شَهِدَ هذا العام تطوّرين مهمّين على صعيد القضية الفلسطينيّة والعالم العربيّ؛ الكشفُ رسميّاً عن بنود الخطّة الأميركيّة للسلام المعروفة بـ"صفقة القرن"، والانفتاح العربيّ على التطبيع مع "إسرائيل" وتوقيع اتفاقيات "سلام" معها. ضمن فداحة المشهد السياسيّ ككلّ فإنّ هذين التطورين يلقيان بثقلهما على قضية المسجد الأقصى والتهديدات الإسرائيلية التي يواجهها، وعلى الدور الأردنيّ في المسجد والذي يسعى الاحتلال منذ ما يقارب العقدين إلى تقويضه، ومؤخراً محاولة إلحاقه بالجناح السعوديّ.
"وادي عربة".. التأسيس لإضعاف الدور الأردنيّ
تعود الجذورُ الأولى للدور الأردنيّ في المسجد الأقصى إلى عام 1924 عندما موّل الشريف الحسين بن علي، جدّ العائلة الحاكمة في الأردن اليوم، إعمارَ المسجد الأقصى. ترسّخ هذا الدور عام 1950 عندما أصبحت القدس جزءاً من المملكة الأردنيّة، وفي عام 1967 كانت إدارة الأقصى بيد "الهيئة الإسلامية العليا" مدعومةً من الأردن الذي عاد عام 1970 إلى الاضطلاع بدورٍ مباشرٍ في المسجد عبر الأوقاف الأردنيّة. منذ ذلك العام إلى اليوم تتولّى إدارةَ الأقصى اليوم وزارةُ الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلاميّة الأردنيّة عبر دائرة الأوقاف الإسلاميّة في القدس ومجلس الأوقاف المشرف على عملها، ويتضمّن الدور الأردني كما هو مفترضٌ رعايةَ المسجد وإعماره وحمايته.
عام 1994، وُقِّعت اتفاقية وادي عربة بين الأردن ودولة الاحتلال. تضمّنت الاتفاقية إعادة تعريف الدور الأردنيّ في الأقصى بما يوحي أنّ دولة الاحتلال هي صاحبة السّيادة على المسجد وأنّها هي من سيقرّر بخصوصه، مع الاكتفاء بـ"احترام" الدور الأردنيّ والوعد إعطائه "أولوية" في إدارة المسجد بعد المفاوضات مع الفلسطينيّين. جاء في البند الثاني من المادة التاسعة من الاتفاقية: ".. تحترم "إسرائيل" الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنيّة الهاشميّة في الأماكن الإسلاميّة المُقدّسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستولي "إسرائيل" أولويةً كبرى للدور الأردنيّ التاريخي في هذه الأماكن".
في خطابه أمام "الكنيست" في 3/8/1994، علّق رئيس حكومة الاحتلال آنذاك إسحاق رابين بالقول إنّ هذا البند يصوّر وضعاً قائماً اضطلع فيه الأردنيون بإدارة الأماكن المقدسة للمسلمين في القدس، مشدّداً على أنّ "إسرائيل هي من سيعطي أولويّةً للدور الأردني من دون أن يعني ذلك أيّ تنازلٍ إسرائيليّ فيما يتعلق بمكانة إسرائيل في المقدّسات اليهوديّة".
طيلة السنوات اللاحقة، اتسعت دوائر الحركات الاستيطانيّة الناشطة في سبيل تهويد المسجد الأقصى وتعززت علاقاتها مع المستويات الرسميّة الإسرائيليّة. نتيجةً لذلك، تصاعدت الاعتداءاتُ الإسرائيليّة على الأقصى ومحاولات تغيير الوضع القائم فيه، بما يعنيه ذلك من إضعاف أو إنهاء الدور الأردني في المسجد.1بموجب الوضع القائم التاريخي، تتولى الأوقاف الإسلامية المسؤولية عن كلّ ما يتعلق بالمسجد الأقصى بمساحته البالغة 144 دونماً وتضمّنت هذه المحاولات، من بين أمور أخرى، طرح مشروع التّقسيم الزماني للمسجد، واقتراحات بوضعه تحت السيادة الإسرائيلية، ومصادرة صلاحيّة الترميم، والاعتداء على موظفي الأوقاف ومنعهم من أداء عملهم، ومحاولة السيطرة على باب الرحمة والمنطقة الشرقية التي يقع فيها المبنى، والسماح للمستوطنين بأداء الصلوات والطقوس التلمودية الجماعية والعلنيّة في المسجد، والسماح بالاقتحامات بالتزامن مع الأعياد الإسلامية، وتركيب بوابات إلكترونية عند أبواب الأقصى لفرض رقابة أمنيّة على الفلسطينيّين.
اقرؤوا المزيد: "كيف انتهى "عيد الرباط" بالاقتحام"؟
في مواجهة ذلك، حاول الأردن تعزيزَ دورِهِ في المسجد عبر اتفاقية وقّعت عام 2013 بين الملك عبد الله الثاني والرئيس محمود عباس بعنوان "حماية الأماكن المقدّسة في القدس"، وهدفها "إعادة تأكيد الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في مدينة القدس منذ بيعة 1924، واستمرار هذا الدور". وفي عام 2019، قرّر الأردن توسيع مجلس الأوقاف وتعزيزه عبر زيادة عدد أعضائه من 11 إلى 18 عضواً، من بينهم أعضاء جدد ذوي خلفيات وارتباطات بالسّلطة الفلسطينيّة وحركة "فتح" لم تكن موجودة مسبقاً في تركيبة المجلس.
على أرض الواقع لم يتغير الكثير، بل استمرّت الاعتداءاتُ الإسرائيليّة على المسجد الأقصى وموظفي الأوقاف أنفسهم بالتصاعد، وقد أصبح كلّ حارسٍ يعترض على صلوات المستوطنين العلنيّة في المسجد أو على تصرفاتهم غير اللائقة يُعتقل ويُبعد عن المسجد لأسبوع وأحياناً لشهور. ومؤخراً تدخلت سلطات الاحتلال في فرض سطوتها على المصلين كتحرير مخالفات مالية بحقّ من لا يلبسون الكمامة وذلك داخل ساحات المسجد.
اقرؤوا المزيد: "باب الرحمة.. مواجهة مُتجددة في الأقصى".
وفيما تصاعدت هذه الاعتداءات في كل سنة، دارت المواقف الأردنيّة ما بين الاكتفاء بالرفض أو الإدانة، بل وأحياناً التنسيق مع الاحتلال كما في مشروع الكاميرات عام 2016، والمحافظة على العلاقة الدبلوماسية بين الجانبين، إضافة إلى تسليم نفسه لمزيد من الارتهان والتّبعية عبر اتفاقية الغاز التي جرت رغم المعارضة الشعبية العارمة.
صفقة القرن.. تقويضٌ أكبر
تحدّثت صفقة القرن عمّا أسمّته "المحافظة على الوضع القائم في جبل الهيكل/الحرم الشريف" (وفي هذا إشارة إلى كامل المساحة البالغة 144 دونماً). لكن سياقات الطرح الذي يُقدّمه نصّ الصفقة تشير إلى أنّ الوضع القائم المقصود مختلف تماماً عن الوضع القائم التاريخي كما كان عشية احتلال الأقصى عام 1967. يتبيّن من بنود الخطّة أنّها تنهي الدور الأردني في المسجد، والمقدسات في القدس عموماً، إذ لا تشير بأيّ شكل من الأشكال إلى الوصاية الهاشمية، في حين أنّها تضع الأقصى تحت السّيادة الإسرائيلية بمجرّد أنّها سلّمت بهذه السيادة على القدس كاملة.
لكن ما تبقيه الخطّة للأردن يأتي تحت العنوان المتعلق بالسياحة في القدس القديمة إذ فيه إشارة إلى التعاون مع الأردن في مجال السياحة الدينيّة في إطار لجنة مشتركة لتطوير "السياحة اليهودية والإسلاميّة والمسيحيّة في دولتي إسرائيل وفلسطين"، على حدّ تعبيرها.
إلى جانب صفقة القرن وتبنّيها إنهاء الدور الأردنيّ في الأقصى، جاءت اتفاقيات التطبيع التي وقّعتها كل من الإمارات والبحرين مع دولة الاحتلال لتعمّق هذا الاتجاه وتخدمه، إذ إنّ سياقاتها والتصريحات المواكبة لها تعزّز القبضة الإسرائيلية على المسجد وتتخطّى الوصاية الأردنيّة عليه. وهذا ما كان جليّاً بشكلٍ خاصّ في البيان الأميركي الإسرائيلي الإماراتي المشترك الذي أعلن في 13 أغسطس/ آب الماضي عن التوصل إلى اتفاق على تطبيع العلاقات الإماراتية الإسرائيلية، والذي أشار إلى أنّ "كلّ المسلمين الذين يأتون بسلام يمكنهم زيارة الأقصى والصلاة فيه، كما هو منصوص عليه في خطّة السلام".
وقد علّق أشار كوشنر على الاتفاق بالقول إنّه "سيكون بإمكان المسلمين الطيران من دبي إلى تل أبيب لزيارة المسجد الأقصى"، أي أنّ زيارة المسلمين للأقصى ستكون عبر "إسرائيل" التي نصّبتها صفقة القرن والاتفاقيات التطبيعية على أنّها صاحبة السيادة على القدس. والشهر الماضي شهدنا إعلان بلدية الاحتلال في القدس عن اتفاقها مع مسؤولين إماراتيين عن تنسيق زيارة ربع مليون مسلم للقدس سنويّاً، وبطبيعة الحال سيزورون الأقصى من بوابة البلدية الإسرائيليّة وحماية شرطة الاحتلال.
تركيا والسعودية.. لاعبان جديدان في الساحة
عدا عن الاعتداءات اليوميّة وزيادة وتيرة اقتحامات المستوطنين ونوعيتها كأداة في تقويض الوجود الأردني في الأقصى، تدفع "إسرائيل" وأميركا نحو دورٍ سعوديٍّ في المسجد كوسيلة أخرى للتقويض. تُقدّم "إسرائيل" هذا الدور المحتمل أمام الأردن كـ"بديل" أو "مُنقذ" من النشاط التركيّ النشط في مدينة القدس والأقصى منذ بضعة سنوات.
ففي يناير/ كانون الثاني 2020، قالت صحيفة "إسرائيل اليوم" إنّ محادثات سريّة تجري بين مسؤولين إسرائيليين وسعوديين برعاية الولايات المتحدة منذ ديسمبر/كانون الأول 2019، بهدف ضمّ مُمـثلين سعوديّـين إلى مجلس الأوقاف في القدس. ونقلت الصحيفة عن مصدرٍ سعوديّ لم تُسَمِّه قولَه إنّ "اتصالاتٍ سريّةً وحساسةً أُجريت عبر فريق محدود من الدبلوماسيين رفيعي المستوى ومسؤولين أمنيين.. وذلك في سياق الاتصالات الجارية للمضيّ في صفقة القرن".
ووفق ما يزعم التقرير، فقد بات الأردن مستعداً لتليين موقفه بخصوص ضمّ سعوديين إلى مجلس الأوقاف بعدما فتح الأعضاء الفلسطينيون فيه الباب أمام مزيد من التدخل التركيّ في الأقصى، واشترط الأردن حسب التقرير لضمّ ممثلين سعوديين أن يحتفظ بمكانته الخاصّة في المسجد وأن تمارس السعودية ضغطاً دبلوماسيّاً لطرد الجمعيات التركية الإسلامية. بالتزامن مع ذلك، تنشر دراسات وتقارير إسرائيليّة تؤطر النشاط التركيّ في القدس مؤخراً باعتباره "دوراً مشبوهاً يهدف "لإإضعاف مكانة الأردن في الأقصى"، "واستعادة تركيا قبضتها على المسجد".
لم يكن هذا التقرير الأول في سياق الحديث عن دورٍ سعوديٍّ في الأقصى، ففي عام 2018، كشفت الصحيفة نفسها عن محاولات سعوديّة لإحراز موطئ قدم لها في الأقصى، وهي طموحات لم تعارضها إدارة ترامب التي ترى في المملكة مفتاح محور الاعتدال العربي، ولن يمكن تنفيذ صفقة القرن من دونها. إلا أنّ الأردن رفض الأمر حينها، لكن كان عليه القبول بشكل غير رسمي بزيادة أعداد اليهود المشاركين في اقتحام المسجد، حسب ادعاء الصحيفة ذاتها. ويتقاطع هذا الكلام مع ما كشفته شخصيات مقدسيّة عام 2018 عن محاولات قامت بها جهة سياسية لم تسمّها، لتشكيل وفد دينيّ إسلاميّ مسيحيّ من القدس لزيارة السعودية في إطار سعي الأخيرة للتدخل في شؤون الأقصى.
النّاس.. درع الحماية للمسجد
وفيما تستمر عملية تقويض الدور الأردنيّ في المسجد، تستمر كذلك عملية استهداف الموقف الشعبي الفاعل في الأقصى، وهو موقف شعبي شكّل درع حمايةً للمسجد من "إسرائيل" تارةً ومن التفريط تارة أخرى عبر إجبار الأوقاف على تصحيح مسارها عند خروجها عن المطلوب منها، كما حصل في هبة باب الأسباط في عام 2017. تلقّى هذا الموقف الشعبيّ عدة ضربات، بدءاً باعتقال عشرات الشبان المقدسيين وإبعاد آخرين عن الأقصى وعن القدس لفترات طويلة ومتتالية، مررواً بحظر المرابطين والمرابطات والتقييدات والترهيب لكل من يرابط في المسجد.
ومع ذلك، يبقى التعويل قائماً على جماهير القدس؛ الفاعل الأول والأقدر على ضبط الموقف والميدان في وجه ما يحاك للأقصى. ولعلّ الرفض المقدسي لزيارة الوفود الإماراتيّة مؤخراً واعتقال الاحتلال من اعترضوا على هذه الزيارات الدليل الأوضح على من بيده قيادة معركة المحافظة على المقدّسات.