23 نوفمبر 2020

الأغنية المصرية.. كيف انتهى الغناء لفلسطين؟

الأغنية المصرية.. كيف انتهى الغناء لفلسطين؟

مساء يوم الجمعة، والموافق 13 أكتوبر/ تشرين الأوّل من عام 2020، جلس الفنان المصريّ أحمد السقَّا ليُدندن بصوته أغنية حرص جدُّه على غنائها له في الصِغر، وذلك أثناء استضافته في برنامج السيرة على فضائيَّة DMC المصريَّة الإماراتيّة.

دندن السقَّا: "الله يصونك يا فلسطين ونِحنا العرب نحميك"، لتحذف بعدها إدارةُ القناة المقطعَ من الحلقة. إنَّ دندنة السقا ليست عابرة في ذكريات جَدّه، بل هي تذكرة لتاريخ طويل من الغناء المصريّ للقضية الفلسطينية؛ التاريخ الذي ختم رحلته بالصمت منذ عام 2013، وصعود النظام المصريّ الحالي. فما هو تاريخ فلسطين في كلمات الأغنية المصريَّة؟ ولماذا انقطع في الحاضر؟ 

اليوم موعدنا، لا الغد

إثر النكبة عام 1948، والتي شارك فيها الجيش المصريّ بالقتال، بدأ أوّل تحركٍ فنيّ مصريّ تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة، بالتوازي مع صعود الفنّ المصريّ الغنائيّ. أنتج هذا الصعود أوّل أغنية مصرية باسم "فلسطين"، عام 1948، من كلمات الشاعر علي محمود طه (هامش: شاعرٌ مصريّ، لمعَ نجمه في الأربعينيّات بإصداره عدَّة دواوين شعريَّة، وتوفّي عام 1949) ولحّنها وغنّاها محمد عبد الوهاب، لتكون أوّل أغنيّة فنيّة تؤازر القضية الفلسطينيّة وتحثّ الجيوش العربيّة على الانتصار أمام الاحتلال الإسرائيليّ.

 أخي، أيهـــا العربيُّ الأبيُّ أرى اليوم مَوعـــدنا لا الـــغــــــدا 
أخي، أقبل الشرقُ في أمــةٍ تردُّ الـــضلال وتُحيي الــهُـدى 
أخي، إنّ في القدسِ أختاً لنـا أعــدَّ لها الذابحون الـــمُــــدى 
صبرنا على غدْرِهم قادرينا وكنا لَهُمْ قــدراً مُــــرصــداً

ضاعت الأرض وتشتّت الفلسطينيّون، لكنّ استمرار المواجهات العسكريّة بين الاحتلال من جهة وبين العرب من جهة أخرى، كالعدوان الثلاثيّ عام 1956، وحرب 1967، وصولاً إلى "أكتوبر" عام 1973، كلّها شكّلت رافداً لمزيد من الأغاني المصريّة حول القضية الفلسطينيّة.

كان العندليب المصري عبد الحليم حافظ وكوكب الشرق أم كلثوم من أهم الوجوه خلال تلك المرحلة الغنائية، وقد غنّيا الاثنان لفلسطين. غنَّى حليم إبان النكسة عام 1967 أغنية "المسيح" من كلمات الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وألحان بليغ حمدي. كما غنَّى من قَبلِها أيضاً أغنية "ثورتنا العربيَّة"، وأغنية "وطني الأكبر" بمشاركة محمد عبد الوهاب ووردة وشادية ونجاة.

دلوقت يا قدس ابنك زي المسيح غريب غريب
تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب
خانوه.. خانوه نفس اليهود
ابنك يا قدس زي المسيح لازم يعود. علي أرضها

وغنّت أم كلثوم "أصبح عندي الآن بندقية"، من كلمات الشاعر السوريّ نزار قباني، وألحان محمد عبد الوهاب والذي شاركها الغناء أيضاً. كان ذلك عام 1969، بعد احتلال سيناء بعاميْن. إذْ شهدت الفترة ما بين 1948 و1973 مؤازرة فنيّة غنائية شديدة من ألمع مطربي ومؤلفي تلك الحقبة بداية بمحمد عبد الوهاب، وسيد مكّاوي، وفريد الأطرش، ومحمود طه، وبليغ حمدي، مروراً بعبد الحليم حافظ، وأم كلثوم، إلى شادية، ونجاة، والأبنودي، وفؤاد حداد، وغيرهم، وترافق ذلك مع دعمٍ ومساندة سياسيّة رسميَّة من النظام السياسيّ في مصر.

ما بعد كامب ديفيد.. التضامن من بعيد

رغم عقد اتفاقية كامب ديفيد (هامش: تمثّل أوّل تطبيعٍ عربيّ مع الاحتلال، وتنصّ على انتهاء حالة الحرب بين الاحتلال ومصر، ما يتضمن الاعتراف الكامل والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية وإنهاء المقاطعة الاقتصادية) بين مصر السّادات ودولة الاحتلال عام 1978، إلا أنَّ فلسطين وقضيّتها لم تغبْ عن أعمال الجيل الجديد من مطربي ومؤلّفي الأغنية المصريَّة.

كان أبرزهم الكينج المصريّ محمد منير. والذي طلّ على الجمهور العربي بأغنيته الأولى عن فلسطين: "شجرة الليمون" عام 1981، وبأغنية أُخرى هي "العمارة" الصادرة عام 1989 أثناء الانتفاضة الفلسطينيَّة الأولى، فغنّى منير عن الأطفال والحجارة.

واحنا نغني في كل مكان
أغاني الشعب وثواره
وأصغر طفلة في فلسطين
شالت بالكف حجارة

جاءَ من بعد مُنير جيلٌ آخر من المطربين، منهم عمرو دياب وهاني شاكر وتامر حسني ومحمد فؤاد وغادة رجب وإيهاب توفيق وغيرهم، ضمّنوا جميعهم بين أعمالهم أغانيَ عن فلسطين على مدار عقديْن من الزمن (1990- 2010).

أشهر تلك الأعمال هو أوبريت الحلم العربي والذي صدر عام 1998، وغنّاه 21 مطرباً عربيّاً بشكلٍ جماعيّ، وبعده أوبريت "القدس هترجع لنا" عام 2000، من أداءِ أكثر من 30 فناناً. وخلال الانتفاضة الفلسطينيَّة الثانية (2000- 2005)، انضمّ المطرب محمد فؤاد للرَّكب بأغنيته "الأقصى نادى"، ومثله هاني شاكر بأُغنيته "على باب القدس"، متأثراً باستشهاد الطفل محمد الدّرة وهو في حضن أبيه.

شاركهُما التضامن المصريّ الفلسطينيّ كلٌّ من الفنانيْن عمرو دياب وتامر حسني، بأغنيتيْ "القدس دي أرضنا"، و"ترابك يا فلسطين"، لتشكّل حقبة حُكمِ مبارك المصريَّة، على مدار 30 عاماً، تضامناً فنيّاً مع القضيَّة الفلسطينيَّة، يعلو صوته في الأحداث السياسيّة المشتعلة في فلسطين، ويخفت مع خفوتها.

الأغنية الصامتة

عودةً على أحمد السقَّا، وحذف المقطع الذي استذكرَ فيه أغنيةً لفلسطين، نصلُ إلى الحالة في السنين ما بعد عام 2013. لم تكن حادثة السقّا منفصلة عن السرديَّة السياسيَّة المصريّة العامّة حول فلسطين، إذْ لم تُنتَج أيّ أغنيّة مصريَّة تُذكر عن القضيَّة في الأعوام الأخيرة.

كان هذا التحوّل تدريجياً، يعبّر عن اختلافاتٍ جوهريَّة في شكل الأغاني، حسبَ اختلافِ النظام السياسيّ نفسه واختلاف سرديّته. تركيبة الأنظمة السياسيَّة في مصر لم تختلف منذ عام 1952، فهي كانت ولم تزل حكماً عسكرياً يديره أبناء المؤسسة العسكريَّة- إذا استثنيْنا فترة ما بعد ثورة يناير وحتى الانقلاب عليها (2011- يوليو 2013). إنما اختلفَ المسارُ السياسيّ، ولكن كيف؟

اقرؤوا أيضاً: الأغاني الفلسطينيَّة.. حنّاء وبارود

بدايةً من النكبة عام 1948 حتى حرب أكتوبر عام 1973، كانت سردية الحرب حاضرةً في الأغاني ومتوافقةً مع الحروب والمواجهات على أرض الواقع. رأيناها في حروب عدّة مثل العدوان الثلاثيّ والنكسة وحرب أكتوبر، فتمحورتْ حينها كلماتُ الأغنية حول القتال والجهاد ضدَّ العدو، مستندةً إلى خلفيةٍ دينية وقوميّة عربيَّة أحياناً، مثل أغنية "راجعين بقوة السلاح"، التي غنّتها أم كلثوم وكتبها صلاح جاهين، وحثَّت على القتال.

أمَّا السردية الذي أتى بها السادات وأكملها مبارك من بعده، وهي سرديَّة السلام وكامب ديفيد؛ السلام المحافظ الذي لا يطبّع علانيةً، ولا يمنع التضامن مع القضية، ولكنّه خرج من عباءة القتال العربيّ ضدَّ الاحتلال الإسرائيليّ، وصدّر سرديَّة القتال الفلسطينيّ ضدّه؛ الفلسطينيّ وفقط. ولكنّ ما شهدته فلسطين من انتفاضات وأحداث دامية ومقاومة باسلة من أبنائها جعل بعضاً من النخب الفنيّة المصرية الصاعدة تتبنى فعلَ "التضامن والتعاطف"، وآمالَ تحرير فلسطين في أعمالها الفنيّة.

منذ الانقلاب العسكريّ في 2013، وتولّي عبد الفتاح السيسي الحكم، كُتبت سرديَّة سياسيّة أُخرى تجاه القضية الفلسطينيّة. في ظلّ محيط عربيّ وإقليمي بات أكثر "تقبلاً" لدول الاحتلال، انتقل النظام المصريّ من سردية السلام المحافظ إلى التنسيق الدائم والمعلن مع الاحتلال، وفقاً للمصالح المشتركة. وكذلك انتهت السرديَّة التضامنيَّة السياسيّة مع الفلسطينيين، وعلت مكانها الاتهامات لهم عبر وسائل الإعلام بأنّهم "باعوا أرضهم"، واندرجوا ضمن خطاب "الحرب على الإسلام السياسيّ" الذي تبناه النظام المصريّ الحالي، فظهرت الاتهامات للفلسطينيين ولحركة "حماس" بالتدخل في الشؤون المصريّة وحتى تهم "اقتحامات السجون".

على الصعيد الداخلي يضفي النظام السياسي في مصر هيمنته الكاملة على المجال الثقافي، من الإعلام والصحافة إلى الفنّ والرياضة، فتجد المطربين الذين غنّوا لفلسطين منذ سنوات قليلة غائبين عن أغانيها، حتى مع احتدامِ المواقف السياسيَّة، كـنقل السفارة الأميركية إلى القدس في مايو/ أيّار 2018، وإعلان الولايات المتحدة الأميركيَّة القدسَ عاصمةً لـ"إسرائيل"، قوبل ذلك بالصمت على الصعيد الفنيّ. 

ليست السردية السياسية فقط هي ما قطع أوصال التضامن، بل أيضاً تشكُلات الاقتصاد الجديدة التي تعيشها مصر، لا سيما الطبقات البرجوازية التي تنتمي إليها النخبة الفنية، وتقاطعاتها مع النخبة السياسية المهيمنة على الإنتاج الفنّي في مصر.

لا تنفكّ السلطاتُ السياسيَّة، في مصرَ وغيرها من الدول العربيَّة، عن تمريرِ رؤاها السياسيَّة إلى الثقافة. تُهيمن على الإنتاج الفنيّ، وتمارسُ الرقابة عليه، لتوجّهه نحوَها في كلّ القضايا الفكريَّة والتحرّريَّة. إذْ حين عزمت على التوجّه للتطبيع مع الاحتلال، تبعها الفنُّ والنخبُ الاقتصاديَّة والسياسيَّة، واختفتْ بندقيَّة أم كلثوم وقوَّة السلاح إلى أنْ استُبدلت بصمتٍ مُطبق.