شهدت السنوات الماضية تصاعداً في نشاط "منظمات المعبد" الاستيطانيّة التي يقتحم عناصرُها المسجد الأقصى ويعتدون عليه. تحمل "منظمات المعبد" هدفاً بعيد المدى يتمثل بهدم الأقصى كاملاً وإقامة "المعبد الثالث" مكانه، وهدفاً مرحليّاً يتمثّل بتهويد المسجد وفرض الوجود اليهوديّ فيه من خلال تكثيف اقتحاماته وخاصّة في الأعياد اليهودية.
ومع تنامي أعداد المنظمات والحركات الاستيطانيّة التي تروّج لبناء "المعبد" وتعمل على نشر التعلق به1تُعد إقامة "المعبد" مكان المسجد الأقصى المبارك واحدةً من أبرز أفكار اليمين الإسرائيلي، وقد أشار باحثون إلى أن انتشار هذه الفكرة في المجتمع الإسرائيلي، تأتي نتيجة تحولٍ مهم في الفكرة الصهيونية، التي انتقلت من التفسير القومي والعلماني إلى التفسير الديني. وهو تفسير يريد أن يفرض النبوءات الدينية التوراتية كجزءٍ أساسي من تأسيس الكيان الصهيوني، لذلك شكل تأسيس "المعبد" وهو "بيت روح الرب"، أبرز القضايا التي عملت عليها العديد من المنظمات اليمينية. ويدعي من يحمل هذه الأفكار من المستويات الإسرائيلية كافة، أن المسجد الأقصى المبارك أقيم على أنقاض "المعبد" الثاني الذي دمره القائد الروماني تيطس، مستندين على رويات توراتية وادعاءات آثارية لم تثبت على أرض الواقع. فيغدو هدف المنظمات بعيد المدى هدم الأقصى وإقامة "المعبد"، أما مرحلياً، فتسعى إلى تهويد المسجد، وفرض الوجود اليهودي، من خلال اقتحام الأقصى بشكلٍ شبه يومي، ورفع أعداد المشاركين في الاقتحامات، وخاصة في الأعياد والمناسبات اليهودية.، تأسّس عام 2012 "ائتلاف منظمات المعبد"، ليكون الإطارَ التنسيقيّ لأنشطتها. وتُشير بعض الدراسات إلى أن هناك حوالي 40 مؤسسةً معنيّة بنشر فكرة "المعبد" تعمل في مختلف الأطر، الجامعية والشعبية والبحثية وغيرها.2هشام يعقوب (محرر) وآخرون، عين على الأقصى 15، مؤسسة القدس الدولية، بيروت، 2021، ص 61. في هذا المقال، نقدم إطلالةً معلوماتيةً أوليّة حول نشأة هذه المنظمات وجذورها الفكريّة، مع استعراض أبرز أهدافها ونشاطاتها.
"تحضير القلوب" وصولاً إلى بناء "المعبد"
تعود الجذور الفكريّة لـ"منظمات المعبد" إلى جماعة "بريت هابريونيم/ Brit HaBirionim" الاستيطانيّة، وهي حركة شبابيّة دينيّة، أسّسها الحاخام موشيه تسفي سيغال عام 1937، رأت أنّ التجديد القوميّ يعتمد على إعادة تأسيس دولةٍ دينيّة يهوديّة وإعادة بناء "المعبد". وقد تجدّدت هذه الأفكار وأُعيد إحياؤها مع احتلال شطر القدس الشرقي عام 1967.
بعد عام 1967، ظهرت العديد من المنظمات الاستيطانيّة التي ركّزت على تعزيز الوجود الاستيطاني في المناطق المحتلة حديثاً، من أبرزها منظمة "غوش إيمونيم" Gush Emunim، التي أسسها الحاخام موشي ليفنجر، تحت شعار "أرض إسرائيل، لشعب إسرائيل، وفقًا لتوراة إسرائيل". ومع أن هدف الحركة السيطرة على أراضي الفلسطينيين (وقد نجحت فعلياً في ذلك وكان أولى المنظمات التي أسّست المستوطنات في الضفة)، إلا أنّ العديد من أعضائها كانوا مهتمين ببناء "المعبد" وإعادة تأسيس "المملكة التوراتية".
في العام 1984، كشفت شرطة الاحتلال مخططاً لبعض أعضاء "غوش إيمونيم" يستهدف تفجير مصلى قبة الصخرة، فاعتقلت عدداً منهم. أدّى ذلك إلى نقاشاتٍ داخليّة حول طبيعة الحركة وطرق عملها، وهو ما أدّى في النهاية إلى تلاشيها وانتقال عددٍ من كوادرها إلى أطر أخرى، حاملين الأيديولوجيا ذاتها، ولكن ساعين لتحقيقها بأدوات جديدة.
هكذا تحوّل الكثيرون من "نشطاء المعبد" من العمل المباشر لتدمير الأقصى ومصلياته إلى تبني فكرة "اللاعنف" لتحقيق الوجود اليهودي في المسجد تدريجياً. وفي العام ذاته، بدأت أولى المؤسسات المعنية بنشر أفكار "المعبد" بالظهور، ففيه أسّس الحاخام يسرائيل أريئيل "معهد المعبد" (بالعبرية: ماخون هاميكداش)3تُشير المصادر إلى أن أرييل خدم في جيش الاحتلال خلال حرب 1967، وكان عضواً في اللواء الذي اقتحم المسجد الأقصى، وهي الحادثة التي دفعته لتكريس حياته لفكرة بناء "المعبد".. وبحسب الموقع الرسمي للمعهد هو منظمة "تعليمية ودينية" غير ربحية، يعمل على المدى القصير على نشر أهمية "المعبد" لدى الجمهور الإسرائيلي من خلال التعليم، وعلى المدى الطويل يهدف إلى بناء "المعبد" في العصر الحالي.
اقرؤوا المزيد: "تقسيم الأقصى.. ماذا فعلنا حتى الآن؟"
على أثر توقيع اتفاقيات أوسلو والقلق من "فقدان القدس"، عملت "منظمات المعبد" على تعزيز وجودها، وزيادة الوعي بـ"المعبد" في المجتمع الإسرائيلي، خاصّةً داخل القطاع الدينيّ القوميّ، في تطبيقٍ لرؤية المستوطن يهودا عتصيون التي تُقدّم التغيير "من أسفل" الهرم الاجتماعيّ، عبر تغيير الرأي العام ودفعه نحو الاهتمام أكثر بفكرة "المعبد"، وبالتالي أكثر سعياً لبنائه، وتُطلق المنظمات على هذه العملية اسم "تحضير القلوب"، وهو عنوان المرحلة لدى "منظمات المعبد".4Dangerous Liaison-Dynamics of the Temple Movements and Their Implication، مجموعة باحثين، عير عميم، 1/3/2013، ص 28. ومنذ عام 2000 حقّقت هذه المنظمات موقعاً أساسياً في التيارين اليمينيين السياسي والديني، ونسجت علاقات وثيقة مع سلطات الاحتلال، ما أدى إلى زيادة نشاطها، خاصّةً في اقتحام المسجد الأقصى.
ومع تصاعد أجندات "المعبد" في دولة الاحتلال، أعاد 71 زعيماً دينياً يهودياً في تشرين الأول/ أكتوبر 2004 تأسيس مجلسٍ قضائي دينيّ يُعرف باسم "السنهدرين" الجديد.5بحسب موسوعة اليهود واليهودية فإنّ السنهدرين هو بمثابة: "الهيئة القضائية العليا المختصة بالنظر في القضايا السياسية والجنائية والدينية المهمة في المناطق التي كان يعيش فيها اليهود"، وهو أعلى سلطة قضائية لليهود في ذلك الوقت، وله الرأي النهائي في تفسير القوانين وإصدارها. ويتكون المجلس من 71 عضواً وكان مقرُّه مدينة القدس، ويجتمع بحسب المصادر اليهودية في "المعبد". يُعرّف المجلس الجديد نفسه بأنّه "البرلمان اليهوديّ الحاخامي"، ويركّز جهوده على إعادة العبادات والممارسات اليهوديّة إلى "المعبد" وخاصّةً تقديم "القرابين الحيوانية"، والبحث عن حيوانات تناسب "القربان". وقد ساهم هذا المجلس فعليّاً في التدرب على الطقوس التوراتية المرتبطة بـ"المعبد"، التي تمّت بالقرب من المسجد الأقصى خلال السنوات الماضية.
اقرؤوا المزيد: "الأقصى يشتعل في وجه قرابين صلوات المستوطنين".
يعتبر بعض الباحثين أن "السنهدرين" الجديد أصبح المرجعية الحاخامية للمنظمات الاستيطانيّة، فهو يُمثّل تجمعاً لما بات يُعرف بـ"الصهيونية الدينية"، إلى جانب عمله الحثيث لدعم أطروحات "منظمات المعبد"، فمن مشاركة حاخاماته في اقتحام الأقصى، وإرسال رسائل إلى قيادات الاحتلال لإقامة "المعبد"، وصولاً إلى صنع الأدوات الخاصة بالطقوس اليهودية، والتي كان آخرها في أيلول/سبتمبر 2022 عندما أعلن قيادي في "السنهدرين الجديد" أنهم أنهوا صنع بوق "الشوفار" يطابق الشروط التوراتية6وهو البوق الذي يستخدم لإعلان العام العبري الجديد، ويتم نفخه بحسب المعتقدات اليهودية داخل "المعبد".، في سياق التمهيد لمحاولات نفخه في الأقصى بالتزامن مع حلول "رأس السنة العبرية".
أيادٍ كثيرة.. وأهداف متقاطعة
تشير المعطيات إلى أن تركيبة "منظمات المعبد" ليست تقليدية، فهي ليست هرمية على غرار المنظمات والمؤسسات الأخرى، والكثير منها قائم على قدرة مؤسسيها جذب الدعم لها، وتُشير المصادر الإسرائيلية إلى أن معظم مسؤولي المنظمات المتطرفة من حاخامات "الإشكناز الأرثوذكس"، ضمن ما يُعرف بالتيار "الصهيوني الديني". وإلى جانب هؤلاء، يشكل التيار القومي-الديني أبرز التيارات البارزة في هذه المنظمات، إضافة إلى وجود بعض العناصر العلمانية.
ويمكننا تناول أهداف "منظمات المعبد" من منظورين، الأول ما تتضمنه أهدافهم الرسمية، أما الثاني الممارسات العملية على أرض الواقع التي تستهدف الأقصى ومكوناته البشرية.
فيما يتعلق بالمنظور الأول، فإنّ المنظمات الاستيطانية تحمل مجموعة من الأهداف تتلخص بالتالي: "بناء المعبد الثالث"، وهذا هو الهدف الأساسي لكل من: معهد "المعبد"، حركة "تجديد المعبد"، وصندوق "خزانة المعبد"، ومنظمة "نساء لأجل المعبد". "الترويج لفكرة المعبد وتحويله لمركز ثقافي إسرائيلي": تعمل على تحقيق هذا الهدف مؤسسات مثل "المؤمنون بجبل المعبد"، و"هار همور". "منح حقوق العبادة لليهود في جبل المعبد"، وتعمل عليه حركة "حقوق الإنسان في جبل المعبد". "دراسة القوانين الدينية الخاصة بـ "المعبد" وخدمات التضحية": تعمل على تحقيقه مؤسسات مثل معهد "الدراسات المعبدية" في "متسبيه يريشو". "إنشاء الأدوات التي كانت تستخدم في الطقوس اليهودية الخاصة بـ "المعبد": وتقوم عليه مؤسسات مثل معهد "المعبد" - موطن للحرفيين العبريين، "ماخون معايسي هبايت".
أما وفق المنظور الثاني، أي على صعيد الاعتداءات التي تجري على واقع المسجد الأقصى بواسطة هذه المنظمات، فإنّ أبرزها: تثبيت الوجود اليهودي داخل الأقصى عبر اقتحامه بشكلٍ شبه يومي، وحشد أعداد كبيرة من المقتحمين بالتزامن مع الأعياد والمناسبات اليهودية. السعي إلى تقسيم الأقصى، والسيطرة على جزء من ساحاته، ومحاولة اقتحام المسجد من أبواب غير باب المغاربة. فرض الطقوس اليهودية العلنية داخل المسجد، وتنفيذ الطقوس المتعلقة بـ “المعبد"، وخاصة تلك المرتبطة بأعياد يهودية محددة، على غرار الإعلان عن نية تقديم "قرابين الفصح" في شهر نيسان/أبريل 2022.
"إيد واحدة" مع حكومة الاحتلال
على الرغم من كونها منظمات غير حكومية، إلا أنّ الخطّ الفاصل بين نشاطها وبين سياسات سلطات الاحتلال الرسميّة يكاد يكون منعدماً. فقد نجحت هذه المنظمات على مدار سنوات من العمل في فرض أجنداتها على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وعلى مختلف أذرع الاحتلال، من القضاء، إلى الشرطة، إلى الوزارات الحكومية، وغيرها.
على صعيد التمويل، عدا عن جمع التبرعات من جمهور المستوطنين، فإنّ هذه المنظمات تحصل على تمويل من جهاتٍ إسرائيلية رسمية، ففي عام 2015 كشفت صحيفة "هآرتس" أن نائب وزير الأمن الإسرائيلي في حينه تبرّع بمبلغ 50 ألف شيكل إلى "معهد المعبد". وبحسب مصادر إسرائيلية فقد تلقى "معهد المعبد" عام 2015 من حكومة الاحتلال ما يقارب 361 ألف دولار أميركي من وزارة المعارف الإسرائيلية، ونحو 210 ألف دولار أميركي من وزارة الثقافة والرياضة.
وتشير معطيات أخرى إلى تلقي منظمات أخرى مبالغ كبيرة من مختلف الوزارات الإسرائيلية، بهدف تقديم محاضرات وتنظيم فعاليات للطلاب والشباب الإسرائيليين، لتعريفهم بقضايا "المعبد. وهو مؤشر عن حجم انخراط الحكومات الإسرائيلية في دعم المنظمات الاستيطانية العاملة في تهويد الأقصى، ليس على مستوى تأمين الدعم الأمني والقانوني، بل والمالي كذلك.
وعلى صعيد الدعم السياسي، فإنّ اقتحام المسجد الأقصى بات واحداً من أدوات الجذب الانتخابي لدى جمهور واسع من المستوطنين، وهو ما جعل عدداً من الشخصيات السياسيّة الإسرائيلية تتماهى مع "منظمات المعبد"، وتحرص على اقتحام المسجد، والمشاركة الفاعلة في مؤتمرات تلك المنظمات، ودعم أطروحاتها.
اقرؤوا المزيد: "القدس بعد عامٍ على هبّتها: كيف يُصانُ الأمل؟"
وعلى صعيد الدعم الأمني، فقد عملت "منظمات المعبد" على تمتين علاقاتها مع شرطة الاحتلال، وحرصت على نسج علاقات مع ضباط كبار في شرطة القدس، وقد انتهت هذه الجهود إلى ما يمكن وصفه بأنّه علاقة "تكامل وتفاهم" بين الطرفين.7هشام يعقوب (محرر) وآخرون، عين على الأقصى 15، مؤسسة القدس الدولية، بيروت، 2021، ص 85 و86. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت شرطة الاحتلال الأداة الأساسية التي من خلالها يفرض المستوطنون أحنداتهم في الأقصى، إذ يوفر عناصرها الحماية للمستوطنين لأداء الطقوس اليهوديّة، عن طريق تشديد الإجراءات على بوابات الأقصى، ومنع المسلمين من دخوله، واستهداف المرابطين وحرّاس الأقصى بالاعتقال والضرب والتنكيل.
ختاماً، لا يمكن استعراض تطور عمل "منظمات المعبد" من دون المرور على ما استطاعت تحقيقه في السنوات الماضية، وتحقيقها قفزات إن في أعداد مقتحمي المسجد الأقصى، أو في حجم الاستجابة السياسية والأمنية والقانونية مع أطروحتها، ما يؤكد أنها استطاعت إحداث اختراق نوعي في البنية المجتمعية والسياسية الإسرائيلية على حدٍ سواء. وهو ما تمظهر في قدرتهم على تطوير أدواتهم، إن في سياق الاعتداء على المسجد الأقصى، فقد عملوا على ترسيخ تقسيم الأقصى زمانياً، ثم حاولوا تقسيمه مكانياً، وصولاً إلى فرض الطقوس اليهودية داخل المسجد الأقصى، كما شهدنا في عيد العرش هذا العام، ورفع حدة أدائها وكثافتها. أما السياق الثاني فهي تمثيلها على الساحة السياسية الإسرائيلية، وتحولها إلى لاعب في انتخابات "الكنيست" وترجيح كفة ائتلاف للأحزاب يكون داعماً لها ولأجنداتها.