فجر يوم 12 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، استشهد منتصر سيف (34 عاماً) خلال هروبه من جنود الاحتلال، الذين حاصروه محاولين اعتقاله. منتصر الذي تحرّر من السجن قبل 10 شهور فقط، هرب هذه المرّة رافضاً العودة إلى السجن الذي قضى فيه 17 عاماً. لم يهرب منتصر خوفاً، وإنما رفضاً للخضوع والإذلال، وساعياً للنجاة، وإن كانت نجاةٌ إلى الموت.
جاءت محاولة اعتقال سيف من بلدة برقة شمال نابلس، ضمن حملة اعتقالية واسعة ومتصاعدة، تنفذها قوات الاحتلال في الضفة منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، تحاول من خلالها: أولاً؛ القيام بخطوة استباقية للسيطرة على الضفة الغربية، أثناء عملية اجتياحها لقطاع غزة، بهدف ضمان عدم تحول الضفة إلى جبهة قتال ثانية.
إلا أن حالة المواجهة والاشتباك اليومية، والتي تأخذ منحناً تصاعدياً - وإن كان بطيئاً -، يعطي مؤشراً حتى الآن أن حملة الاعتقالات التي طالت مئات الفلسطينيين، لم تنجح بوقف الفعل المقاوم في الضفة. تشير إحصائية لـ "مركز معلومات فلسطين - مُعطى"، إلى أنه منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر - 14 تشرين الثاني/ نوفمبر، وقعت 1497 مواجهة، ونُفّذت 597 عملية إطلاق نار، من بينها 189 عملية نوعية.
أما ثانياً؛ يحاول جيش الاحتلال من الاعتقالات استعادة هيبته، بعد أن سلبته إياها مقاومة غزة في معركة "طوفان الأقصى"، من خلال المبالغة بالاعتداء والتنكيل بالأسرى وعائلاتهم. جيش الاحتلال لا يريد دب الرعب في المجتمع كإجراء آني فحسب، وإنما أيضاً إعادة تشكيل صورته في ذهنية الفلسطينيين، من خلال تكرار العنف والمبالغة فيه، وتثبيت ممارساته كعقاب يومي واعتيادي، ليُخضع المجتمع ككل.
في هذا المقال، نبيّن - من خلال الشهادات والأرقام - أبرز التحولات على عمليات الاعتقال بعد معركة طوفان الأقصى، لكونها تستهدف أكثر من المعتقلين؛ إنها تستهدف المجتمع الفلسطيني برمّته.
الاعتقال عن "جنب وطرف"
لم تشهد الضفة يوماً خالياً من الاعتقال، فما تشهده منذ بداية المعركة هو امتداد لحملات الاعتقال السابقة، غير أنها اتخذت منحى جديداً تمثل بازدياد العنف فيها، وبتصعيد في عدد حالات الاعتقال. منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر وحتّى 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، اعتقل الاحتلال 2650 فلسطينيّاً. ومقارنة بالشهور الثلاث السابقة، تضاعف الاعتقال من 5-7 مرّات. إذ وثقت مؤسسات الأسرى في شهر أيلول/ سبتمبر 340 حالة اعتقال، وفي شهر آب/ أغسطس 510 حالة اعتقال، وفي تموز/ يوليو 530 حالة اعتقال.
لم يسبق أن سُجّل هذا الرقم الهائل من حالات الاعتقال في شهر واحد، حتّى في أوج الانتفاضات واشتعالها. ما يشي، بأن جيش الاحتلال تعامل مع الضفة وكأنها في حالة انتفاضة، أو على مشارفها.
استهدفت حملات الاعتقال بشكل أساسي الفاعلين السياسيين والاجتماعيين من حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وطالت نشطاء من تنظيمات أخرى، إضافة لاعتقال عدد من النشطاء والإعلاميين. مسؤولة الإعلام في "نادي الأسير الفلسطيني"، أماني سراحنة، تقول لـ "متراس": "جزء كبير من الذين اعتُقلوا، جربوا عملية الاعتقال سابقاً، وكانوا مستهدفين على مدار سنوات سابقة، وخاصة من هم من حركة حماس". كما أعلن جيش الاحتلال أنه منذ بداية الطوفان، اعتقل نحو 930 من عناصر حركة حماس في الضفة.
معظم من أبقى الاحتلال على اعتقالهم حوّلهم إلى الاعتقال الإداري، فبحسب نادي الأسير، أصدر الاحتلال 1346 أمراً بالاعتقال الإداري وبتجديده. ويأتي هذا العدد الكبير من الأوامر، في سياق الأعداد الكبيرة من المعتقلين، فلا وقت - على ما يبدو - عند الاحتلال لاستيعابهم عبر الإجراءات الاعتيادية؛ بدءاً من التحقيق إلى تقديم لوائح اتهام ثم المحاكمة.
تُعلّق سراحنة: "قام الاحتلال بإقرار أوامر عسكرية لتسهيل مهمة الجيش في اعتقال أعداد كبيرة، من بينها أوامر الاعتقال الإداري وإلغاء قانون المساحة". وفي بداية الهجمة الاعتقالية، أعاد الاحتلال تفعيل أوامر عسكرية تتيح تمديد اعتقال الأسير لثمانية أيام بدلاً من 96 ساعة كانت في السابق، وذلك قبل عرضه على المحكمة، كما يُمنع في أول يومين من اعتقاله من لقاء محاميه.
تعذيب ميداني للأسير وعائلته
وبالرغم من أن جيش الاحتلال لا يُخضع المعتقلين للتحقيق أو المحاكمة، إلا أن معظم المعتقلين خضعوا للتعذيب الميداني، الذي تمثل بالضرب المبرح في المنزل وأمام عائلة المعتقل، وهو ضرب وتنكيل لا يتوقف في معظم محطات عملية الاعتقال.
روان علي من مخيم "الجلزون" شمال رام الله، كانت شاهدة وأطفالها الثلاثة على الضرب الذي تعرّض له زوجها علاء الدين قاسمو خلال اعتقاله في 12 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وقد طالها الضرب أيضاً، خلال محاولة دفاعها عن زوجها. تقول روان لـ "متراس": "هجموا مباشرة على علاء وبدؤوا بضربه بأعقاب البنادق.. طوال تواجدهم في البيت واحنا سامعين صوت علاء بنضرب". وتضيف: "هددونا بإطلاق النار إذا لم نسلم هواتفنا.. وكان جندي يحمل فأس ويهددنا به أثناء تحطيمه الأثاث".
ليست المرة الأولى التي يعتقل جيش الاحتلال فيها علاء، إلا أنه حتماً الاعتقال الأعنف، فقد تخلله تحطيم وتكسير لمعظم أثاث المنزل، كما حطموا مركبات العائلة. تقول روان: "إن آثار دماء علاء كانت على أرض المنزل، وعلى الشارع، ما يُشير إلى أنه كان ينزف طوال الوقت". وتضيف: " أكثر من أسبوعين ولا يوجد لدينا أي معلومة عن علاء، حتى صدر بحقه أمر اعتقال إداري.. ولكننا لا نعرف شيء عن وضعه الصحي".
ما حصل مع عائلة علاء، يتكرّر مع عائلات أخرى كثيرة. ففي منزل عائلة عبدالله العروج في قرية "جناتة" جنوب بيت لحم، تعمد جيش الاحتلال اقتحام منزل العائلة مرات عدة، وفي كل مرة كان يعتقل أحد أبنائها يُكرّر تنكيله بالعائلة وتحطيم منازلها، وقد اعتقل أبناء عبدالله الستة: إسماعيل، وإبراهيم، ومحمد، وجعفر، وأحمد، وعيسى، وأصدرت بحقهم أوامر اعتقال إداري.
تقول والدتهم فضية العروج: "بطلنا نعرف النوم.. الضباع مش مخلية حدا ينام". وتروي أنها وزوجها عبد الله (70عاماً) تعرضوا للضرب والدفع، وكبلوا زوجها لوقت طويل، وكاد أن يفقد حياته تحت الضرب. كما تعرض ابنها محمد للضرب والتعذيب، وكانت آثار دمه كبيرة تملأ المنزل ودرجه. وأضافت: "الدمار الي تركوه في البيوت لا يوصف، قصقصوا البرادي، كسروا كافة الزجاج، مزعوا الكنب وحطموه".
العائلة قيد الاعتقال
كثّف جيش الاحتلال من استخدام العائلات كرهائن، ليس للضغط على الشبان المستهدفين لتسليم أنفسهم فحسب، بل أيضاً كعقاب لعائلات الأسرى، وردع لكثيرين غيرهم. ففي 19 تشرين الأول/ أكتوبر، احتجز جيش الاحتلال طفلاً بعمر 3 سنوات بهدف الضغط على والده نجيب مفارجة لتسليم نفسه، حيث وضعوه في الجيب العسكري وتجوّلوا به في القرية، حتى "يعتبرُ" سكّانها من المشهد.
وكرّر جيش الاحتلال احتجاز زوجات الأسرى كرهائن إلى حين تسليم أزواجهم أنفسهم، كما حصل مع شيرين لداردة في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر، حينما احتجزها جيش الاحتلال لساعات طويلة في إحدى أحياء "سلواد" شرق رام الله، حتى قام زوجها غسان حامد بتسليم نفسه.
وتروي زوجة أسير آخر لـ "متراس"، أن جيش الاحتلال اعتقلها لنحو 12 ساعة، رغم أنها حامل في الشهور الأولى، وبحاجة لرعاية صحية خاصة، وذلك بهدف الضغط على زوجها لتسليم نفسه. كما واعتقل أبيه المسن واثنين من أشقائه، للضغط عليه أيضاً. تقول: "فور اقتحام المنزل، اقتادتني مجندة إلى إحدى الغرف وأخضعتني لتفتيش عاري، تخلله صراخ وسب بألفاظ نابية، وهو تفتيش تكرّر في السجن أيضاً.. وخلال اعتقالي أجبروني على المشي لمسافة طويلة ووعرة لنحو 40 دقيقة".
رغم وضعها الصحي، أخضعت زوجة الأسير لتحقيق عنيف ومكثف، وتهديدات بقتل زوجها واغتصاب طفلتها (7 أعوام). تقول: "قال لي المحقق مش فارق علينا كمان فلسطيني يموت، وإنه القوات الخاصة بطريقها إله". ثمّ أجبرها على الاتصال بعائلتها وإخبارهم أنه تم سحب تصاريح العمل منهم.
وفي 9 تشرين الثاني/ نوفمبر، احتجز جيش الاحتلال مهدي حجير (30 عاماً) وفادي حجير (34 عاماً) من مخيم "الجلزون" لأربعة أيام في معسكر "بيت أيل"، بهدف الضغط على شقيقه شادي لتسليم نفسه. يقول فادي لـ "متراس": "فجروا باب المنزل وبدؤوا بالضرب مباشرة علينا أنا وأخي مهدي وأمي وأبوي.. ثم اعتقلوني أنا ومهدي بملابسنا الداخلية ولم يسمحوا لنا بارتدائها".
نتيجة الضرب، أصيب مهدي بجراح بالغة في قدمه، ونزف لساعات طويلة حتى وضع أحد الجنود التراب على قدمه ليوقف النزيف. "الدم معبي الزنازين، في شباب روسها مفتوحة من الضرب، وشباب أجريها مكسرة، وناس بتصرخ من الوجع، وأخوي مهدي فقد الوعي يوم كامل بسبب الضرب"، يقول فادي واصفاً المشهد. ثمّ يضيف: "طول الوقت كنت أنطق الشهادتين ومتوقع يقتلونا".
تجريد الأسرى من الحقوق
منذ بداية الطوفان وحتّى 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، استشهد خمسة أسرى في سجون الاحتلال، وهم: عمر دراغمة من طوباس، وعرفات حمدان من رام الله، وعبد الرحمن مرعي من سلفيت، وماجد زقول (أبو العيش) من غزة، وشهيد خامس من غزة يرفض الاحتلال تقديم معلومات حوله.
لا تتوفر تفاصيل واضحة حول ظروف استشهاد الأسرى الخمسة، سوى أن الاحتلال اغتالهم خلال تصعيده من إجراءاته القمعية على الأسرى من بينها إغلاق عيادة السجن. وذلك ضمن واقع جديد يفرضه على السجون يسعى من خلالها إلى إعادة الأسرى مجرّدين من الحقوق، كما كانوا عليه في أواخر الستينيات. حيث تحوّلت الغرف إلى زنازين، ويمنع الأسرى من زيارات الأهل والمحامين والمؤسسات الحقوقية، وسحبت مقتنيات الأسرى الخاصة، مثل: الأجهزة الكهربائية والكتب والملابس والطعام.
يعايش الأسرى اليوم الذروة من حالة القمع والتصعيد، تنفيذاً لمخطط كان يسعى له الاحتلال منذ زمن، بفرض مزيد من التضييق على الأسرى، من بينها عدم الاعتراف بالبنى التنظيمية لهم. تُعلّق سراحنة: "الأسرى يواجهون التنكيل والضرب والتجويع، وإدارة السجن تستخدم كافة أنواع الأسلحة ضدهم.. كما جُرّدوا من أبسط الحقوق، أهمها الماء والكهرباء".
أسير سابق (يتحفّظ على ذكر اسمه بعد تكرار ملاحقة الأسرى المحرّرين الذين يتحدثون مع الإعلام) تحرّر في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد عامين من الاعتقال، يقول لـ متراس: "منعونا عدة أيام من الاستحمام، ثم تراجعوا عن ذلك، ولكن مع تقليل كمية الماء ومدة تواجدنا في الاستحمام، سحبوا كافة أدوات النظافة منا، كما سحبوا الأجهزة الكهربائية". وأضاف: "إدارة السجن وضعت الكلاب بين الغرف وزادت من عددهم، وتتعمد تكثيف حملات التفتيش في الليل، والتي يتخللها تنكيل وضرب".
هل تسقط فاعلية الاعتقال؟
يردّد الجميع: إنّ الجيش "يتفشش" بعدما انهزم في غزة. فعلى الرغم من حجم وعنف الهجمة الاعتقالية، إلا أن الناس حصّنوا وعيهم منذ اللحظة الأولى، بأن الاعتقالات وما فيها من تنكيل، هدفه ترميم صورة الجيش المهزوم واستعادة هيبته.
هكذا، أُسقطت أداة الاعتقال، من الوعي أولاً، كأداة إخضاع وردع للمجتمع. وسبق أن أثبتت تجربتنا الفلسطينية على مدار السنوات الماضية، أن فاعلية المقاومة لا تخضع للاعتقال كأداة، وإن كانت أحياناً تحاصرها وتُكبّلها لوقت محدود.
ولكنّ اليوم، وأمام تصاعد الهجمة الاعتقالية، يُصبح السؤال عن احتمالية أن تتحول هذه الهجمة إلى سبب يُشعل الضفة، بدلاً من إخضاعها.