تعيش جامعة بيرزيت في الفترة الحاليّة أزمةً عميقة في العلاقة بين مكوناتها، لا سيما بين إدارة الجامعة (بمجلسها ومجلس أمنائها) من جهة، ونقابة العاملين من جهةٍ أخرى. وبعد مرور عامٍ على إجراء حوارات لم تؤدِ إلى نتيجة، خاضت النقابة إضراباً طويلاً عن العمل استمر نحو 45 يوماً، تخلله إضرابٌ عن الطعام لمدة أسبوعين. أزمة تدخّلت لحلّها لجنة وساطة مُجتمعيّة، منبثقة عن 21 مؤسسة مجتمع مدني ونقابة وشخصيات وطنية واعتبارية وخريجين من الجامعة.
أما مطالب النقابة - التي لم تستجب إدارة الجامعة لتنفيذها حتى لحظة نشر هذا الحوار، فأبرزها: المطالبة بتطبيق اتفاق الكادر للعام 2016، تحديداً فيما يخصّ إضافة نسبة الـ 15% على الراتب الأساسي وليس كمبلغ مقطوع. عدم المس بالأمن الوظيفي للموظفين، وذلك من خلال عقود مجحفة تلتفّ على قانون العمل، تهدف إلى التخلص من عاملين لسنوات طويلة بدوام كامل في الجامعة. إلزام الجامعة بالتوافقات المتعلقة بنظام التأمين الصحي للعاملين، وهو الذي تحاول الإدارة تحويله من كونه نظاماً تكافلياً يقوم على مبدأ الاقتطاع من رواتب العاملين بنسب تصاعدية بينما يحصل جميع الموظفين على خدمات صحية متساوية، إلى نظام تأمين صحي تديره شركة خاصة.
فيما تبدو مطالب النقابة مطالب ماليّة محضة، وأنّها تنعكس على العاملين فحسب، إلا أنّها تُعبّر عن أزمةٍ أعمق تُشير إلى تحوّلات جوهرية في السياسات الهيكلية داخل الجامعة، وهي تحوّلات ينعكس أثرها على هويّة الجامعة بمكوّناتها المختلفة.
حول هذا النضال النقابي، نُقدّم لكم هذا الحوار مع لينا ميعاري؛ رئيسة نقابة العاملين في جامعة بيرزيت، ووسام رفيدي؛ محاضر ونقابيّ سابق في جامعتي بيت لحم وبيرزيت.
تشير إدارة الجامعة إلى أن الأزمة الرئيسية فيما يتعلّق بتطبيق "اتفاق الكادر"، تكمن في عدم اعترافكم في النقابة الجديدة باتفاق أجرته الإدارة مع النقابة السابقة، على صيغة خاصة بجامعة بيرزيت. هل هذا حقاً جذر الأزمة؟
ميعاري: نعم، هذا هو السبب المباشر للأزمة بيننا وبين الإدارة. ففي عام 2016، وقّع "اتفاق الكادر"1في شباط/ فبراير 2016، وقع اتحاد نقابات العاملين في الجامعات الفلسطينية مع إدارات الجامعات، بعد سلسلة من الفعاليات النقابية والإضرابات، اتفاقاً سمي باتفاق الكادر أو اتفاق الخليل. نصّ الاتفاق على إلزام إدارات الجامعات بتطبيق جملة من الحقوق المالية أهمها: إلغاء الضريبة المفروضة على مخصصات نهاية الخدمة، ورفع علاوة الأسرة بنسبة 25%، وإضافة مجموع علاوات غلاء المعيشة للسنين السابقة على الراتب لتصبح جزءاً من الراتب الأساسي. أما البند الذي شكّل خلافاً في بيرزيت فيتعلّق بإقرار زيادة 15% على الراتب الأساسي الحالي بعد إضافة غلاء المعيشة الحالية (15.5%). كما تضمن الاتفاق الطلب من الحكومة الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه مؤسسات التعليم العالي، وذلك لتمكين الجامعات من الاستجابة لاحتياجاتها التطويرية المادية والبشرية. بين 5 جامعات فلسطينية منها بيرزيت، وذلك بعد سلسلة طويلة من الإجراءات النقابية والإضرابات. تضمّن الاتفاق في بنده الأخير زيادة نسبة 15% على الراتب الأساسي. في حينه، صدرت رسالة من رئيس الجامعة تؤكد الالتزام بالاتفاق بكل ما فيه. بعدها، وبتاريخ 19 آذار/ مارس 2016، صدر بيان نقابي للهيئة العامة، يؤكد هذا التوافق دون ذكر تفاصيل أخرى.
ما تتحدث عنه إدارة الجامعة حالياً، هو عبارة عن محضر اجتماع علمنا به بعد فترة طويلة من توقيعه، يوصي بأن تكون زيادة الـ 15% كمبلغ مقطوع. لكن هذا المحضر وتوصياته لم يُعلن، ولم يودع في وزارة العمل. لقد جرى الاتفاق في ظروف مجهولة، بين المدير المالي ومدير الموارد البشرية للجامعة ورئيس وسكرتير النقابة السابقة، في إطار محضر اجتماع غير معلن، لا يحتوي حتّى على توقيع رئيس الجامعة أو نائب رئيس، كما لم يُعلن عن تبني هذه التوصية! من هنا، كانت لنا مطالبة بإجراء تحقيق جدّي في ظروف توقيع محضر اجتماع كهذا. وبالرغم من كلّ هذه الحيثيّات، تتعامل الجامعة معه كاتفاق جماعي أو ملحق اتفاق جماعي مع نقابة العاملين في الجامعة، وبالتالي تعتبر نفسها أنّها نفذت اتفاق الكادر لعام 2016.
لماذا تأخرت النقابة 6 سنوات في حلّ هذه المسألة؟ خاصة وأن النقابة التي شاركت في هذا المحضر "غير المعلن" تبدّلت بالانتخابات بعد فترة قصيرة من توقيع الاتفاق؟
ميعاري: لأنّ الأمور لم تكن واضحة كما بدت في عام 2021؛ إذ حدث شيءٌ من التضليل. ففي عام 2016، عندما جرى الحديث عن موضوع "زيادة نسبة الـ 15% على الراتب الأساسي"، تقرّر تقسيم زيادة النسبة على 6 مراحل مراعاةً للأوضاع المالية للجامعات. بالتالي من جهتنا، كنا ننتظر أن يتم استكمال هذه النسب التي تتم زيادتها على الراتب كمبلغ مقطوع حتى تتراكم لـ 15% فتدخل بعدها إلى الراتب الأساسي، وهذا ما لم يحدث، فكانت هنا نقطة الخلاف.2إضافة نسبة الـ 15% كمبلغ مقطوع، تعني زيادة جانبية وليس على الراتب الأساسي، وهذا يعني عدم احتساب هذه النسبة على راتب التقاعد أو عند نهاية الخدمة وتحصيل الأتعاب. وهو ما دفعنا لخوض حوارات لمدة عام كامل، مع العلم أنها لم تكن المرة الأولى التي نطرح فيها الموضوع.
لذلك، دخلنا العام الماضي بما يُشبه نزاع عمل، وكنا سنبدأ بإجراءات نقابية متتالية، لكن مجلس الطلبة بدأ إضراباً في نفس التوقيت. ومع ذلك، أدت خطواتنا في حينه إلى دفع إدارة الجامعة نحو إشراك وزارة العمل لحل النزاع، والتي بدورها أكدت أن اتفاق الكادر هو الاتفاق الأساسي الملزم وأن محضر الاجتماع لا قيمة له.
هناك قضايا أشرتم إليها في تصريحات صحفية، لكنّها لم تلق اهتماماً من الرأي العام، أو كأنكم تحدثتم عنها بالتلميح دون توضيح، مثل: المطالبة بالتحقيق في تسريب معلومات طبية لبعض العاملين بالجامعة، والتحقيق في شكوى تتعلق بتضمين معهد ومختبر طبي بدون شفافية… هل نتحدث هنا عن شبهات فساد؟
ميعاري: قائمة مطالبنا الطويلة تضم بنداً له علاقة بالشفافية والمحاسبة. في اتفاق عمل وبعد نزاع طويل، بتاريخ 24 آذار/ مارس 2021، ثبّتنا قضية ضرورة المحاسبة بكلّ المستويات الإدارية. في حينه، كنا نتحدث عن أكثر من قضية منها ما ذكرتيه: مسألة تسريب معلومات طبية لأحد العاملين، والتي جاءت في سياق قضية سابقة تخص عيادة الجامعة. وفي قضية أخرى، ضُمّن مختبر طبي ومعهد سميح دروزة للأدوية لأحد رجال الأعمال بدون طرح عطاءات عامّة، في تجاوزٍ واضحٍ لأنظمة وقوانين الجامعة. وعلى إثره، طالبنا لمدة عامٍ كامل بتشكيل لجنة تحقيق في هاتين القضيتين، فيما لم تتشكّل أيّ لجنة حتى اللحظة!
استمرار مسائل من هذا النوع داخل الجامعة، سيضرب شعار "الالتزام بالأنظمة والقوانين" الذي ترفعه الإدارة، فهي التي تؤكد قيامها بتطبيق القوانين على الجميع، بينما لا تطبق القانون على نفسها. وهنا نصرّ على ضرورة المحاسبة حتى لو كانت القرارات "المطلوب التحقيق فيها" صادرة عن أعضاء في مجلس الجامعة، وهو ما لا نستطيع تأكيده طبعاً. إذن، هذه المسألة واحدة من القضايا العينية التي كان لها أثر في زعزعة الثقة بيننا وبين الإدارة خلال العام الماضي.
كيف تصف ما حصل في جامعة بيرزيت، هل هي أزمة إدارة ومال مقابل مطالب نقابية، أم هي أزمة في العلاقة بين مكونات الجامعة؟
رفيدي: من ناحية فعلية ومباشرة، هي أزمة عدم احترام الجامعة لاتفاقية الكادر عام 2016. لكن خلف هذا المشهد، أرى أن الأزمة تكمن في ديموقراطية العلاقة بين مختلف مكونات الجامعة. وقد تجلّى ذلك في عدم احترام الاتفاقية، واتخاذ قرارات من خلف ظهر النقابة والحركة الطلابية، وكذلك في استسهال إدارة الجامعة لاتخاذ قرارات أستطيع أن أصفها بالقرارات الغبية، مثل منع دخول أهالي المضربين عن الطعام والعاملين المتضامنين إلى داخل الجامعة. هذه قرارات تُعطي مؤشراً على علاقة ذات طابع سلطوي.
في الأزمة الأخيرة، ظهر وكأن هناك نزوع عند الإدارة بمجلسيها؛ الأمناء والجامعة، لتأكيد سلطتها على العاملين وعلى مكونات الجامعة. بالتالي هذا يطرح تساؤلاً حول ديمقراطية التعليم، وهي مسألة مطروحة أصلاً من قبل الحركة الطلابية منذ سنين طويلة. إنّ شعار "ديمقراطية التعليم" يحتوي على سؤال بسيط، ولكنّه مهم: كيف يتشكّل مجلس الأمناء؟ ومن يعيّن أفراده؟ هذا سؤال يجب أن يطرح في جميع الجامعات. ففي الأزمة الأخيرة لجامعة بيرزيت، وكذلك في أزمة جامعة بيت لحم، جرى تناقل "وتوتات: إنّه مين هم هدول اللي في مجلس الأمناء؟". فمثلا، أثناء أزمة بيرزيت، كان هناك حديث داخلي حول أن بعض أعضاء مجلس الأمناء يمارسون دوراً سلبياً في التعاطي مع الأزمة.
في العموم، هذه الأمور تطرح تساؤلات من قبيل: لماذا أعضاء مجلس الجامعة غير منتخبين؟ لماذا لا يتشكل مجلس الأمناء بناءً على آلية وطنية أكاديمية عالية في انتخاب أعضائه؟ بالتالي، هذا النمط من العلاقة غير الديموقراطية يُشكّل تربة خصبة لانفجار الأزمات.
في الخطاب العام لنقابة العاملين في جامعة بيرزيت، هناك إشارة دائمة إلى أن الأزمة مع الإدارة تحمل بعداً له علاقة بالتحولات في سياسة الإدارة، خصوصاً بما يتعلّق بهوية الجامعة وآلية إدارة مرافقها. ما هي هذه التحوّلات؟ وكيف ترتبط بمطالبكم؟
ميعاري: بعيداً عن المطالب العينية، الأزمة مرتبطة بنيوياً بتحوّلات وإشكاليات بدأت تتراكم في السنوات الأخيرة، لها علاقة بنهج وطريقة إدارة الجامعة؛ أي بأسلوب التفكير بسؤال: ما معنى هذه الجامعة؟ نتحدّث عن توجه يتعامل مع الجامعة، لا باعتبارها مؤسسة تعليمية معرفية مجتمعية بنيت على مبدأ شراكة مكونات الجامعة، بل باعتبارها شركة. بمعنى هناك مجلس إدارة تقع ضمن مسؤوليته إدارة وتحديد ما يتعلق بهذه المؤسسة، بينما يجري التعامل مع أساتذة وموظفي الجامعة على أنهم يعملون بأوامر مجلس الإدارة فحسب، فيما هم يمتلكون أكثر من ذلك؛ انتماء عالي، كما ويشعرون أنهم شركاء في رفعة هذه المؤسسة.
هذا التحول في النهج والرؤية وفي طريقة التفكير بفضاء الجامعة تجلّى إدارياً وإجرائياً في كثير من المجالات، إذ اتجهّت الجامعة نحو مركزة صناعة القرار بعد أن كان يُتّخذ بالتشاور.
لكن تاريخياً، كما ذكر رفيدي، لا توجد في الأصل عملية ديمقراطية في اختيار أعضاء مجلس الجامعة ومجلس الأمناء. بالتالي، ما الذي تغيّر وأدى إلى مركزة اتخاذ القرار؟
ميعاري: صحيح، ولكن تاريخياً، كان لمجلس الدوائر في الجامعة3وهي الهيئات الإدارية المسؤولة عن كل دائرة داخل الكليات المختلفة للجامعة. دورٌ كبير في الجامعة والحريّة في تحديد السياسات الأكاديمية. فمثلاً؛ تحديد أعداد الطلبة والشُعب، والكادر، ونمط التدريس، وغير ذلك. بهذا المعنى، كان لجامعة بيرزيت نمط لا مركزيّ في الإدارة. أما في السنوات الأخيرة، بدأت تبرز المركزة، فمثلاً؛ عام 2019 صدر قرارٌ - وأدى إلى نزاعٍ نقابي حينها - سُمي قرار "تفعيل عملية التدريس وزيادة نجاعتها"؛ أي جعل العملية التعليمية أكثر نجاعة. تحت هذا المسمى، أصبح مكتب التسجيل، الذي يتلقى تعليماته من الإدارة العليا للجامعة، المكتب المخوّل بتحديد القرارات الأكاديمية الخاصة بكل دائرة في الجامعة.
عطفاً على حديثك السابق. إنّ عدم انتخاب هيئات الجامعة ليس أمراً جديداً، ومع ذلك لم يكن ثمّة حديث سابقاً بأنّ إدارة الجامعة تمارس دوراً سلطويّاً على مكونات الجامعة، وكانت هناك إشادة بالحالة الديمقراطية في بيرزيت، فما هو التحول الجوهري الذي حدث خلال السنوات الأخيرة؟
رفيدي: ربما يكون التحوّل مرتبطاً ببروز خطاب مختلف وسط العمل النقابي داخل جامعة بيرزيت، ولدى بعض النقابيين في جامعة بيت لحم مثلاً، والذي يطرح ما لم يكن مطروحاً سابقاً. يتضمن هذا الخطاب مفهوماً مفاده أن العمل النقابي لا يرتبط فقط بحقوق العاملين، وإنما يقع على عاتقه أيضاً حماية المؤسسة من أيّ نزعة سلطوية.
لكن ما أرغب في التنويه إليه، أن هناك نوعاً من الغزل المثالي بجامعة بيرزيت. قضيتُ نصف حياتي المهنية في جامعة بيرزيت، وأعلم أن بيرزيت تختلف عن الجامعات الفلسطينية الأخرى، من حيث مساحة الحرية. لكن في الوقت ذاته، لا يجوز أن نتعامل معها برومانسية. إذ نجد في بيرزيت، كما في جامعات أخرى، نفساً سلطوياً نلمس فيه أحياناً عداء للعاملين. لقد وصلت الأمور إلى درجة أنّ أحد رؤساء الجامعات، طالب محمود عباس بإصدار مرسوم بقوة القانون لمنع الإضراب في الجامعات! في أزمة بيرزيت الأخيرة كانت لهجة مجلس أمناء الجامعة شبيهة بلهجة الناطق باسم الأجهزة الأمنية عندما يتهم أيّ حراك بالشارع بتبعيته لأجندات سياسية. مثل هذه الأقوال سيقت في حوارات داخلية داخل بيرزيت! هذا النمط من التوصيفات لم نكن نسمعه في السابق، بالتالي نحن أمام معضلة جديّة.
في العودة إلى مسألة التحوّلات في هوية وآلية إدارة مرافق الجامعة، كيف تعاملت النقابة مع هذا الملف؟ خاصة وأن التغيّر داخل الجامعة - من ناحية خصخصة المرافق وتغليب العامل الربحي والمادي - قد وقع فعلاً وأصبح بادياً للجميع؟
ميعاري: في موضوع تضمين المرافق، نتحدث مثلاً عن تضمين معاهد ومراكز ومختبرات، تم التبرع بها للجامعة، وكان بالإمكان استغلالها في تطوير أبحاث قادرة على الإنتاج بمشاركة الطلبة. كذلك الأمر بالنسبة للكافيتريات، فكنّا نطرح فكرة تدشين جمعية تعاونية يعمل فيها طلبة مقابل منح دراسية على سبيل المثال، وكانت لدينا أفكار كثيرة بتوجهات مختلفة للتعامل مع المرافق.
لكنّ النهج السائد عند مجلس الأمناء وإدارة الجامعة هو التالي: "بنضمّن المرافق لمستثمر، بنقبض منها مصاري، وهذا هو"ّ! يريدون الطريق الأسهل بدون أي مجهود.
هل تبّقى ما يمكن إنقاذه من هذه المرافق؟
ميعاري: كان هذا محلّ نقاش كير بيننا، لكن في فترة "كورونا" ومع انقطاع الجميع عن حرم الجامعة، تمّ العمل بشكل كبير على تمرير كلّ هذه السياسات وتغيير ملامح الجامعة بما فيه هدم مبنى مجلس الطلبة. والأمر لا ينحصر في مسألة تغيير الملامح والمرافق، فالقضية لها بُعد مرتبط أيضاً بإبراز الفروقات الطبقية بين الطلبة. صحيح أن الجامعة لم تخلق الفجوات الطبقية، ولكنّها خلقت حيّزاً يسمح بتعزيز هذه الفروقات.
هذه التحولات كلّها التي ذكرتها منذ بداية الحوار مرتبطةٌ ببعضها البعض، إذ أنّ مركزة اتخاذ القرار هي الأداة التي مرّرت كلّ هذه التحولات غير المقبولة في الجامعة. وهنا أرغب بالتشديد على أن ما نتحدث عنه ليس مخصوص بجامعة بيرزيت، فقد جرى عولمة التحوّلات داخل مجتمع الجامعات؛ إنه التحوّل من المنطق التشاركي إلى منطق الشركات التجارية.
عندما تفتخر الجامعات الفلسطينية بأنها تحتذي بنماذج إدارية خاصة بجامعات عالمية، فهي تفتخرعملياً بنموذج فَرَض نفسه بالقوة بعد صراعات طويلة خاضتها نقاباتٌ واتحاداتٌ محاولةً أن تحمي جامعاتها من هيمنة عقلية السوق، فيما كانت الغلبة للمنطق الرأسمالي في إدارة الجامعات. أما في سياقنا الفلسطيني، يعمل هذا النموذج على تشويه دور الجامعات ليس فقط من الناحية المعرفية والأكاديمية، وإنما أيضاً من الناحية الوطنية.
ما الذي تبقى من هوية جامعة بيرزيت؟
رفيدي: أتصور أنّ ما تبقى في الجامعة ولا زال موجوداً، هو الذاكرة التاريخية التي صنعت هوية بيرزيت. وهذا أمرٌ مطروح دائماً في النقاشات: "بدناش نأثر على سمعة ومكانة وهوية بيرزيت". لكن فعلياً، من صنع المكانة والسمعة والتاريخ؟ بالطبع، الحركة الطلابية هي التي كان لها الدور الأكبر في صناعة الهوية الوطنية للجامعة. حالياً، ما زال هذا النفس موجوداً. وعندما تكون هناك مساقات متخصصة في قضايا الأسر والشهادة وغيرها من القضايا الوطنية، فهذا أمر جيد.
لكن تبقى هذه المسألة مرهونة بوجود أشخاص معينين، أليس كذلك؟
رفيدي: نعم، تماماً. أضيفي على ذلك أن توّجه بعض الأستاذة نحو صياغة مساقات من هذا النوع يواجه تحدّياً جديّا أمام هيمنة عقلية السوق على العملية التعليمية. هذه العقلية القائمة على منطق أن التخصص غير المجدي مالياً، وإن كان مهمّا للمجتمع، لا يأخذ الأولوية.
وتعليقاً على موضوع المرافق؛ هل يُعقل أن بات داخل جامعة بيرزيت سوبرماركت وصالون حلاقة. العقلية التجارية سادت بشكل غير معقول.
في جزء من خطاب إدارة الجامعة وفئات مجتمعية أخرى حول خطواتكم، كانت هناك إشارة إلى أن الإضراب عن العمل ومن ثم الإضراب عن الطعام خطوات مبالغ فيها، ولا تراعي مصالح الطلبة. كيف نظرتم إلى هذا الخطاب الذي ارتكز إلى فكرة "أن الحقوق المالية لا تستحق كل هذا"؟
ميعاري: كلّ التحولات التي تحدثنا عنها قبل قليل لا تنفصل عن مسألة الحقوق المالية؛ لأن نهج الجامعة قائم على فكرة التوفير المالي على حساب حقوق العاملين، والجودة الأكاديمية (طلاب أكثر أساتذة أقل)، والطلبة من خلال رفع الأقساط. كلُّ هذا له أثر كبير على الجامعة. صحيح أننا نطالب بقضايا عينية، لكن هذه القضايا هي نتاج السياسات والنهج الجديد.
للأسف الشديد، عملت إدارة الجامعة بالتواطؤ مع مؤسسات إعلامية، على ترسيخ مقولة "استسهال الإضراب" بما أزاح القضية من كونها نضالاً حقوقياً مطلبياً يسعى للحفاظ على هوية الجامعة، إلى فكرة أن هذا إضراب يمسّ بمصالح الطلبة.
من خلال تجربتك في جامعة بيت لحم، ومراقبتك لأزمة بيرزيت. هل تشعر أن هناك نظرة مجتمعية مختلفة لمساحة وحدود وأدوات العمل النقابي؟
رفيدي: نعم، هناك توجه ليبرالي يرى مشكلةً في التوجه للإضراب تحت شعار "العقلانية"، التي هي عقلانية مريبة أقرب إلى الاستسلام. ويطرح أن الإضراب لا يجوز أن يضر بالمصلحة العامة. طبعاً، هذا الشعار كان مدخلاً للوقوف في وجه الإضطراب من حيث المبدأ.
الحقيقة أنه لا يوجد إضراب في العالم بدون ضرر بالمصلحة العامة. والسؤال: هل هناك شكل محدد للاحتجاج؟ من يحدد ذلك؟ المعيار برأيي، هو أولاً أن يحوز شكل الاحتجاج على الثقة. وفي حالة بيرزيت، كان التفاف الهيئة العامة للنقابة حول المضربين عن الطعام رائعاً. العامل الآخر، هو أن يحقق الاحتجاج الأهداف المرجوة. طالما أن هذين الشرطين تحققا فالاحتجاج مشروع تماماً. وفي حالة بيرزيت أيضاً، كان لخطوة الإضراب عن الطعام أثرٌ مهم في تحريك الرأي العام والمؤسسات المجتمعية. قبل ذلك، لم يلتفت أحد إلى الأزمة بشكل جديّ
هل تعتقدين أن سياسة إدارة جامعة بيرزيت في التعامل مع الحراك النقابي تتقاطع مع سياستها اتّجاه الحراك الطلابي داخل الجامعة؟
ميعاري: نعم، حاولت الجامعة في الإضراب الطلابي الأخير أن تكسر الحراك، لكن في حالة الطلبة صبّت بعض العوامل في صالحهم، منها: أولاً؛ عدد الطلاب الكبير. هؤلاء، حتى لو استاء أهاليهم، لن يكونوا ضد إضراب طلابيّ بقدر ما يمكن أن يحتشدوا ضد اضرابٍ نقابيّ. ثانياً؛ أدت إجراءات الاحتلال من اعتقال واعتداء ضد الطلبة في حينه إلى جعل القضية ذات طابع وطنيّ أكثر، مما زاد من صعوبة ضرب العمل الطلابي. ثالثاً؛ الجامعة لا تملك أدوات لمعاقبة الطلبة مثل الأدوات التي استخدمتها في معاقبة العاملين من خلال التهديد بالراتب والإجازات.4خلال فترة الإضراب، قامت إدارة الجامعة بصرف سلفة 50% من رواتب العاملين عن شهر أيلول/ سبتمبر، بسبب ضعف السيولة المالية حسب إعلان الجامعة. كما لوّحت أنها ستقوم بخصم جزء من إجازات العاملين كتعويض عن أيام الإضراب، أو أنها ستفرض الدوام على الموظفين في أيام العطلة الأسبوعية. الأمر الذي رفضته النقابة بشكلٍ قاطع. إذن، التوجه في التعامل مع الحِراكين واحد، لكن بسبب هذه العوامل الموضوعية تصبح عملية ضرب الحركة الطلابية أصعب من ضرب العمل النقابي.
حتّى الآن لم تُحلّ الأزمة، ومع ذلك أعلنتم عن تعليق إضرابكُم، هل هذا تراجع عن الخطوات النقابية بعد تهديد وزارة العمل باتخاذ خطوات قانونية؟
ميعاري: من يفهم طبيعة نضالنا في الجامعة على أساس ارتباطه بمسائل بنيوية لا تفصيلية، يعرف أنه ليس هناك تراجع. ما حدث، أنّه في تفاصيل الأزمة كان هناك وساطة وتدخلات لحلّها، أبرزها لجنة الوساطة المجتمعية والتي حظيت بإجماع.5قدّمت لجنة الوساطة مبادرةً تقوم بشكل أساسي على مبدأ التحكيم، فيما يتعلق بالخلاف على البند المتعلق بزيادة الـ 15% على الراتب الأساسي وكيفية تطبيقه، إضافة إلى مسألة التأمين الصحي في الجامعة فيما يتعلق بفرق الدينار. ومثلما نصّت المبادرة على وقف إضراب العاملين في حينه، نصّت على إلغاء الإجراءات المتخذة من قبل إدارة الجامعة أثناء الإضراب. هذه اللجنة عرضت حلّاً يستجيب للحد الأدنى من تطلعاتنا، ولا يلبي مطالبنا المحقة بقدر ما يعمل على تأجيلها. ومع ذلك وافقنا عليها، لأننا بدأنا نستشعر الخطر الذي سيُسببه إطالة مدة الإضراب بسبب تعنّت الجامعة واستمرارها في محاولة فرض الشروط على أي اتفاقية تُطرح. لهذا قرّرنا تعليق إجراءاتنا مؤقتاً لإفساح المجال لاستكمال الفصل الصيفي مدة أسبوعين حتى لا يتأثر التقويم الأكاديمي، بينما نستمر في إجراءات نقابية لتنفيذ ذات المطالب.
إذن، ما الذي نالته النقابة من تعليق الدوام والإضراب عن الطعام؟
ميعاري: نضالنا يكتسب طابع الاستمرارية والمراكمة، وأنا أرى أن الهزّة التي وقعت نتيجة مدة الإضراب الطويلة جذبت أنظار الرأي العام وبعض القوى الاجتماعية لما يحدث في الجامعة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، قرّرنا سحب أيّ ذرائع تستخدمها إدارة الجامعة من أجل عدم تنفيذ المطالب. إضافةً إلى أنّ الحوار - الذي سيكون مسقوفاً بفترة زمنية محددة ومراقباً من الهيئة العامة للنقابة والمؤسسات المجتمعية الوسيطة - أصبح مرتكزاً على أسس مختلفة عمّا كانت عليه قبل الإضراب.