18 أكتوبر 2023

هل مات الجنين؟ الاحتلال يستهدف الحوامل

هل مات الجنين؟ الاحتلال يستهدف الحوامل

تتم مادلين شهرها التاسع، حركة الجنين تضعف، ولا ألم يشير إلى اقتراب الولادة، ما عدا نوبة من الألم يسببها الفزع كلما انهالت الصواريخ حولها وحول أطفالها، يتلاشى الألم من جديد، ويظل الخوف ساكناً في قلب مادلين، تتساءل مرتعبة: "هل مات الجنين"؟ 

لكن ليس لديها وقت طويل للتساؤل، فالقصف يحيلها إلى التفكير بأطفالها الثلاثة: ساندي وشهيناز وجمال (من عام إلى 4 أعوام)، فتقرر النزوح مرة أخرى، عسى هذه المرّة أن تبعدهم عن مرمى الصواريخ.  

مادلين كلاب، واحدة من 5 آلاف حامل في قطاع غزة من المتوقع أن يضعن حملهُن خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وهُنّ من بين 50 ألف حامل في القطاع، بحسب ما نشره "صندوق الأمم المتحدة للسكان في فلسطين". 

تعرف "إسرائيل" جيداً أن هؤلاء يعنون دفعة جديدة من مقاتلي غزة القادمين، الذين سيكونوا أشد بأساً وهم الناجون من إبادتها، لذا تُصعّد استهدافها للنساء، وأطفالهن، وأجنّتهن. 

تعرف نساء قطاع غزة ذلك جيداً، فيُعلنّ أنهنّ سيُحاربن من أجل البقاء. 

"سأُسميها وسيلة"

منذ بدء طيران الاحتلال قصف قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أخذت مادلين بالنزوح من منزل إلى آخر، ولكن الصواريخ ظلت تلاحقها وعائلتها الممتدة، المكونة من 15 فرداً. وبعد أسبوع، انتقلت العائلة إلى "مستشفى الشفاء" طلباً للأمان، فاتخذت منه سكنا.

تروي مادلين لـ "متراس": "عندما وصلت الشفاء أصابتني آلام المخاض، وتبين في الفحوصات أنني على وشك الولادة، جهزني المستشفى استعداداً للولادة"، لكنها استدركت: "في اليوم الثاني، اشتد القصف حول المستشفى، وبسبب الخوف تراجعت كل مؤشرات الولادة لدي، ثمّ اختفت تماماً، ولكن بقي لدي آلام شديدة وضعف". 

وفي ظل توافد آلاف الإصابات إلى المستشفى، طلب الأطباء من مادلين المغادرة وأن تعود إذا أصابتها آلام الولادة من جديد، وأمام تهديدات الاحتلال المستمرة لأهالي شمالي غزة بإخلائها، اضطرت مادلين إلى النزوح وعائلتها إلى منزل يتبع أحد الأقارب في جنوبي غزة، إذ لم تجد متسعاً لها في المدارس التي امتلأت بالعائلات النازحة. 

عشرات العائلات الفلسطينية تلجأ إلى إحدى مدارس الأونروا في خان يونس بعد تدمير طيران الاحتلال منازلها بغارات جوية في 15 أكتوبر 2023.

تقول مادلين: "ذهبنا إلى منزل أحد أقاربنا وهو مكون من غرفتين، توجد فيه 8 عائلات قد لجأت إليه، لا يوجد لدينا ماء ولا كهرباء، ونكتفي بالحد الأدنى من الطعام"، حتى هذا المنزل ليس آمنا، فمعظم المباني حوله تتعرض للقصف اليومي، تعلق مادلين: "بالأمس شنوا غارة على مبنى قريب، أطفالي طاروا من مكانهم بسبب قوة الضربة، ثم دخلوا في نوبة من البكاء والصراخ والفزع لم تتوقف لساعات"، شعرت مادلين مرة أخرى بآلام الولادة في أثناء القصف، إلا أنها لم تستطع الخروج والتوجه إلى المستشفى، حتّى تلاشت الآلام من جديد. 

كأي أم، كان من المفترض أن تكون مادلين تحت رعاية مُكثّفة وتحت مراقبة طبيبها، مع اقتراب موعد ولادتها، لكنها اليوم تعاني من ضعف بالدم، ونقص حاد بالفيتامينات والكالسيوم، ولا ترجو إلا سقفاً يحميها وأسرتها من الصواريخ الإسرائيلية. 

سعت مادلين للعودة إلى أروقة مستشفى الشفاء، إلا أن قصف "مستشفى المعمداني" الذي تسبب في مجزرة استشهد فيها نحو 471، أخافها، فحتّى أكثر الأماكن التي من المفترض أن تحظى ببعض الأمان، لم تعد كذلك. 

ورغم الخوف، تتمسك مادلين بالأمل، تقول: "سأسميها وسيلة، لتحمل اسم جدتها، إن شاء الله إذا أعطانا الله عمر، ولكن في كل دقيقة نحن نتوقع أن يسقط صاروخ علينا ويُبيدنا". 

ثلث الشهيدات من الحوامل!

"رأيت مشاهد أراها لأول مرة في حياتي: جسد امرأة حامل بلا رأس، نساء حوامل مبتورة الأطراف، أجساد نساء حوامل مشوهة ومحروقة بالكامل"، هكذا وصفت هيا حجازي، طبيبة نساء وتوليد في مستشفى الشفاء لـ "متراس"، بعضاً مما شاهدته من جثامين النساء الشهيدات اللواتي يصلن إلى المستشفى تباعاً، مؤكدة أن نسبة الحوامل اللواتي يستشهدن بلغت الثلث من مجموع النساء.

أما النساء الحوامل اللواتي نجين من الموت، فلم ينجين من الحروق الشديدة والاختناق بالفسفور الأبيض، وعدد منهن فقدن الأجنة التي في بطونهنّ، في حين ظل عدد من النساء يحاولن التمسك بالحياة رغم إصاباتهن البالغة بالشلل الدماغي، أو الشلل الرباعي. تقول حجازي: "يومياً ترتفع أعداد النساء اللواتي يجهضن أو يصبن بنزيف حاد بسبب الإصابة أو بسبب الخوف والفزع".

استشهاد أريج البنا وجنينها (٦ شهور) جراء قصف منزل في تل السلطان، في 19 أكتوبر 2023. (تصوير: عبد الله العطار)

وتؤكد حجازي أن إصابة النساء الحوامل بالخوف تُعرضهن للولادة المبكرة، ويُفقدهن القدرة على إرضاع أطفالهن، ومع استمرار العدوان على قطاع غزة، باتت فرصة نجاة الأطفال ضئيلة جداً، خاصة أن طيران الاحتلال استهدف قسم الحضانات في مجمع الشفاء في بداية العدوان، وقد وضع هؤلاء الأطفال هدفاً أولاً له.

تبحث حجازي يوميّا عن مريضاتها للاطمئنان على حالهن، ولكنها تفقد الاتصال مع معظمهن، "جُزء من مريضاتي استشهدن، وجزء فقدت الاتصال بهن بالكامل"، تقول بحرقة، ثمّ تروي قصّة واحدة من مريضاتها، التي "كانت تسعى لأن يكون لديها أبناء منذ عشرين عاماً، وتمكنت من الحمل أخيراً، ولكنها استشهدت هي وجنينها بقصف إسرائيلي". 

لا مكان للولادة في غزة!

مستشفى النساء والتوليد في مجمع الشفاء يمتلئ اليوم بالنازحين، المقدر عددهم بـ 40 ألف نازح لجؤوا إليه، وقد بدأ الشفاء بتحويل حالات الولادة إلى مستشفى المعمداني الخاص، الذي فتح بابه لتكون الولادة فيه مجاناً في ظل العدوان. 

عائلة فلسطينية تلجأ إلى مستشفى الشفاء في 17 أكتوبر 2023، بعد نجاتها من مجزرة مستشفى المعمداني والتي ارتقى فيها نحو 471 فلسطيني. (تصوير: علي جادالله\ الأناضول)

يُجري المستشفى اليوم عمليات الولادة بالحد الأدنى من الإمكانيات، تقول حجازي: "نجري عمليات الولادة اليوم بالقليل من الأدوات المعقمة، حتى أننا نعاني من شح بالقفازات الطبية"، وتشير إلى أن الطواقم الطبية تعمل بمناوبات تمتد إلى 72 ساعة، في ظلّ انقطاع الكهرباء، واستهداف الطواقم الطبيّة، تُعلّق حجازي: "نعمل في ظروف صعبة للغاية، يومياً نفقد من طواقمنا الذين يستهدفهم القصف". 

منذ بداية العدوان، أُغلقت مراكز رعاية وتنظيم الأسرة كافة، وتراجعت خدماتها بنسبة 60-90%، ولم تعد تُقَدّم للمواليد الجدد الطعومات اللازمة، ما يُمثل تهديداً لصحة هؤلاء المواليد.

وأمام صعوبة التنقل والوصول إلى المستشفيات واستدعاء مركبات الإسعاف المشغولة بنقل الإصابات والشهداء، تتكرر حالات ولادة نساء وحدهن داخل منازلهن المحاصرة بالقصف.

المُستقبل

يُقدّم مستشفى "العودة" في جباليا خدمة الولادة منذ عام 1997، وهو من المستشفيات الأهلية البارزة في شمالي القطاع في تخصص النساء والتوليد، إلا أنه اليوم مهدد بالقصف في أي لحظة، وقد طالبه جيش الاحتلال بالإخلاء. 

وعلى الرغم من أن المستشفى أوقف كل أعماله المجدولة بهدف استقبال الجرحى والتخفيف عن المستشفيات الحكومية، فقد قرر أن يُبقي خدمة الولادة متاحةً في ظل تضاعف أعداد النساء الحوامل النازحات إلى المدارس، وإغلاق وكالة الأونروا مراكزها الصحية، حسبما ما أكده مدير المستشفى أحمد مهنا لـ "متراس".

خصّص المستشفى جزءاً من طاقمه الذي يعمل على مدار الساعة لاستقبال حالات الولادة والتعامل الفوري معها، خاصة في فرعه بمخيم النصيرات، الذي بات يستقبل كل حالات الولادة في المنطقة الوسطى، بسبب إغلاق مستشفى "الأقصى" قسم الولادة لديه مؤقتاً حتى يستطيع تقديم خدمات الجراحة للإصابات ورفع القدرة السريرية للمستشفى. 

ويبين مهنا، أن المستشفى اضطر إلى تقليص مدة إقامة النساء بعد ولادتهن إلى ساعتين للولادة الطبيعية، و24 ساعة للقيصرية، وذلك حتى يظل المستشفى قادرا على استيعاب الجرحى والإصابات.

تُريدها "إسرائيل" حرب إبادة لقطاع غزة، لا تتوانى في قصف النساء الحوامل والأطفال الرُضّع، إنّها تخاف من المستقبل جدّاً، وهو مستقبل يستعدّ لاستقبال 50 ألف مقاتل جديد وعنيد، ستكون هويتهم الأساسية، أنهم وُلدوا في معركة "طوفان الأقصى"، أو بعدها.