ليلة 3 كانون الأول/ ديسمبر 2023، قُرابة الساعة 11 مساء، خلف الستائر المسدلة وعلى الضوء الخافت في بيتنا، نزحت من غرفتي بسرعة جنونية وأنا أحمل البطانية إلى المطبخ للاحتماء فيه، ولأبقى مغطى بالبطانية لو استشهدت وطالتني قذائف المدفعية الإسرائيلية المتساقطة بكثافة على حيّ الزيتون، أكبر أحياء مدينة غزة. أدرت ظهري للثلاجة وأناملي متشابكة ببعضها، أردد آلاف المرات: "وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ".
الليلة الأصعب
جن جنون الاحتلال على حي الزيتون، وقد سبق وأقام قيامته على أهله "الزواتنية"، بارتكاب مجازر عديدة في حقهم، وهو ما عايشته وشاهدته بأم عيني، حين كان يضرب طيران الاحتلال الحي بأحزمة نارية مسحت عائلات متعددة من جيراننا الذين يحيطون بنا، فكانت أبرز هذه المجازر: مجزرة مدرسة الحرية، ومدرسة صفد، ومجزرة عائلة الهركلي، وعائلة ياسين، وعائلة عليوة، وعائلة كشكو، الذين ما زالت جثامين كثير منهم تحت الأنقاض حتى اللحظة. نالنا الفقد لجيراننا، وطالت بيتنا الشظايا والحجارة، ونجونا نحن.
بالعودة إلى الليلة التي لا تشبه أي ليلة، أسميتها لِهولها "ليلة القيامة"، سرعان ما تسمع صواريخ F16، وبعدها ترتج الأرض من سقوطها، يتبعها انهمار السماء بفوانيس الإضاءة ذات اللون البرتقالي، ثم القذائف المدفعية العشوائية بصوتها المفزع، تساقطت على الأراضي الزراعية المليئة بأشجار الزيتون، على الشوارع والحارات، وعلى بيوت جيراننا، نسمع البكاء والصراخ، يصيح أحدهم: "إصابات"، ومن حسن حظنا أن في الحارة، مُمرضا يُسعف بأدواته الطبية البسيطة ويربط جروحهم وجراحهم.

تنهمر الشظايا على سطح المنزل، تخترق براميل المياه، ونسمع خرير الماء القليل الذي تبقى لنا. بكينا، شعرنا باقتراب الأجل ولقاء الله، حين بدأت الشظايا تضرب جدران الغرف الشرقية والغربية، سمعنا انفجارات متتابعة في المباني السكنية، رائحة البارود عبقت بأرجاء المنزل، ولم نعد قادرين على الرؤية. نشعر بحرقة وحكة، ودموعنا تنهمر لا أدري إن كان من الدخان أم من الخوف. وتشعر بأنين جهازك التنفسي، ويصيبك السعال.
اقرؤوا المزيد: السرّ الكامن في زقاق جباليا: حوار مع سعيد زياد
أسرعت أمي بإعطائنا قطع القطن المبلل بالماء لنضعها على أنوفنا لتبقينا على قيد الحياة، قالت بصوت مرتجف: "اللُقى ليوم الُلقى، سامحوا سامحوا". حين سمعت هذه الكلمات اختنقت روحي، بدأت البكاء، وكنت أضع يدي على قلبي لأهدئ من سرعة دقاته أبكي بصمت وأردّد: "يا الله يا الله، ارحمنا من بطشهم".
عند أذان الفجر الذي لم يعد يُسمع في الحي منذ أكثر من شهر، وبحسب توقيت ساعة الحائط في بيتنا، توضأنا وصلى كل منا الفجر بمكانه. من تجربتنا السابقة نُدرك أن شدة ما نمر به، تحمل تمهيداً لدخول قوات الاحتلال إلى الحي براً، وأننا أمام حصار قد يطول، ومجازر كثيرة. حينها، طلبت من الله أن يمُنّ عليّ وألا نلتقيهم وجهاً لوجه، لما سمعته عما فعله ويفعله الجنود، في أثناء دخولهم إلى غزَّة وما ارتكبوه من مجازر في حق الناس. حتى الأموات الذين نبشوا قبورهم وأخرجوهم منها، كما فعلوا في مقابر عديدة أبرزها مقبرة الشيخ شعبان في حيّ الزيتون.

21 عاماً.. وما زلت ذات الطفلة
لم ننَم، ولم تغفُ لنا عين، الخوف والقلق بدآ يتزايدان مع طلوع النهار، بدأنا نسمع صوت الآليات الإسرائيلية من الجرافات والدبابات، صوتها يسحق الأرض ويحدث قشعريرة في الجسد، وإطلاق نار من رشاشات آلية، ناهيك بالزنانة التي تقبع في رؤوسنا، والطائرة المسيرة "الكواد كابتر" تُطلق القنابل والرصاص، وجبهة أخرى فتحت علينا برسائل كتابية وصوتية على الهاتف الخلوي ضمن الحرب النفسية.
نحن الآن محاصرون من جميع الاتجاهات، ومن يخرج سيخرج على روحه، ومن يبقى سيبقى على روحه أيضاً. لا اتصال ولا تواصل مع العالم الخارجي، ولا حتى راديو، المواساة والمعلومات من ومع الجيران القريبين فقط. فقد ألزم جيش الاحتلال المتمركز في شارع صلاح الدين من تبقى من أهل الحي، على المكوث مكانهم.
اقرؤوا المزيد: عائلات غزة الممزقة شمالاً وجنوباً
بدأت أحسب معادلة رياضية وحياتية: ما يفصلني عن الشارع أقل من 50 خطوة مشياً على الأقدام، ما بالكم بدبابة وجيش مسلح بأقوى العتاد، والروبوتات، ويجر معه آلاف الجنود، ونحن مدنيون عُزل في بيتنا.

واستعدت ذاكرتي القديمة، وأنا طفلة بعمر 8 سنوات عام 2002، حين دخلت الدبابة الإسرائيلية إلى الحي بساعات الليل المتأخرة، همس أبي في أذني حينئذ: "الدبابة قبالنا، تتحركيش ولا تطلعي حركة، ابقي مثل ما أنتِ، شوي وبينسحبوا". شاهدت الدبابة وأنا طفلة مرة، ولا أقوى على مشاهدتها مرة أخرى، رغم أن صوتها عالق معي حتى اللحظة، وبالتحديد في ساعات الفجر الأولى التي يتم تمشيط الحي فيها يومياً.
بعد 21 عاماً دخلت قوات الاحتلال الحارة مرة أخرى، بصورة لا تُشبه الصورة الأولى، دخلتها وبدأت تضرب قذائفها على البيوت، روبوتات متحركة، بنادق الرشاش لا تتوقف عن إطلاق النار، الجيبات العسكرية تملأ المكان، قنابل دخانية، طلقات الكواد كابتر، كلها تحاصرنا على مدار الساعة، ومن كل اتجاه.
أما أنا، فأضع يدي على فمي ولا أتكلم سوى همساً، وعلى ضوء خافت، نمنا على الأرض، وكل من في المطبخ اتخذ نذراً علنياً إن نجا، شعرت أنها الوصايا التي نقرأها لبعضنا، وحولنا ما زالت أرتال الآليات العسكرية تتقدم، وخوفنا يزداد أن يقتحم جنود الاحتلال منزلنا، أو أن يتخذونا دروعاً بشرية يفرغون جُلّ حقدهم فينا.

10 قواعد أبقتنا أحياء
هل سنتنفس صبحاً آخر أم سنضع قواعد جديدة لحصار سيعصف بنا؟ وضعنا قواعد جديدة للبيت تماهياً مع الحصار وحماية لأنفسنا:
- يمُنع الاقتراب من الغرف جميعها والحركة بداخلها، لا تُفتح الستائر حتى أمام ضوء الشمس.
- المكوث والنوم في المطبخ والممر بين الغرف، والجلوس بعضنا بجانب بعض.
- قراءة سورة البقرة يومياً، وترديد: "وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ"، لتحجز أعين قوات الاحتلال عنا.
- المكوث والنوم بالملابس الشرعية، وما يتم تغييره يطوى في سلة كبيرة.
- عدم إغلاق أبواب الغرف والشبابيك، وترك منفذ لدخول الهواء خشية الانفجار في وجوهنا.
- وضع ماء الشرب على مقربة من الجميع، بجواره حقيبة الطوارئ المحملة بالأوراق الثبوتية وحقيبة الإسعافات الأولية.
- الاقتصاد في الماء، واستخدامه للضرورة فقط، واستبدلنا فيما بعد الوضوء بالتيمم.
اقرؤوا المزيد: مطبخ الشمال: الخبيزة أو السلق؟
- وجبتا طعام، واحدة للإفطار أغلبها من المونة المخزنة، طبقها الرئيسي (الزيت والزيتون، والفلفل الأحمر، والدقة، والزعتر)، والغداء ما تم تخزينه من (علب الإندومي، وأقراص الكشك، والبصارة، والعدس، والمعكرونة، والأرز)، لم نكن نأكل من الطعام إلا ما يبقينا على قيد الحياة.
- الخُبز كان عزيزاً وغالياً يُعد على شاكلة الصاج، وبالغالب يُخبز على قلاية الطعام التيفال.
- الإضاءة بالليل خافتة، وعلى ضوء هاتف خلوي واحد نتعمد جعله على وضعية الطيران لنحتفظ بالشحن الذي يُعبأ من خلال تحويلة مشبوكة بالبطارية.
وهكذا نجونا من مجازر الاحتلال في حي الزيتون، بهذه القواعد العشر التي حاولنا تنفيذها في الاجتياحات التسعة المتكررة للحيّ، وآثرنا البقاء والصمود في بيتنا الذي طاله الدمار الجزئي، على النزوح والخضوع لسياسة الاحتلال.