5 أكتوبر 2023

نيران أيالون: كيف تكون "إسرائيل" عدوّاً لنفسها؟ 

نيران أيالون: كيف تكون "إسرائيل" عدوّاً لنفسها؟ 

بينما تشتد الخلافات داخل دولة الاحتلال بشأن التعديلات القضائية، يبرز دور قادة الأجهزة الأمنية والجيش من المتقاعدين في قيادة الحراك الاحتجاجي المضاد لنتنياهو. من بين هؤلاء، عامي أيالون، رئيس جهاز الشاباك خلال الأعوام (1996-2000)، وهي الفترة التي شهدت تولي نتنياهو رئاسة الحكومة للمرة الأولى (1996-1999).

نشر أيالون عام 2020، كتاباً بعنوان: "نيران صديقة: كيف أصبحت إسرائيل أسوأ عدو لنفسها وللأمل في مستقبلها"، حاول فيه استعراض سيرته الذاتية وطرح حلول للتوصّل إلى تسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين تكفل لـ "إسرائيل" البقاء لفترة أطول.

القادم من "الكيبوتس"

وُلد أيالون عام 1945، لوالدين قدما إلى فلسطين المحتلة من رومانيا، ونشأ في "كيبوتس معجان" قرب الجولان. التحق عام 1963 بوحدة "الكوماندوز البحري 13"، وشارك في "حرب الاستنزاف" مع مصر، حيث أصيب بشظية في الرقبة في معركة "الجزيرة الخضراء". ثمّ تدرّج في المناصب العسكرية حتى تولى عام 1992 منصب قائد القوات البحرية بجيش الاحتلال لمدة 4 سنوات.

يشدد أيالون على أن نشأته في "كيبوتس" تركت آثارها في رؤيته للفلسطينيين، فالـ"كيبوتس" كيان مُشبع بالثقافة الصهيونية اليسارية التي تتسم بالعمل البدني الشاق، والتمرد على الطبقية، والدفع نحو التوسع والاستيطان، في تشابه كبير مع الحركة الاستيطانية الدينية اليمينية في الضفة الغربية، التي يمقتها اليساريون الإسرائيليون.

شارك عامي أيالون في أربعة حروب، وهي: حرب 1967، وحرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر، وحرب لبنان 1982. ومُنح وسام الشجاعة وهو أعلى وسام في إسرائيل.

اقرؤوا المزيد: مذكرات يهودي مصري لم يعجبه الكيبوتس..

وقد رأى أيالون آنذاك أن الاستيطان ضرورة، موضحاً أنه لو لم يقاتل في صفوف الكوماندوز البحري لشارك في بناء المستوطنات مع رفاقه في "الكيبوتس"، زاعماً أن التضحيات التي قدمها مع ورفاقه هي التي حفظت للإسرائيليين وجودهم على أرض فلسطين، فالدم والتضحية - على حد وصفه - هما ثمن النصر.

السير في "قافلة الحمقى"

يروي أيالون أن تمكن المصريين في أثناء "حرب أكتوبر" عام 1973 من تجاوز تحصينات "خط برليف"، أدى إلى انتشار الارتباك والذعر في صفوف الجيش الإسرائيلي، خاصة مع دخول سوريا الحرب من جهة الجولان. ومن وجهة نظره، لولا غطرسة الحكومة الإسرائيلية التي رفضت التفاوض سابقاً مع المصريين لكان بالإمكان تفادي تلك الكارثة. ومنذ ذلك الحين، فقد أيالون إيمانه بقوة "إسرائيل"، واكتشف - على حد تعبيره - أنه يسير في قافلة الحمقى.

جاءت الصدمة الثانية خلال الانتفاضة الأولى، إذ توهم أيالون خلال حقبة الثمانينيات أن الفقر هو الدافع إلى الانتفاضة، وأن الرخاء الاقتصادي كفيل بالقضاء على المقاومة. لكنه تعرّض لحادث في غزة عام 1988، حوصرت خلاله سيارته "الجيب" وتعرّضت للرشق بالحجارة، فأدرك يومها أن مقاومة الفلسطينيين للاحتلال قادمة من مصادرة أراضيهم وحقوقهم.

"الشاباك" واستطلاعات الرأي وقراءة درويش

كُلّف أيالون عام 1996 بقيادة جهاز "الشاباك"، وأصبح أول رئيس يُكشف عن اسمه للجمهور وهو على رأس عمله. وقد أسهم عمله الجديد في حدوث تغيّرات فكرية له، فخلال خدمته العسكرية نظر إلى الفلسطينيين على أنهم مجرد أهداف، لكن مع توليه رئاسة الشاباك تبدّلت النظرة، إذ اعتنق مبدأ "حلّ الدولتين"، وأدرك ضرورة التفاهم مع الفلسطينيين لمعالجة دوافع الانتفاضة، وصار ينظر إليهم بصفتهم شعبا لديه أحلام أُحبطت وحقوق سُلبت بفعل أنانية الإسرائيليين. وأدرك "أن العيب في سياسة الاحتلال الأمنية هو غياب التعاطف الذي أفقدهم القدرة على تقييم المخاطر، ودفعهم للمبالغة في ردود أفعالهم".

ميدانياً، تبنّى أيالون سياسة "الأمن الاستباقي"، وسعى لفهم دوافع المقاومين، وآمن بضرورة دعم ياسر عرفات وتفهم مواقفه باعتبار ذلك السبيل الوحيد للقضاء على أنشطة حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ورتّب "التنسيق الأمني" مع السلطة الفلسطينية من خلال العقيد جبريل الرجوب رئيس جهاز الأمن الوقائي آنذاك في الضفة الغربية، الذي تعهد بفعل كل ما يلزم للقضاء على ما سماه بـ"الإرهاب". 

يكشف أيالون أنه استفاد في تكوين رؤيته من الاستبانات التي أجراها خليل الشقاقي، شقيق فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد، وبخاصة استطلاع للرأي أفاد أن معظم الفلسطينيين لم يعودوا يؤمنون بحل الدولتين، وذلك بسبب فساد السلطة الفلسطينية، والنتائج المخزية "للتنسيق الأمني" مع الاحتلال.

بالإضافة إلى استبانات الرأي، توجّه أيالون إلى الأعمال الأدبية الفلسطينية، كالروايات والشعر، لفهم العقلية الفلسطينية وطبائعها ودوافعها، فقرأ لفدوى طوقان ومحمود درويش وغيرهما. وخلص إلى أن أجهزة الأمن الإسرائيلية كانت أضعف من أن تتنبأ باندلاع الانتفاضة الأولى، وأنها لو اطّلعت مبكراً على نتائج الاستبانات التي أجراها الشقاقي ومؤسسته البحثية لاستنتجت حتمية وقوع الانتفاضة.

إلى تصنيع معدّات الريّ

يرى أيالون أن تزايد وتيرة العمليات الاستشهادية أسهم في صعود اليمين الصهيوني وفوز نتنياهو في انتخابات عام 1996، إذ كان الأخير أقل حماساً للتعاون مع عرفات وفق "اتفاق أوسلو". وقد سارع أيالون إلى تقديم نصائح له، لكن نفوذ اليمين كان أشد، فازداد تهاوي أوسلو في ظل ممارسات حكومة نتنياهو، التي أسهمت كذلك في صعود حركة حماس وإضعاف عرفات، وإقناع الفلسطينيين بأن الصهاينة لا يفهمون إلا لغة القوة. 

وزير الجيش الإسرائيلي إيهود باراك ، والوزير دون حقيبة - في حينه - عامي أيالون، بعد أن أدى الأخير اليمين الدستورية أمام الكنيست في القدس. (تصوير: يواف ليمر/وكالة الصحافة الفرنسية)

 

في عام 1999، انتُخب إيهود باراك رئيساً للوزراء، وتفاءل أيالون بأن يُصحّح باراك أخطاء نتنياهو، بحيث يعطي مزيداً من الضمانات لعرفات، ويسعى لاستكمال مقرّرات أوسلو، لكن باراك على العكس من ذلك، قدّم وعوداً للجمهور الإسرائيلي ببناء مستوطنات جديدة، فتلاشت أحلام أوسلو أمام الفلسطينيين، واشتد صعود حماس. 

اقرؤوا المزيد: لقاءات بالسر.. الزعماء العرب في مذكرات نتنياهو

حاول باراك إقناع أيالون بالبقاء في منصبه لفترة إضافية، لكنّه رفض العرض، كما رفض عروضاً أخرى من القطاع الخاص للعمل مستشارا أمنيا، وآثر استلام منصب رئيس مجلس إدارة شركة "نتافيم" لتصنيع معدات الريّ بالتنقيط.

"حل الدولتين" 

في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر عام 2000، أجرى أيالون بعد تقاعده مقابلة تلفزيونية على "القناة الثانية" الإسرائيلية، صرّح خلالها بأن سياسة "إسرائيل" في استعداء الفلسطينيين وحرمانهم من حقوقهم تُغذّي فكر المقاومة، وإذا أرادت "إسرائيل" القضاء على المقاومة فإن عليها تبني سياسة مغايرة.

ومن موقعه الجديد، راقب أيالون فشل قمة "كامب ديفيد"، وتقهقر باراك سياسياً، واقتحام شارون لباحة المسجد الأقصى، الذي كان شرارة اندلاع الانتفاضة الثانية. وفي عام 2001، سافر أيالون إلى لندن للمشاركة في حلقة نقاشية تجمع إسرائيليين وفلسطينيين برعاية وزارة الخارجية البريطانية، حضرها من الفلسطينيين خليل الشقاقي وسري نسيبة وإياد السراج. 

رئيس حكومة الاحتلال أرائيل شارون خلال اقتحامه المسجد الأقصى في 28 أيلول 2000، وقد شكل هذا الحدث شراراة اندلاع الانتفاضة الثانية.(تصوير: عوض عوض/ وكالة الصحافة الفرنسية)

 

شهد اللقاء سجالاً بين أيالون والسراج، الذي أكد أن شعور الخوف الذي بات يعيشه الإسرائيليون بفعل عمليات المقاومة هو بحد ذاته انتصار للفلسطينيين، وقد قال السراج نصاً: "نعيش في رعب منذ عام 1967، وأن يعيش شعبينا الآن في خوف، فهذا بحد ذاته انتصار لنا"، لم يتمالك أيالون نفسه فرد عليه بالبصق في وجهه قائلاً٬ "اذهب إلى الجحيم يا دكتور". ولكن هذا السجال أثار تشويشاً داخل فكر أيالون، إذ قال في نفسه: "هل تستحق إسرائيل صفة المنتصر بينما الإسرائيليون يخشون الركوب في حافلة؟ وما جدوى القصف الإسرائيلي لمساكن الفلسطينيين إذا كان يزيد من قوة حماس؟".

لاحقاً أسس أيالون منظمة "صوت الشعب" بالشراكة مع سري نسيبة، وتركّزت أهدافها على "حل الدولتين" وصياغة مشروع من "المواقف التوافقية" بشأن بعض القضايا، مثل: الحدود، والأمن، والقدس، والأماكن المقدسة، وحركة الاستيطان، واللاجئين. في حين اقترح نسيبة أن تشارك "إسرائيل" في صندوق دولي لتقديم تعويضات مالية للاجئين أو العمل على إعادة توطينهم في "دولة" فلسطين. وظنّا أنهما قادران على تنفيذ ما فشل كلينتون وباراك وعرفات في فعله في "كامب ديفيد"، وسرعان ما اصطدمت أحلامهما بمعوقات الواقع، فحين توصّلا إلى وثيقة مشتركة تضمّنت مقترحات لحل "القضايا الشائكة"، داهم الأمن الإسرائيلي مكتب نسيبة وأغلقه وصادر جميع مقتنياته.

مع تبدد أوهام منظمته المشتركة مع نسيبة، دخل أيالون عام 2006 ساحة العمل السياسي وترشّح لانتخابات "الكنيست" الإسرائيلي على قائمة "حزب العمل"، ثم أصبح عام 2007 وزيراً من دون حقيبة في حكومة أولمرت، لكنه لم يتمكن من تحقيق خياراته السياسية.

تلاشي السردية

يرى أيالون أن القرارات الإسرائيلية أحادية الجانب تدعم سردية المقاومة وتُغذّي نشاطها، ويشدد على أن "إسرائيل" فشلت في الموازنة بين حفظ الأمن من جهة، وحفظ حقوق الإنسان وصناعة السلام من جهة أخرى. 

كذلك يشير إلى خطورة أفكار "الحاخامات المتطرفين"، إذ يقول: "إنهم يرون أن أوسلو تمثل انقلاباً على العدالة المطلقة التي جاءت بها التوراة، وأن تسليم أي أرض للعرب تحت ذريعة الأمن والسلام هي خيانة، كما يبررون قتل الأطفال الرضع، فضلاً عن قتل من يخالف التعاليم اليهودية بحجة أن الفلسطينيين ليسوا بشراً، فإما أن تكون يهودياً فتصان حرمة دمك، وإما أن تكون من الأغيار فتُقتل. ولذا، يحاول هؤلاء المتطرفون فرض دستور ديني، وهو ما يعد أكبر خطر يهدد إسرائيل".

إنّ أيالون يقدم سردية مضادة لسردية نتنياهو، وتكتسي أهميتها من منصبه السابق رئيسا للشاباك لمدة 4 سنوات، لكنها سردية تتلاشى أمام هدير سرديات اليمين والصهيونية الدينية المهيمنة على المشهد الإسرائيلي. ورغم أنها تقترب من وصف الواقع، فإنها لا تصفه بصورة كاملة وصريحة، وهي أن الاحتلال الدخيل على البلاد هو سبب الصراع لا التوجهات السياسية لهذه الحكومة الإسرائيلية أو تلك. كما أن خيار المراهنة على أجهزة السلطة الفلسطينية لكبح خيار المقاومة الذي تبناه أيالون أثبت فشله في ظل تكلّس السلطة وانهيار مشروعيتها مقابل تصاعد شرعية المقاومة. 

 



27 مارس 2023
يوم انطوى العالم في حذاء

هذه سلسلة تسعى لقراءة إرث كنفاني في القصة القصيرة. وتبدأ كل حلقة بموجزٍ للقصة المعنيّة، وتنتهي بهامشٍ يحاور النص ويحاول…