9 يونيو 2020

رمضان شلح.. القيادة في ظروف صعبة

رمضان شلح.. القيادة في ظروف صعبة

 عام 1995، أصبح القياديّ رمضان شلح رحمه الله أميناً عامّاً لحركة "الجهاد الإسلاميّ"، خلفاً للشهيد فتحي الشقاقي، والذي اغتيل في مالطا في أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام. جاءت هذه المسؤولية الجديدة على أكتاف شلح في مرحلة معقدةٍ شهدتها الحالة الوطنيّة الفلسطينيّة، من معالمها كارثة اتفاق أوسلو. وكذلك، في مرحلة مهمة من تاريخ الجهاد الإسلاميّ، التنظيم الذي قدّم لقواعد الإسلاميين إجابةً واضحةً ومُحددةً حول دورهم في الواقع الفلسطينيّ، ومواجهة الاحتلال.

جاء شلح، فأظهر قدراتٍ تنظيميّةً واسعة ساعدته على تخطي الكثير من الخلافات التنظيميّة الحادّة مع عموم الإسلاميّيين والتي طبعت مرحلةَ الشقاقي. إضافةً إلى ذلك، قدّم شلّح تنظيراً سياسيّاً وفكريّاً، واعتُبر أحد أبرز شخصيات النخبة المُثقفة للتيار الإسلاميّ منذ بداية الثمانينيات، والتي توّجه جزءٌ كبيرٌ منها نحو "الجهاد الإسلاميّ"، مثله ومثل بشير نافع وسامي العريان وعبد العزيز عودة وفتحي الشقاقي. وتُشير بعض المراجع إلى أن شلح هو من عرضَ فكرةَ تأسيس الجهاد الإسلاميّ على الشقاقي.

مركزيّة فلسطين

أخذ شلح دوراً مهمّاً إلى جانب الشقاقي، في الإضافة المركزيّة التي أضافها الفكر السياسيّ لحركة "الجهاد"، وهي تعزيز مكانة القضية الفلسطينيّة في الخطاب الإسلاميّ في فلسطين وخارجها، وتحريك القواعد الإسلاميّة نحو تبني خيارات النضال المسلّح. ساهم في هذا إسلاميّون آخرون من خارج فلسطين، وآخرون من داخلها أبرزهم الشيخ أحمد ياسين. إلا أنّ الشقاقي تمتع بحضورٍ أوسع وصلات إعلاميّة وسياسيّة أكثر مع شخصيات في الجماعة الإسلاميّة في مصر، وفي إيران، ولبنان، وبذلك لعب دوراً أساسياً في بثّ هذا التوجه فكريّاً وسياسيّاً.

شدّدت المنطلقات الفكريّة لحركة "الجهاد" على ضرورة استحضار الخطاب الإسلاميّ في الحالة الوطنيّة، وانتقدت إقصاء المركبات الإسلاميّة من مفرداتها، وهو ما انتقده شلح كثيراً سواء في مقالاته أو محاضراته. كان شلح، كما الشقاقي، يؤكد على ضرورة مركزيّة فلسطين في الخطاب الإسلاميّ  (وعدم الانتظار حتى تتوحد الأمّة، وإنما البدء بالنضال في فلسطين ضدّ الاحتلال)، وانطلاق النضال الوطني كذلك من منطلقاتٍ إسلاميّة، وهي المنطلقات ذات الإرث الروحيّ التاريخيّ، والقادرة على تحريك الأمة تجاه فلسطين، فلا يمكن أن يكون هناك كفاح فلسطينيّ بدون الإسلام.

وفي سبيل بثّ هذه الأفكار، أسس الشقاقي وشلح مجموعةً من المجلات التي كانت تعبّر عن رأي نخبة الجهاد آنذاك، مثل مجلة "المختار الإسلاميّ"، ومجلة "الطليعة الإسلاميّة". وعلى اسم الأخيرة، تأسست أول خلية عسكريّة للجهاد الإسلاميّ والتي اغتالت المستوطن "أهرون أغلوس" عام 1983. بعدها، فرضت سلطات الاحتلال الإقامة الجبريّة على الشقاقي وشلح لستة أشهر، ثم اعتقلتهما بعدما تأكد وقوف الحركة خلف العملية. وبالعودة إلى المجلات، فقد كتب شلح باستمرار في صحيفة "الاستقلال" التابعة للجهاد، وذلك تحت اسم "محمد الفاتح"، كما كتب في مجلة "إيران والعرب"، ومجلة "مركز الإسلام الحضاريّ".

أوسلو، معارضة بالموقف والاشتباك

كانت اتفاقية أوسلو كارثة الحالة الوطنيّة الفلسطينيّة المستمرة حتى هذه اللحظة، وهو المسار الذي سيدفع مقاتلو التيار الإسلاميّ ثمناً غالياً لمعارضته. في ذلك  لعب الأمينُ العام الجديد شلح دوراً بارزاً في معارضة الاتفاقية، فقد ساعد في تأسيس "تحالف القوى العشرة" الرافضة للاتفاق، وعبّر عن موقفه الجذريّ من الاتفاق والسلطة. 

والأهمّ من ذلك، قام الجناح العسكريّ "قسم" خلال تلك الفترة بتنفيذ مجموعةٍ من العمليات الاستشهاديّة في قطاع غزّة والضّفة الغربيّة وأراضي الـ48، مثل عملية "ديزنكوف" عام 1996، والتي نفّذها الشهيد رامز عبيد، وعملية "نتساريم" عام 1997، وعملية يوسف الزغير عام 1998. 

كلّف ذلك التنظيم كثيراً، خاصّة على مستوى العلاقة مع السّلطة الفلسطينيّة، والتي شنّت حملات اعتقال ضدّ عناصره وعناصر حركة "حماس"، وهي علاقة طبعت مرحلة ما بعد أوسلو وصولاً إلى الانتفاضة الثانية. وقد كانت إحدى أبرز حالات الاشتباك الجماهيريّ بين النّاس وأجهزة السّلطة بعد احتجاج قواعد "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ" على منع السّلطة إقامة عزاءٍ للاستشهادي هشام حمد من "الجهاد" عام 1994.

في الوقت ذاته، استطاع الأمين العام الجديد خلال تلك الفترة تقليص حجم التباينات الداخليّة داخل التنظيم، وهي الخلافات التي بدأت منذ بداية تأسيسه، وتعزّزت قبل اغتيال الشقاقي، وخصوصاً عام 1991، وعام 1993. وكانت معظم هذه الخلافات متعلقة أحياناً بالنفوذ، وأحياناً بالموقف من منظمة التحرير. لكن نظراً لشخصيته التوافقيّة، وقدرته على تقليل بؤر التوتر، تجاوزت حركة الجهاد مرحلة مفصليّة في تاريخها، كان المتوقع لها أن تزداد انقساماً بعد رحيل مؤسسها الأول.

بالإضافة إلى ذلك، كان لحضوره الشخصيّ، وتاريخه التنظيميّ، دور في منع أي خلاف قد ينتج عنه انقسامٌ داخليّ. فعلى صعيد الواقع السياسيّ، احتفظ بعلاقات متوازنة مع الشخصيات المركزيّة في الجهاد، مثل محمد الهندي في غزة، وزياد النخالة في الخارج. وقد ساعده في منع هذه الانشقاقات،  توحدُ رؤى هذه الشخصيات المركزيّة على قضية "الكفاح المسلح"، وعدم الانخراط في مشروع أوسلو والسلطة. 

وكذلك كان لرمضان شلح دورٌ على صعيد توازنات القوّة في الجسم العسكريّ للجهاد بعد الانتفاضة الثانيّة، إذ بقي الجسم العسكريّ محافظاً على تماسكه، بالإضافة لانتقاله في قطاع غزّة من مرحلة "اللامركزيّة" في العمل العسكريّ، إلى مرحلة البنية العسكرية المتكاملة بعد عام 2010 تقريباً. لعب شلح دوراً حازماً في إنهاء هذا النمط العسكريّ، مع الإشارة إلى أن مرحلة "اللامركزية" كانت في السّابق حلّاً لإبقاء مراكز القوة تحت الإطار العام للجهاد الإسلاميّ مقابل احتفاظها -أي مراكز القوة- بنفوذها المناطقيّ والتنظيمي، كما أنّ اللامركزيّة كانت تتسق مع كون الجهاد حزباً طليعياً يسعى لتحفيز الامّة على الجهاد.

معالم من سيرته القيادية

كما أشرنا سابقاً، فقد نأى الأمين العام الجديد عن الكثير من التجاذبات الشخصيّة أولاً، وحاول قدر الإمكان تقليل الاحتكاكات والتوترات مع الفصائل الأخرى وخصوصاً حركة "حماس". في إحدى تصريحاته، وصف شلح "حماس" بأنّها أهمّ إنجازٍ للإخوان المسلمين منذ تأسيسها. تُرجِم ذلك في بعض الأحيان لتحالفات بين الحركتين في انتخابات مجالس الطلبة في الجامعات الفلسطينيّة، وإن شهدت هذه الحالة كذلك خلافاتٍ وتوترات. 

كما حافظ شلح على صلة وثيقة مع مختلف مكونات الحالة الفلسطينيّة، بما فيها حركة "فتح" التي يُناصِب التنظيمُ مشروعَها السياسيّ العداءَ، مع  تشديده على رسم إطارٍ قيميٍّ وأيديولوجي لمعارضته للسلطة ولتوجهات حركة "فتح" السياسيّة.

الأمر الثاني الذي ساهم فيه شلح بقوّة، هو توجيه حركة "الجهاد الإسلاميّ" نحو مركزيّة العمل المسلّح في خطابها وسلوكها، وأن يتقدم على ما سواها من الأنشطة، كما عبّر هو أكثر من مرة بأنّ "الوسيلة الوحيدة لتحقيق هدف الحركة الاستراتيجيّ هو الجهاد المسلّح، وكلّ الوسائل الأخرى هي وسائل مساعدة ومساندة للجهاد".1الفكر السياسي للجهاد الإسلامي في فلسطين/ دراسة ماجستير، ناظم عبد الفتاح عمر، جامعة النجاح الوطنيّة،2008. وذلك قلّص شلح إلى أكبر قدرٍ مُمكنٍ من نشاطات أخرى متعلقة بالعمل الخيريّ وحتى الطلابيّ، وهو نمطٌ يتفق مع خطّ المؤسس العام الأول، ويتماشى أيضاً مع امكانيات الجهاد وموارده المحدودة. 

لكن رغم محدودية الموارد فإنّ "الجهاد" لم تتحوّل إلى تنظيمٍ خطابيّ، بل كانت ركناً استراتيجيّاً في معادلة الكفاح المسلّح، فـ"الجهاد الإسلاميّ" هو الفصيل الثاني في معدل عمليات وقتل الإسرائيليين قبل الانتفاضة الثانية، والثالث بعد الانتفاضة الثانيّة، وذلك بعد كتائب القسام وشهداء الأقصى.

الأمر الثالث هو الحفاظ على القواعد الاستراتيجيّة لحركة "الجهاد الإسلاميّ"، والتي تم الاتفاق عليها في وثيقة الجهاد الداخليّة منذ فتحي الشقاقي، فيما يتعلق بالكفاح المسلح، وتصفية العدو، وعدم الدخول في منظمة التحرير أو أي من أجسام السلطة. وإن كان موضوع الكفاح المسلّح قد وقع في بعض جوانبه في محطات انتكاسة، أهمّها عدم قدرة التنظيم على التعافي في الضفة الغربيّة بعد الانتفاضة الثانية، سوا كان تنظيميّاً أو جماهيريّاً، أو عسكريّاً، فلم تتعد عمليات التنظيم منذ 2008، وحتى الآن في الضفة أصابع اليد الواحدة. كما عانى الجسم العسكريّ في قطاع غزّة من اختلالات وإشكالات عديدة، وهو ما يظهر في أدائه العسكريّ خلال حرب 2014. 

الأمر الرابع، عمل شلح على تجنيب "الجهاد الإسلاميّ" التورط في خلافات إقليمية، وحاول عدم تصدير مواقف من الحالة العربيّة من حوله، وتمسك بحلفائه. حتى في سوريا التي شكّلت مأوى للتنظيم، كانت سياسة التنظيم مُتَزِنةً إلى حدٍّ بعيد، وبقي محافظاً على صلة جيّدة مع مكونات تحالفه التاريخيّ مع النظام السوريّ، حزب الله، وإيران. ورغم المآخذ التي اعتبرت ضدّ هذه السياسة، وخصوصاً في ذروة الربيع العربيّ، إلا أنه يمكن تفهم موقف الجهاد بشكلٍ كبيرٍ لو أخذنا بعين الاعتبار عدم وجود أي عمق شعبيّ أو سياسيّ له بخلاف حركة "حماس".

باختصار، وعلى مدار عشرين عامّاً تقريباً، قاد رمضان شلح تنظيم "الجهاد الإسلاميّ" فارضاً حضورَه في الساحة الفلسطينية عسكريّاً وسياسيّاً، ومحافظاً على إرث الشقاقي النظريّ السياسيّ والعسكريّ، وخصوصاً فيما يتعلق بـ"مركزيّة فلسطين في الخطاب الإسلاميّ"، ومطوّراً عليه في جوانب كثيرة. ورغم عدم تحقيق  طفرة فارقة في القوة الشعبيّة للتنظيم، أو في البنية العسكريّة له في الضّفة بعد الانتفاضة الثانيّة، وبشكلٍ أقلّ في غزّة، إلا أنّ إرثه العامّ ما زال يطبع حركة الجهاد الإسلاميّ حتى بعد تخليه عن الأمانة العامة عام 2017 بسبب مرضه الشديد.



28 ديسمبر 2023
اليوم 83: ضربة القرن! 

أرادتها أمريكا و"إسرائيل" صفقة قرن، فانقلبت عليهم في 7 أكتوبر "ضربة قرن"، هذا بعض من رسالة صمود وجهها الناطق العسكري…