14 مايو 2021

هَلْ اقترَبْنا؟

هَلْ اقترَبْنا؟

فلسطين تنتفض، أرادوا تقطيعها والاستفراد بكل جغرافيا وحدها، وها هي تتصل مجدداً 27 ألف كيلو متر و8 أمتار، تستعيد وحدتَها خريطةً كاملةً تلفظ ما يعلوها من غبار المُحتل.

مرّت سنوات شديدة الصعوبة على القضية الفلسطينيّة، حتى ظننا أننا قد كُذبنا، وأنّ الجيل القادم منا سيقول: ما أدري ما فلسطين وإنما سمعت الآباء يقولون كلاماً فَقُلتُه.

أنفق المحتلُ خططه وأمواله فكانت عليه حسرة. بالنسبة لعين المراقب العقلاني كانت قضيتنا في طريقها للاندثار، بدا وكأنهم نجحوا في تفتيتنا، تُرِكت غزّة تحت وطأة الحصار وحدها، وكان تهويد المدينة المقدسة يتصاعد، ووصلت تجربة فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 السياسية من خلال الكنيست لآخر قاعٍ مُمكن لها، واكتمل مشروعُ نخبة السّلطة واستوت مهمتُه كشركةٍ أمنيّةٍ تضبطُ الاكتظاظَ السُّكاني المحيط في دولة المستوطنين بالضفّة الغربيّة، أما عربياً فحققت "إسرائيل" اختراقاتٍ متتالية في ملف التطبيع، وبدا بأن الحماس للقضية فَتر تماماً.

لكن الحدث الفارق يأتي بغتةً كلصِّ الليل، مثل الواقعة ليس لوقعتها كاذبة. لا أحد يتوقعه، تفهم دوافعَه لكنّكَ لا تكاد تمسكُ بأسبابِه، وإذا أَحصيتَها لا تضمن أن تكرارها يقود بشكلٍ آليٍّ إلى ذات الحدث. في السياسة الكثير من الأمور العقلانيّة لكن جلّها قائمٌ على الغيب. لنحتفل بهذا الغيب الذي هبط في عالم شهادتنا.

هل نحن أمام انتفاضةٍ ثالثة؟ هبّة؟ حرب تحرير؟ لِنَتَقَدَم بثباتٍ، وستأتي التسمياتُ بأثرٍ رجعيّ. ما هو مهم الآن أن لا يعودَ هناك مقاومةٌ وجمهورها، بل أن نكونَ كلّنا المقاومة، أن لا تكون هناك جبهةٌ مشتعلةٌ وأخرى تتضامن، بل أن نكونَ كلّنا جبهات مُشتعلة.

دعت القدس كلَّ الفلسطيينين مجدداً، كما فعلت في الانتفاضة الثانيّة، بل كما فعلت في تاريخنا المُغرِق في القدم، منذ مئات السنين- وهذا المكان هو المصنعُ الذي تلتقي فيه آلامُ النّاس المبعثرة، يُكثِّفها ويوحِّدُها ويرفعها لمستوى القصة الجماعيّة المقاتلة. هكذا تصبح للقصص المُمزَّقة سرديةٌ واحدةٌ على أعتاب القدس، ومجدداً بدل أن نُنقِذَ المدينةَ المُقدَّسة تقوم هي بإنقاذنا.

وهذه المدينة بما شهدت من نضالٍ متراكمٍ وإنجازات صغيرة راكمت بعضها فوق بعض أَلهمت الجميعَ أنَّ شروطَ المُحتل يُمكن كسرُها، ويُمكن كسب الجولات والمراكمة عليها لتحقيق مكاسب أكبر: من مواجهة باب الأسباط إلى باب الرحمة إلى انتصار باب العامود إلى أحداث حيّ الشيخ جرّاح، كانت إرادةُ المقدسيّين تراكم الانتصاراتِ المرحليّة، تماماً مثلما فعلت غزّة وهي تُراكم فوق صبرِها مخازنَ من الذخيرة، خاضت حروبَها الثلاث ودخلت الرابعة. ما نراه اليوم هو امتدادٌ لهذا الإرث الذي بنى ذاكرةَ احتجاجٍ واثقة عمّت فلسطين لا ترى في "إسرائيل" غولاً لا تُمكِن هزيمته.

...

يؤلمنا ذهابُ من نحب تحت أنقاض القصف الجبان، لكن مِن أجلهم بالذات علينا أن نستمر لكي لا تعود بيوتُنا مستباحةً للقصف وموتنا سهلاً، لكي يكون موتنا مُكلفاً، ولكي "يألمون كما تألمون". يؤلمنا استفراد عصابات المستوطنين المُنظّمة بنا في أراضي الـ1948، لكن من أجل استفراد المحتل الطويل بنا علينا أن نستمر. يؤلمنا قمعُ أجهزة السُّلطة لنا في الضفّة، لكن من أجل التحرر المزدوج من المُحتّل وأدواتِهِ علينا أن نستمر، لأنّ وجودَ السّلطة الوظيفيّ قائم على أمن المُحتل فإن أصبح هو محل تهديد أصبح وجودها هي محل شك.

ليس هناك ضمانة لنجاتنا غير أن نستمر في مقاومتنا، من يخوّفنا بكلفة المقاومة، نقول له: جرّبنا كلفة السكوت وكانت أشدّ!

...

في لحظات كهذه كلُّ الأفعال مُهمة، لا تُحقِّرن من أفعال المقاومة شيئاً... 

ولو أن تحكي  لطفلك الصغير سيرة الشّهيد باسم عيسى، 30 عاماً وهو يعمل بصمتٍ حتى يحمي كرامتنا. بدأ بمسدس صغير يجوب الضفّة وغزّة، ورِفَاقُه اليوم يُجبِرون ثلثي سكان العدوّ على النزول إلى الملاجئ.

في لحظاتٍ كهذه كل الأفعال مُهِمة، لأنّ الوعي الوطنيّ لا ينشأ في حصصِ التربية الوطنيّة ولا يَصنع الوقوف للسلام الوطنيّ جيلاً جاهزاً لانتزاع حقّهِ بيده، لكنَّ سيرةَ شهيدٍ عظيم، وحدثاً جامعاً كهذا قادرٌ على تربيةِ جيلٍ بأكمله لمواجهة التّحرير. اكتب على السوشيال ميديا، تحدّث مع جيرانك، شارك بكلِّ ما تستطيع من فعاليات، ودعْ عقلك يتصلُ بعقل الميدان الخلّاق القادر على ابتكار طرقٍ ووسائل جديدة.

...

لقد تضخّم عدوُّنا حتى أصبحت هشاشتُه بضخامة منظومتِهِ وتعقيدها.

بمجرد أن تنطلق صفارةُ الإنذار يكون الصاروخُ محليّ الصُّنع قد حقّقَ معظمَ أهدافه. تتفوق كثافةُ الصواريخ وبِدائيتُها على تعقيد القبة الحديديّة، وتُزلزل الحياة الطبيعيّة، والوهم الذي يُمنّي به المحتلُ مواطنيه يصبح محل تهديد، ومعه فكرةُ البقاء في هذه البلاد.

أَخضَعَ فلسطينيي الـ1948 وأَجبَرَهم على جنسيّته، ولكن كلُّ فردٍ منهم اليوم يُشكّل ثغرةً مُقلقة في منظومته المعقدة. بنى شبكةً ضخمةً من الطرق لدولة المستوطنين في الضفّة، لكن مجموعة شباب يبحثون عن تحديث حالة ع "التيك توك" يستطيعون تعطيلها، بكوشوك مشتعل أو صفّ من الأحجار على طريق سريع.

أنفق الملايين على تدريب الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة، ولكن في لحظةٍ وطنيّةٍ مُكثّفةٍ، يستيقظ الزناد وينشقُّ ويلتحق بأبي جندل.

من فرط هوسه بالأمن يمكن لجبهات كثيرة وبسيطة بنفس الوقت أن تُشتِّتَه، وأن تمنعَ تركيزه في بؤرةٍ واحدة. يسحب كتيبةً من هنا ويرسلها إلى هناك، ثمّ يشتعل الـ"هنا" مُجدداً بأقلّ الوسائل بدائية. وهكذا يصبح وحش اللويثان حيران: منظومة تكمُن هشاشتُها في تعقيدها، ومقاومة تكمنُ قوّتُها في إيمانها وبساطتها.

 آن الأوان للنكبة ألّا تستمرّ... 73 عاماً من القهر ... سيتوقف العداد قريباً.