مقدمة المترجم
دأبت جلُّ المحاولات التي تتناول الانتفاضات الاجتماعيّة والحركات الاحتجاجيّة في السنوات الماضية على الإشارة للدور المحوري الذي لعبته منصات التواصل الاجتماعي في انطلاق هذه الحركات الاحتجاجية. حتى أنّ بعضها ذهب حد اعتبار هذه المنصات الاجتماعية "حيّزاً عامّاً مُضادّاً" بديلاً عن التنظيمات السياسيّة التقليديّة، وذلك لما توفره هذه المنصات للحركات الاحتجاجية من مرونة في التفاعل وأفقية في التنظيم وإمكانات هائلة في الانتشار والتعبئة والتحريض. بذلك فسح مسار "رقمنة" الفعل الاحتجاجيّ الطريق، بالإضافة إلى عوامل كثيرة أخرى، أمام استبدال مُثير حلّت بموجبه شبكاتٌ من "النشطاء" بوسوم وحملات رقميّة يغصّ بها الفضاء الافتراضيّ محل التنظيمات التقليديّة والمرجعيات السياسيّة والأيديولوجية التي تُشكّل "الحيّز العام".
بناءً على مسارات عدد الحركات الاحتجاجيّة حول العالم، تتصدّى الكاتبة أمبر فروست Amber A’lee Frost بالنقد والتحليل لظاهرة نشاطيّة الوسوم Hashtag Activism وما تستند عليه من أوهام حول ما تَعِدُنا به منصات التواصل الاجتماعيّ من إمكانات تحرّريّة. وتُحيل الكاتبة إلى ضرورة تجاوز هذه المنصات نحو تنظيمات ميدانيّة ونشاطيّة حيويّة وفاعلة على الأرض. نُشِر المقال في صيف 2020 في المجلة الفصلية "Catalyst" وترجم أجزاءً منه حمزة بن جعفر.
---------------
طيلة الثلاثة عشر سنة الماضية منذ إطلاق موقع تويتر Twitter، شنّت أسرابٌ مُغرِّدةٌ من كلّ التيارات السياسيّة على المنصة عدداً كبيراً من الحملات النشاطيّة. اكتسبت الكثيرُ من هذه الحملات شهرةً ذائعةَ الصيت بعد أن قامت وسائلُ الإعلام التقليديّة باحتضانها وتغطية حيثياتها.
في كِتَابِهم المُعنون "#نشاطية الوسوم: شبكات العدالة العرقيّة والجندريّة" #Hashtag Activism: Network of Race and Gender Justice(2020)، يُقدم المُؤَلِّفون تويتر باعتباره أداةً مهمةً يعتمِدُ عليها النشطاءُ لأجل "الدعم والتعبئة والتواصل". بل بات تويتر ذاته، على حدِّ قولهم، فضاءً عامّاً مضادّاً يُمهّد الطريقَ للمجموعات المُهَمَشة لأجل خلق ائتلافاتٍ وشبكاتٍ سياسيّة مُتحالفة من خلال مشاركة وترويج الوسوم عليه. يتطرق المُؤَلِّفون، بتدقيق أكثر، لزاويةٍ مُحددةٍ من النشاطية على تويتر تتميّز بثقافةِ سياسةٍ ليبرالية تميل لمضامين العدالة الاجتماعيّة والتأهيل الثقافيّ والتوعوي، وهي نشاطية تقاطعيّة تتراوح بين نزعات هوياتيّة وأقلوية ودوافع أخلاقيّة.
تستعرضُ جيني لورين Genie Lauren، وهي كاتبةُ توطئة البحث بالإضافة إلى كونها ناشطة على تويتر أيضاً، سرداً رصيناً، رغم مَأْلوفِيَّته، لمأزق جيل الألفية. كانت الانتخابات الإيرانيّة عام 2009، أو للدقة #الانتخابات الإيرانـية، المنعطف الذي نحى بمسارها الرقميّ تجاه السياسة. فمثل معظم مُجَايِلِيها ممن لهم نفس الاهتمامات، ذُهِلَت لورين للسرعة التي تنتقل بها المعلومةُ على تويتر، وكانت الإشعاراتُ التي تتلّقاها بشكلٍ مُستمرٍ وآنيّ حول مُستجدات الوضع الميدانيّ تزيدُ من حماسها. تعزَّزت ثقتُها بمنصة تويتر حين بدأت بعض المؤسسات الإعلاميّة الكُبرى مثل CNN بنقل التغريدات كمصادر إخباريّة، مما أكسبَ المنصاتِ الاجتماعيّةَ صبغةً ثوريّة. غير أنّ تعلُّقَ نشطاء تويتر، أمثال لورين، بِمنبرِهم الثوريّ الجديد لم يشفع لهم لدى الحكومة الإيرانيّة حين قررت حجب الموقع لمدة شهر خلال الانتخابات.
لم يُثني هذا المنعُ النشطاءَ من إطلاق حملاتٍ وَوُسُومٍ أخرى، ولم تتوانى لورين كذلك عن مواكبتها أولاً بأول. فبعد أن أطلقت الهيئةُ الرقميّة لحركة نشاطيّة حملةً جديدةً حاولت من خلالها وقف إعدام شخصٍ مدانٍ بقتل ضابط شرطة في ولاية جورجيا، شاع في كلِّ تويتر وسم#TroyDavis الذي ظلّ يُذيل التغريدات لفترة من الزمن. لكن وسوم النشطاء لم تنقذ ديفيس من حكم الإعدام. تصف لورين في الكتاب حالةَ الذهول والاحباط التي سادت تويتر بعد أن مُنيت الرغبةُ العامّة والإرادة الجماعيّة التي عبّر عنها جمهورُ المُغرِّدين بالفشل في التأثير على الواقع. بل مضى الواقع قدماً بشكلٍ اعتياديّ، فيما انصرف تويتر إلى حملاتٍ ووسومٍ جديدة.
بعد أقل من ستة أشهر، هَبَّ نشطاء تويتر بوسومِهم مرةً أُخرى في حملةٍ تُطالِبُ باعتقال ومحاكمة جورج زيمرمان #George Zimmerman.1أطلق زيمرمان الرصاص على طالب أميركيّ أسود يبلغ 17 سنة إثر شجار حدث بينهما. فيما لقي الطالب مصرعه، الذي لم يكن مسلحاً وقت الحادثة، قدم المتهم إلى المحكمة التي قضت ببراءته بحجة الدفاع عن النفس ما أثار حملة كبيرة من السخط. اقتبست لورين إبان الحملة قول كارل ماركس بميل الفلاسفة لتفسير العالم دون رغبةٍ في تغييره قائلة: "شعرتُ أن فهمنا العميق للأزمة هو وحده ما سيُخلِّصنا منها". أما زيمرمان، فقد قُبِض عليه فعلاً وقُدّم للمحكمة التي منحته بدورها البراءة وسط حملة استياءٍ واسعةٍ على تويتر. كان بادياً أنَّ النشطاءَ لم يحصدوا من الوسوم التي بذروها عبر فضاء تويتر سوى النكسات المتابعة. أولاً، فشلوا في إنقاذ أحدهم من الموت إعداماً، ثمّ أخفقوا ثانياً في معاقبة رجلٍ سَلَب الحياةَ من مراهقٍ أسود. إذن، هل هناك من سبيل لتحقيق مكتسبات حقيقيّة بالاعتماد على هذه المنصة؟
بؤس اجتماعي على منصات التواصل الاجتماعي
من الغني عن القول، ودونما مواربة، أنّ معظم المحتوى السياسيّ الذي تَضِجُّ به منصاتُ التواصل الاجتماعيّ تعتريه فظاعةٌ وقسوةٌ طافحة. فرغم وجود قلّة من المدونين الذين يستخدمون هذه المنصات بدمٍّ باردٍ ولا يتوجسون من أي عواقب قد تجرُّها على مساراتِهم المهنيّة أو توازنهم النفسيّ، إلا أنّها تكتظ في المجمل بأفواجٍ من المُعدَمين الذين يُقبِلون عليها بوَلَهٍ وإقدامٍ تُزَكّيه طبيعةُ الوجود الافتراضيّ على هذه المنصات.
اقرؤوا المزيد: "كيف يقرر فيسبوك حذف منشورك؟".
لا يخفى على أحدٍ أيضاً أنَّ من يتحكم بهذا الفضاء الرقميّ ويُدِيره بدهاءٍ شديدٍ هم مجموعةٌ متواريةٌ من المُبرمجين ورجال الأعمال. النتيجة هي فضاءٌ مُكتّظٌ وناءٍ في نفس الوقت، تَحْتَلُه مجموعاتٌ عُصْبويّة مُتذرِّرَة تبثُّ حنقها الجمَّ عبر مساراتٍ مُصمّمةٍ بإحكام، وفي حدود السُّلطة المخوََلَة لها والتي لا تتجاوز عموماً القدرة على الاغتيال المعنويّ للمُستَهدفين أو التشهير بهم، أو الضغط من أجل طردهم من وظائفهم.
فيما قد ينفي البعضُ عن منصات التواصل الاجتماعي ما يشوبها من أجواءٍ سامّة ومُحتقنة، يساجلُ عددٌ كبير من النشطاء المشاركين في الكتاب أنَّ ما توّفِره هذه المنصات من مكاسب اجتماعيّة تفوقُ ما يعيبها من مثالب. فهم، النشطاء، يُحجِّمون معايير التقييم بما يسمح لهم اعتبارَ أيَّ نتيجة يحققونها مكسباً. لا نختلف معهم على أنّ تويتر، ومن دون شك، مكانٌ جيّدٌ لتكوين علاقاتِ صداقة، لكن يُمكن أن يُقال الأمر نفسه عن الخنادق. وكما بمقدور المواد الأفيونية أن تخفِّفَ من الضغط على مستهلكيها، قد يقوم تويتر كذلك بالتنفيس عن جماهير المغرِّدين عليه. كنتُ قد أجريتُ هذه المقارنة في مقالة على مجلة جاكوبين (Jacobins) والتي يمكن استحضارها في هذا السّياق أيضاً:
"إنّ توطئة الطريق للشباب، سواء العاطلين أو الذين يمرّون بعطالةٍ جزئيّةٍ عن العمل، من ولوج عوالم الإنترنت باعتبارها البديل الأساسي عن 'الجماعة" ليس أمراً يُستهان به كما لو كان مجرد صفقةَ مقايضةٍ بين تسلية ضرب الدفوف بألعاب الفيديو2(وردت في النصّ الأصلي:Rug hooking وتعني نسج البساط. لا يمكن نقل الاستعارة كما هي في النص الأصلي لأنّها لا تؤدّي نفس الوقع في سياقنا العربيّ. النسيج هو نشاط الطبقة الدنيا الغربيّة عموماً، وهو تسلية وعمل في نفس الوقت. لكن ليس هناك، في علميّ، نشاط مقابل له وبنفس المعنى في سياقنا.(المترجم). نحن نتحدث في حقيقة الأمر عن تكنولوجيا بالغة السّطوة لدرجة أنّ مبرمجيها يمنعون أطفالَهم من استخدامها. أصبح للفضاء الرقميّ مفعولُ المُهدِّئات الأفيونيّة على الشرائح الرثة من الجماهير.3لامبنبروليتاريا (البروليتاريا الرثة): مصطلح ماركسي يطلق على الفئات الدنيا من المجتمع. على عكس العمال(Proletariat)، لا تساهم البروليتاريا الرثة في عملية الانتاج، ولا تملك وعيا ثوريا، بل كثيراً ما تستغل من لدن البرجوازية لطرب نضالات الطبقة العاملة. (المترجم) فعلى غرار الحشيش والكحوليات، أصبح الفضاءُ الرقميّ يُمثّل أيضاً تجزيةً للوقت، مُسَلِّية واجتماعيّة ولا تنطوي على كبير ضرر بالنسبة للمُنَعَّمِين الذين يحظون بصحّةٍ جيّدةٍ ووضعٍ ماديّ مُريح. أما بالنسبة للمُعدمين، فقد باتت الإنترنت آفةً اجتماعيّةً مرضية تتغذّى على بؤس شرِّه يفاقم العداء والاستياء ضدّ المجتمع. فبقدر ما نحن متصلون على نحوٍ لم نشهد له مثيلاً قطّ بقدر ما نحن معزولون ومنزوون أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
ليست منصاتُ التواصل الاجتماعيّ أرضاً خراباً بطبيعتها، بل إنّها مأهولة أساساً بحشود منكوبة. صحيحٌ أنَّ تويتر تقدّم في تطوير خوارزميات تسمح بنمط من التنسيق الاجتماعيّ على قدرٍ عالٍ من الفعالية، لكنها خوارزميات تُسَيّجُ في غيتوات معزولة وبشكلٍ مُحكَم بعضَ الممارسات الاجتماعيّة، مثل النشاطيّة السياسيّة، وترْدِيها ثقافات مضادة ومعادية للمجتمع. وبالتالي، ليس القيام بإجراءات تصلح "الإنترنت" أو تجعله "أكثر ديمقراطيّة" أولوية حالياً، لأنّه سيكون بمثابة وضع العربة أمام الحصان. فما دامت سياسات الطبقة تتقهقر، ستكون هذه الإصلاحات، بمعنى أعمّ، أشبه بالتصدي لأزمة الأفيونات بتعديل قوانين استهلاكها. إنّ نزع السّحر عن وسائل التواصل الاجتماعيّ يستدعي توظيفها لكسب الناس لناحية سياسات واقعيّة لا تنشغل باستهامات حول منصات لها مفعول الأفيون على الجماهير.
يعتبر مؤلفو #نشاطية الوسوم تويتر "حيّزاً عامّاً مُضادّاً"4لا يحصر "الحيز العام" أو "الحيز العام المضاد" في بعده المكاني وحده، بل يتعداه إلى المواقع الخطابية، الأدب والصحافة والسينما مثلاً، والذوات المجتمعية المكونة لهذه المواقع والفضاءات العامة. (المترجم) مستلهمين المفهوم من مقالة نانسي فريزرNancy Fraser "إعادة التفكير في الحيّز العام: مساهمة في نقد الديمقراطية القائمة". صاغت فريزر المفهوم في سياق نقدها لما أَطلَقَ عليه هابرماسHapermas "الحيّز العام البورجوازي"، من حيث هو حيز تلتقي فيه "فضاءات الأفراد الخاصّة على شكل هيئة عامة"'، والذي يُسقِط من تحليله التمييز الحاصل في المقاهي والصالونات التي يعتبرها هو فضاءات عامّة. بناءً عليه، تخلص فريزر إلى أنّ المجموعات المُهمشة تردُّ على إقصائها من الحيّز العام من خلال خلق فضاءاتها "العامّة المُضادّة والتابعة" Subaltern Counterpublics 5تستلهم فريزر مفهوم التابع من دراسات ما بعد الاستعمار والتي غدت تستخدم بشكل أعم في الدراسات النقدية للدلالة على الطبقات الاجتماعية الواسعة التي تقصيها النخبة من التداول السياسي والخطابي في الحيز العام البرجوازي.من الملحوظ أن الكُتَّاب لم يكلِّفوا أنفسَهم عناءَ تعريف هذا المفهوم الفضفاض (أو لنقل المفهوم الخطابي، بلغة الأكاديميا) وفق معايير محددة، بل اكتفوا بإسقاطه كلما سنحت الفرصةُ على توليفةٍ مُتنافرةٍ من التنظيمات ووسائل الإعلام والحركات التي أفرزتها سيرورات التشكل الاجتماعيّ لهويات مُهمّشة تعرضت تاريخيّاً لإقصاء سافرٍ من فضاءات عامّة كبرى ونخبويّة.
ليس واضحاً إلى أي مدى وبأي معايير يمكن تصنيف نشاط الوسوم أو المنصات الاجتماعيّة عموماً على اعتبارها حيزاً عامّاً مضادّاً. من جهةٍ، يمكن فعلاً اعتبار تويتر فضاءً عامّاً، فالموقع لا يضمن أي مساحات "آمنة" أو محصّنة أو حصريّة لأي من المجموعات المُهمشة، بل هو متاح ومجانيّ للجميع كوسيلة لإنتاج واستهلاك المحتوى. كما أنّه لا يوفر أشكال التماسك الرسمي ولا صيغ التماسك غير المعلنة التي تتسم بها كل هوية سياسة محددة. لكن من ناحية ثانية، هو فضاء خاصّ بشكلٍ مطلقٍ. فعلى نقيض الصرح العام، توتير فضاءٌ مملوكٌ لشركةٍ خاصّةٍ تملك القدرةَ على حجب المستخدمين، وفرض الرقابة عليهم، وتمويههم ببعض الطرقات السريعة على لوحة المفاتيح.
اقرؤوا المزيد: "لماذا تموّل مايكروسوفت مراقبة الفلسطينيين في الضفة؟".
لو أمكنّنا استنتاج أي خلاصات من هذا القياس، فستكون تعريف تويتر على أنّه النقيض النيوليبرالي للحيز العام المضادّ بكل المعايير. فهو لا يعمل بشكلٍ مُستقلٍ عن "الفضاءات" التقليديّة والنخبويّة. إذ جرت العادة منذ سنوات أن توّظف وسائل الإعلام التقليدية تغريدات تويتر لدرجة باتت معها هذه التغريدات نفسها تصنع "الحدث" باستمرار. زدْ على ذلك أنّه من المتوقع (إن لم يكن من واجبه المهنيّ) أنْ يكون لدى كلِّ صحفيٍّ تقريباً حسابٌ نشطٌ على تويتر. ومن جانب آخر نراه الأكثر أهمية، لا يفوّض تويتر مُستخدِميه أيّ سلطةٍ تُمكِّنهم من السيطرة الفعليّة على المنصة. ليس من الواضح دائماً من يُسيطر ويُدير الفضاء الرقميّ، وذلك لأنّه صُمِّمَ أساساً على نحوٍ يظلُّ معه الأمرُ مُبهماً.
جنون الهويات "المهمشة"
من الممكن أن نُبدَِدَ كلَّ هذه الاستيهامات حول #نشاطية الوسوم انطلاقاً من سؤالٍ واحد: لماذا يصرُّ المُؤَلِّفون على ادعاء أن النشاطيّة السياسيّة الرقميّة أحرزت مكاسب سياسيّة على الرغم من أنّ سجلها التاريخي يشير فقط إلى نكسات وإخفاقات؟
السبيل الأيسر للإجابة عن السؤال أعلاه تكمن في أنني استند على اعتبارات مختلفة عن تلك التي يبني عليها المُؤَلِّفون طرحهم حين يعدّون مكاسبَ النشاطيّة الرقميّة، وهي اعتبارات نابعة من منظورين متناقضين، يرجع الاختلاف بينهما إلى ما قبل ظهور التقنية نفسها. بالنسبة للمنظور الاشتراكي، تعدُّ الطبقة العاملة الكتلة المركزية التي توّجه سياسات التحرر والعدالة الاجتماعية. ليس لأن استغلال هذه الطبقة هو أكثر أنواع الاضطهادات مأساوية، ولكن لأن في شكل استغلالها تناقض يكمن الخلاص في حله: إن العمل هو قلب العالم النابض، ووحدهم العمال يملكون القدرة على ضخ الدماء فيه.
أما من وجهة نظر ليبرالية، لا يمكن بالمطلق لأي كتلة أو قوة أن تكون مركزية في المجتمع. وبما أن منظور الليبراليين مبني على اعتقاد بلامركزية أي "ذات" أو كتلة مجتمعية، تجدهم يبحثون عن ضالتهم في الدفاع عن "مضطهدين". بمقتضى ذلك، تتم صناعة طيف واسع النطاق لتوليفات غير متجانسة من مجموعات هوياتية "مهمشة" و"مضطهدة" تجري أسطرتها بشكل مثالي للتكفير عن "مظالمها التاريخية". فالمعاناة والعذابات، في عرف الليبراليين، هي المضامين التي يجب البحث فيها. هكذا تُحَوَّل هذه الهويات "المهمشة" إلى فيتيش Fetish من فرط حصرها في تفسيرات ثابتة وفوق تاريخيّة.6تحيل الفيتيشية في هذا السّياق إلى التعلق الهوس بالهويات وسرديات ورموزها التاريخية على نحو يسبغ عليها سمات السحر والقدسية، وبالتالي تحوير هذه القضايا عن واقعها الماديّ الذي تتشكل فيه وفق علاقات السلطة. يقصد هنا أيضاً بفيتيشية الهويات التسليع الإعلامي لقضايا الاضطهاد الثقافي، فقد بات ادعاء المظلومية والمعاناة غاية في حد ذاته عوض الالتفاف حول فكرة العدالة والنضال من أجل تحقيقها. (المترجم)
غدت هذه النزعة الهامشية، التي تحفّزها دوافع أخلاقوية مجرّدة لا سياسات اجتماعية متماسكة في مقاربتها لقضايا الاضطهاد، تجسيداً عصريّاً لشفقةٍ مسيحيّةٍ تحضّ على الرأفة والرحمة تجاه "المُعذّبين" "والمستضعفين".
من الممكن في حالات قليلة أن يطلق وصف "المهمشين" على فئات من العمال، وهو أمر طبيعي بما أن الأغلبية تفني جهدها يوميّاً من أجل لقمة العيش، إلا أنّها تحيل في الغالب إلى مجموعةٍ صغيرةٍ من الأفراد الذين نصّبوا أنفسهم نواباً عن مجموعات الهوية التي يمثلونها مبدين التزاماً متفانياً تجاه طبقتهم الاحترافيّة الإدارية Professional Managerial Class7تشمل الطبقة الاحترافيّة الإدارية (أيرينرايش، 1979) بشكل عام العمالة الذهنية، من تقنيين وخبراء وتكنوقراط ومدراء التسيير، التي ظهرت مع صعود سياسات الخوصصة النيوليبرالية بالموازاة مع قطاعات خدماتية أكثر مرونة وتقنية محل قطاع الصناعات الصلبة. تتميز هذه الطبقة الإدارية بثقافة ليبرالية و"تقدمية" ما يجعلها أكثر "نخبوية" من الطبقة العاملة. خلفيتها الثقافية التقدمية والامتيازات التي يضمنها موقعها الطبقي المتميز في النظام الرأسمالي هو ما يبرر نفورها من السياسات الاجتماعية والاقتصادية (والصراع الطبقي) وميلها نحو سياسات الهوية (ومعاركها الثقافية). (المترجم) من الوارد جداً أن نجد بين هؤلاء "المهمشين" زملاءَ لنا في المؤسسات الإعلامية أو الأقسام الأكاديمية وحتى في مجالات المتعة والترفيه (وكله بفضل شبكية "تنظيمات العدالة العرقية والجندرية").
تبدو حملات الوسوم عموماً، في شكلها الحالي، فعاليات موسمية لربط العلاقات بين التنظيمات الليبرالية الشبكية. تمنح هذه الحملات منخرطيها الاعتراف داخل المجموعة، والنشوة الواهمة بامتلاك القوّة، والقدرة على التخلص من مشاعر الذنب وتحقيق الرضا الأخلاقي الذاتي، علاوة على امتيازات مهنية لفائدة المقاولين "التقدميين" ذوي المكاتب المكيفة. أما بالنسبة للذين يدافعون عن العدالة الاجتماعيّة بصدق غر، أولئك الذين يكسبون قوت يومهم عبر مزاولة أعمال "مهنيّة" عادية لا وظائف "احترافية"، فكلُّ ما يمنحهم إياه تويتر هو محضن يمكِّنهم من المشاركة في "البوح" العام والإدلاء بما يعترضهم من معاناة. عادةً ما يحتدم البوح بين النشطاء ليصير عويلاً هيستيرياً جماعيّاً يستفرغ شحناته المكبوتة في خواء رقمي مهدور تسيطر عليه شركة رقميّة عملاقة. إذا كان مؤلفو #نشاطية الوسوم يعدّون التنفيس عن الذات، وكسب أصدقاء جدد من خلال نشاطات الوسوم، والتأهيل الثقافي لتنشئة أجيال من الطبقات الوسطى أكثر تسامحاً وإنسانية، أهدافاً ومكاسب سياسية في حدِّ ذاتها فمن واجبنا أن نقرّ لهم بنجاح باهر في هذا الصدد.
يعمّق توجه النشاطية الرقميّة نحو الانكفاء الهَوِسِ على الذات بالموازاة مع صعود مطرد لخطابات ثقافية تلوح بها أقليات الطبقة الاحترافيّة الإداريّة من واقع تَفتُت قوى التغيير في المجتمع والتباس المشهد السياسيّ، مكملة بجدارة ما بدأه اليسار الجديد (New Left) في هذا الباب. رغم كل ما يبديه الواقع من معطيات تناقض أوهام النشاطية الرقمية، غير أن مناصريها يرفضون النظر في مكامن قصورها إضافة إلى عجزهم عن تعيين قد تنطوي عليه من مثالب مدمرة. ما يحفِّزُ هذا الموقف تجاه الوسائط الرقميّة هو الرغبة الفيتشية في تبني كل مستحدث جديد بعد أن أعلن المنعطف الثقافي موت سياسات الطبقة. كثيراً ما يستدلّ بحداثة وسائل التواصل الاجتماعي على ما تعد به من إمكانات غير مسبوقة، غير أن الأمر لا يمنع بعض أشد مناصريها ولاءً من تأليف كتاب يعرض بصراحة تامة عجزها الكامل عن توفير أي إمكان سياسيّ. تقبعُ في صميمِ الموقف المُتشبث بوسائل الإعلام الاجتماعيّ نزعةٌ إرادوية متمسكة بها بإيمان أعمى لا لشيء آخر إلا لأنه لم يتبقى في متناولنا أي أدوات سواها. وفي الوقت الذي يراكم فيه النشطاء النكسات على كل الأصعدة، لا يمتنع النشطاء عن التغني بمساحاتهم الرقميّة "المُحرّرة".
السير الواثق على دروب النضال الأصيلة
في ظلِّ غياب مؤسسات جماهيريّة توّفر إمكانات تأهيل قوة سياسية تقتحم معترك السلطة الحقيقي، تستغل الرأسمالية تويتر من أجل إلهاء المستخدمين وتسكينهم في قلاعٍ رقميّةٍ معزولة. فهي بذلك تلغي إمكانية خلق بدائل حقيقيّة للتضامن، وتساهم في تأبيد هيمنة خطاب (نشاطي) عاجز يحُول دون انبثاق التشكّلات السياسيّة والاجتماعيّة الضرورية لبناء تنظيماتٍ حيويّة وفعّالة.
يتطلب كلُّ نشاط، أكثر تعقيداً من تغريدات النشاطية السياسيّة وذو أثرٍ أعمق بحيث لا يمكن التخلص منه بيُسرٍ بعد انقضاء فترة صلاحيته الوجيزة في مكبٍّ رقميٍّ مُجوف، مؤسساتٍ راسخةً تَقدِرُ على توفير البناء والنمو والتأهيل في زمنٍ وفضاءٍ عياني. مؤسسات تختلف عن رهطٍ رقميّ متناثر ومتسلط يدخل في مسابقاتٍ لارتجالِ التغريدات حول ما استجد من وقائع كل أسبوع. من المطلوب أن يكون استخدام الفضاء الرقميّ لأجل بناء حركات سياسيةٍ واقعية استخداماً تكتيكياً يروم تجاوزَ منصات التواصل الاجتماعي في آخر المطاف واستبدالها بالنقابات والأحزاب والتنظيمات السياسيّة.
ينبغي أن تستعيد النشاطية السياسية الاستراتيجيات الكلاسيكية للتنظيم وبناء الهياكل التي مكّنتها من انتزاع مكتسبات حقيقية. لكن المضي في هذا الدرب العتيق ليس سيراً في ممشى مرصوف بالورد. إنّه دربٌ يستلزم العمل التنظيميّ الشاقّ والصبور، لا الاستعراض الذاتيّ السينمائيّ الذي تجد فيه وسائل الإعلام، الرقميّة وغيرها، مادةً دسمةً لصناعة الفُرجة. بيتُ القصيد أنّ النشاطية السياسيّة الواقعية لا يمكن أن ترتكز على منصاتٍ التّحكم بها بعيد عن متناولنا كل البعد. من الواضح أنّ البعض يستهوي توّهم أن وسائل التواصل الاجتماعي ستحذو حذو ذلك الرأسمالي الذي يقوده شجعه الأعمى إلى بيع حبل إعدامه. هناك قليل من الصواب في هذه القول لو ظلّ ارتباطنا بمنصات التواصل الاجتماعي مقتصراً على توظيفها في الدعاية لفعاليات على أرض الواقع، مع إدراك مدى قصورها وعجزها في تحقيق التعبئة والتنظيم.
من المؤكد أن نشاط الوسوم منحةُ الفضاء الرقميّ الاجتماعيّ لمن "يُصرِّون على إسماع أصواتهم". فبفضل منصات التواصل الاجتماعيّ يمكن الاتصال مع حشدٍ رقميٍّ يهتف صراخاً وغضباً دون أي جدوى. الناشط الرقمي يملك بالفعل صوتاً، مهما بدا لنا الصوت عاجراً ومكتوماً، ومن حقه قطعاً أن يستميت في حملاته الدونكيشوتية من أجل إسماعه. أما من يرنون بنظرهم نحو معترك السّلطة الفعلي، فلا تملك هذه المنصات أن تقدّمهم خطوةَ نحو هدفهم.