقصى" على أمن وبقاء "إسرائيل"، سارعت فوراً للتدخل بشكلٍ مباشر، فأرسلت حاملتي الطائرات "فورد" و"أيزنهاور" إلى سواحل شرق المتوسط، وبعثت 2000 جندي لتقديم الدعم والمشورة، ودشَّنت خطَّ إمدادٍ جويّ للذخائر والعتاد، كما قدّمت دعماً سياسيّاً مفتوحاً انعكست ذروة مظاهره بحضور الرئيس جو بايدن جلسةً لحكومة الحرب التي شكّلها نتنياهو.

كانت رسالة واشنطن أنّها حاضرة في الصراع بثقلها لردع كلّ من تسوّل له نفسه المشاركة في القتال، وهي رسالة استوعبها "حزب الله" جيّداً. لكنّه في الوقت ذاته عمل على امتصاصها وكسر حدّتها من خلال البدء في اليوم التالي للطوفان، بشنِّ سلسلةٍ من العمليات المحسوبة التي تستهدف تحصيناتِ وتجهيزاتِ وأفرادَ جيش الاحتلال في "مزارع شبعا". ثمّ مع توالي اعتداءات الاحتلال ضدّ المدنيين في جنوب لبنان بدأ الحزب باستهداف المستوطنات شمال "إسرائيل" وفق معادلة المدنيين مقابل المدنيين، كما في قصف "كريات شمونة" بعشرات صواريخ الكاتيوشا إثر استشهاد سيدة لبنانية وثلاثة من أحفادها بقصف سيارتهم في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. وفي المجمل أعلن الحزب عن شنّ 105 هجوم خلال الفترة الممتدة من 8 إلى 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهي وتيرة غير مسبوقة في عمليات الحزب تدلّ على جاهزيةٍ عسكريّة عالية. 

جيش الاحتلال يتفقد الأضرار التي لحقت بمستوطنة "موشاف دوفيف" شمال فلسطين المحتلة بعد أن استهدفها "حزب الله" بصواريخ أطلقها من لبنان في 27 أيار/ مايو 2024. (تصوير: جلاء ماري / وكالة الصحافة الفرنسية)

ولتوسيع نطاق المشاركة، وتخفيف التداعيات السياسيّة، سمح الحزب للتنظيمات الفلسطينيّة مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، بشنّ هجماتٍ محدودة انطلاقاً من جنوب لبنان. كذلك عمل على توسيع نطاق شركائه المحليين في دلالة بأن المقاومة خيارٌ شعبيّ أوسع من الحزب، فسمح لـ"كتائب الفجر"، الجناح العسكري لـ "الجماعة الإسلامية"، بالدخول على الخطّ عبر تنفيذها هجمات ضدّ الاحتلال. 

وقد دفعت الهجمات المنطلقة من لبنان حكومةَ نتنياهو الخائفة من حدوث اجتياح بريّ يشبه الطوفان الغزّي، إلى تفعيل خطّةٍ لإخلاء سكان 28 مستوطنة تبعد عن الحدود اللبنانية مسافة كيلومترين، ثمّ توسّعت عمليات الإخلاء لاحقاً لتشمل 43 مستوطنة، ممّا أدّى إلى تهجير أكثر من 60 ألف مستوطن (مصادر أخرى أشارت إلى أنهم 200 ألف). ومع دخول الهدنة الأولى في غزّة في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر حيز التنفيذ، أوقف الحزب هجماته، ثمّ عاودها مطلع كانون الثاني/ ديسمبر مع تجدد العدوان، ليشدّد على وقوفه خلف المقاومة كجبهةٍ إسناد.

برهن الأداء الميدانيّ للحزب أنّه استخدم فترة الهدوء الطويلة التي تلت حربَ 2006 في تحديث مخزوناته من الأسلحة، إذ زوّدها بأنظمة دفاعٍ جويّ إيرانيّة الصنع، وصواريخ موجّهة مضادّة للدروع، وفي مقدمتها صاروخ "ألماس" المزوّد بكاميرا لتتبع الهدف، وصواريخ بركان الثقيلة، وصواريخ أخرى دقيقة متنوعة المدى، وطائرات مُسيّرة انتحاريّة وأخرى مزوّدة بصواريخ موجّهة. كما أثبت أنّه تحوّل من مليشيا تُقاتل وفق نمط حرب العصابات، إلى قوّة مقاتلة ذات أُطر عسكريّة وأسلحة دقيقة تمتلك نظاماً متقدِّماً لإدارة المعارك. 

ما بعد اغتيال العاروري

شهد مطلع عام 2024 تصعيداً ملحوظاً إثر اغتيال صالح العاروري ورفاقه في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وهو ما وضع "حزب الله" في حرجٍ لسابقة تعهد أمينه العام حسن نصر الله، بالردّ على أي اغتيال تنفّذه "إسرائيل" في لبنان. وبالفعل، ردّ الحزب للمرة الأولى في الحرب، بقصف قاعدة "ميرون" للمراقبة الجويّة، بصواريخ كاتيوشا وأخرى موجّهة، ما ألحق أضراراً بالقاعدة التي تغطي العمليات الجويّة من شمال فلسطين إلى سوريا ولبنان وشرق المتوسط. 

إثر ذلك، دخلت ديناميكية الفعل وردّ الفعل مرحلةً جديدة، فردّ الاحتلال باغتيال وسام الطويل، القيادي في وحدة "الرضوان". وفي المقابل، ردّ الحزب بقصف مقر قيادة المنطقة الشماليّة لجيش الاحتلال الإسرائيلي في مدينة صفد بطائرتين مُسيّرتين، وهو ما مثّل فشلاً ذريعاً لأنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية. 

بحلول شباط/ فبراير الماضي، هاجم طيران الاحتلال للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب بعلبك، معقل "حزب الله" في البقاع، على بعد 100 كيلومتر من الحدود، وهو ما اعتبره الحزب خرقاً لمعادلة الصراع، فوسّع هو الآخر نطاق هجماته، فقصف بصواريخ الكاتيوشا ثكنة "كيلع" في الجولان السوري، والذي أصبح ضمن دائرة الاستهداف المتكررة. كما أطلق صواريخ فلق على قاعدة المراقبة الجوية في جبل ميرون للمرة الثانية ليصبح استهدافها روتيناً دوريّاً. 

كذلك، أتت أنظمة الدفاع الجويّ التي يملكها الحزب ثمارها، إذ أسقطت خمس طائرات إسرائيلية مُسيّرة من طراز "هيرميز 450" و"هيرميز 900"، بصواريخ أرض جوّ منذ بداية الحرب حتى نهاية حزيران/ يونيو 2024، ما حرم الاحتلال ميزة حريّة الطيران وجمع المعلومات جوّاً فوق لبنان.

في أيار/ مايو الماضي، انتقل الحزب خطوةً للأمام، إذ قصف بصواريخ موجّهة موقعَ تشغيل منطاد في مستوطنة "أدميت" ما أدّى لسقوط المنطاد داخل لبنان. وبعدها بيومين، قصف بطائرتين مُسيّرتين موقع منطاد مراقبة في "تل هشمايم" على بعد 50 كيلومتراً من الحدود، وهو منطاد متطور يرصد الحركة الجويّة من لبنان إلى حدود إيران. واعترف جيش الاحتلال بتضرر المنطاد الذي كلّف تصنيعه المشترك مع واشنطن، عشرات ملايين الدولارات. وكذلك نفّذ الحزب للمرة الأولى غارةً جويّة بطائرة مسيّرة مزوّدة بصاروخين على موقع "المطلة"، حيث قصفت الطائرة الموقع قبل أن تصطدم به. وأحدثت تلك الهجمات ثغرةً في قدرات الرصد والمراقبة الإسرائيلية.

طبول الحرب تُقرع

ردّاً على اغتيال "أبو طالب"، قائد وحدة "نصر" التي تشرف على منطقة عمليات تمتد من منطقة بنت جبيل إلى مزارع شبعا، أطلق الحزب في اليوم التالي (13 حزيران/ يونيو) نحو 270 صاروخاً وطائرة مُسيّرة، استهدف بعضها مصنع ‌‏"بلاسان" للصناعات العسكريّة المتخصص في تدريع الآليات، وقاعدة "ميرون" للمراقبة الجوية، ما ألحق أضراراً ماديّة بهما، ودمّر بطارية قبّة حديدية إثر استهدافها بقذيفة موجّهة ليبلغ إجمالي القباب التي دمّرها منذ بداية الحرب إلى أربعة. 

هكذا، ومع حلول حزيران/ يونيو الماضي، بدأت طبول الحرب الشاملة بالتصاعد، فطلبت كندا وألمانيا وهولندا وروسيا والسعودية والأردن والكويت من رعاياها سرعة مغادرة لبنان، بينما ربط الحزب وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانيّة بوقف العدوان على غزّة. 

طائرة إسرائيلية تحاول إطفاء حريق اندلع بعد أن شن "حزب الله" أحد أكبر الهجمات الصاروخية على مدينة صفد المحتلة شمال فلسطين، في 12 يونيو/ حزيران 2024. (تصوير: مصطفى الخروف/ الأناضول).

وإثر فشل جولة المبعوث الأميركي هوكشتاين في بيروت وتل أبيب في الوصول لتفاهم، ألقى حسن نصر الله خطاباً في 19 حزيران/ يونيو مهّد فيه لاحتمال اندلاع حرب واسعة، وهدّد قبرص في حال فتح قواعدها ومطاراتها لجيش الاحتلال. خطاب جاء بعد يومٍ واحد من نشر الحزب لفيديو بعنوان "الهدهد" (نُشرت اليوم الحلقة الثانية منه بعنوان: الجولان السوري المحتل) رصدت فيه طائراتُه المُسيرّة أهدافاً حسّاسة في حيفا، في رسالةٍ بأن قدرات الرصد الاستخباري لدى الحزب متطورة، وأن الحرب معه ستكون مكلفة. 

اقرؤوا المزيد: قبرص واليونان: حيث تحاكي "إسرائيل" حربَها القادمة

كما عمّق الحزب مدى قصفه للشمال المحتل، فوصلت طائراته الانتحاريّة المسيّرة إلى عمق 35 كيلومتراً، لكنّه ظلّ حريصاً على تجنب استهداف العمق الاقتصاديّ في حيفا وما بعدها. وتكررت وتيرة هجمات الحزب المكثفة في مطلع تموز/ يوليو بعد اغتيال محمد نعمة قائد وحدة "عزيز" التي تشرف على منطقة القطاع الأوسط والغربي. 

هل هي معركة أعمدة؟

إنّ التفاصيل سالفة الذكر، تُبين أنّ استهداف الحزب لمعدات المراقبة الإسرائيلية، هدف إلى تعمية أجهزة الرصد لدى الاحتلال، ما أتاح لعناصر الحزب حريّةً نسبيّةً في شن الهجمات وإطلاق الطائرات المُسيّرة والصواريخ تجاه المواقع الإسرائيلية، وأوجد حالةً من القلق داخل قيادة الاحتلال تجاه خوض حربٍ واسعة النطاق ستكون تكاليفها باهظة عسكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً. 

ولقد أسفر القتال في الجبهة اللبنانيّة عن شعور المستوطنين المهجرّين من الشمال بأن حكومتهم تخلّت عنهم، وأن الحزب نجح في فرض منطقةٍ أمنيّةٍ للمرة الأولى داخل شمال فلسطين، ولذا أعلن مؤخراً أفيحاي شتيرن، رئيس بلدية "كريات شمونة"، أنّ 13% من السكان لن يعودوا للعيش في البلدة مرة أخرى، وهو ما يضرب الشعور بالأمن الذي يمثّل ركيزة الوجود الاستيطاني في فلسطين.

إنّ سيناريو الحرب الشاملة، والذي يتضمن مناورةً بريّةً تصل إلى نهر الليطاني أو حتى عملية بريّة تصل إلى بيروت، مطروح إسرائيلياً منذ سنوات، وأدرجه "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي" ضمن ثلاثة سيناريوهات مطروحة للتعامل مع "حزب الله"، في دراسةٍ أصدرها عام 2021 بعنوان "الحرب القادمة في الشمال: السيناريوهات والبدائل الاستراتيجية والتوصيات". 

صورة مأخوذة من قرية مرجعيون اللبنانية في 23 أيار/ مايو 2024، تظهر الدخان يتصاعد في مستوطنة شمال فلسطين المحتلة، بعد قصف شنه "حزب الله". (تصوير: ربيع ضاهر/ وكالة الصحافة الفرنسية).

دعت الدراسة إلى استنفاد جميع الخيارات المتاحة أولاً قبل اللجوء لهذا السيناريو، نظراً للشك في قدرة تل أبيب على فرض شروطها عند نهاية الحرب، والتخوف من لحوق دمار واسع بالقواعد العسكرية والمنشآت الحيوية والمراكز السكانية داخل دولة الاحتلال. فضلاً عن توقع طول أمد القتال، إذ يتوقع مركز "ألما" أن يطلق الحزب متوسط ثلاثة آلاف صاروخ يوميّاً خلال الأيام العشرة الأولى من القتال، مع قدرة على مواصلة الإطلاق بوتيرة تصل إلى ألف صاروخ يوميّاً لمدة شهرين إضافيين، مما يُهدّد بإنهاك قدرات الدفاع الصاروخيّ الإسرائيلي، والتي ستعطي الأولوية لحماية الأهداف العسكريّة ثمّ الأماكن الحيويّة، فيما ستأتي المراكز السكانية في المرتبة الثالثة. كذلك توجد مخاوف من خوض حرب عصابات في الجنوب اللبناني، وهو ما لا تحتمله تل أبيب بعد ضربة 7 أكتوبر التي قوّضت ركائز نظريتها الأمنية القائمة على الردع والتفوق الاستخباري والحسم السريع للقتال.  

كذلك، يرى عدد من قادة جيش الاحتلال، مثل تامير هايمان قائد شعبة الاستخبارات العسكرية السابق، أن إنهاك الجيش من القتال في غزّة لمدة تسعة شهور، واستنزاف قدرات قوات الاحتياط، وتآكل الشرعية الدولية لتل أبيب، ووجود أزمة قيادة وخلافات عميقة بين المستويين السياسي والعسكري، وتزايد الانقسامات المجتمعية، والتخوف الأميركي من أن تؤدي الحرب على لبنان إلى حربٍ إقليمية أوسع تضرّ بمصالح واشنطن في المنطقة؛ يقلل من احتمالات التوجه نحو حرب شاملة.

ولكن يظل احتمال توسيع الصراع مع لبنان قائماً عبر شن عملية عسكريّة تهدف لإبعاد الحزب عن جنوب نهر الليطاني، وبالأخص في حال تراجع وتيرة العمليات العسكرية الواسعة في غزة بما يسمح بنقل الجزء الأكبر من الجهد العسكريّ إلى الشمال، مع التخطيط لإنهاء القتال مع الحزب بعقد اتفاق برعايةٍ أميركيّة وفرنسيّة يقضي بنشر الجيش اللبنانيّ فقط في الجنوب، والضغط باتجاه نزع سلاح "حزب الله" وإشغاله بدوامات الخلافات الداخلية في لبنان. لكن هذا أيضاً، خيار يحمل الكثير من المخاطرة في ظل تزايد احتمالات تدخل أطراف إقليمية أخرى بما فيها إيران، لدعم الحزب في القتال الذي يمكن أن يتحول لمعركة استنزاف مطولة، مما يهدّد بدفع "إسرائيل" نحو المجهول.  



8 ديسمبر 2023
اليوم 63: بدلاً من تحريره قتلوه

في خانيونس جنوباً، وفي جباليا والشجاعية وبيت لاهيا شمالاً، تجري أعنف المعارك بين المقاومة والجيش الإسرائيلي. تستهدف القسّام وسرايا القدس…