في أغسطس/ آب 2020، أعلن مدون الفيديو نُصير ياسين (28 عاماً)، الشّهير بـ"ناس ديلي"، عن مسابقة وبرنامج تدريب يحمل اسم "ناس ديلي القادم"، تُشرف عليه الأكاديميّة التابعة لشركته في سنغافورة "أكاديمية ناس"، وتموّله أكاديمية "نيو ميديا" الإماراتيّة التي أسسها حاكم إمارة دبي، محمد بن راشد، في يونيو/حزيران الماضي.
يهدف هذا البرنامج التدريبيّ كما يُشير اسمه إلى صناعة مشاهير جدد يسيرون على درب ياسين يبثّون رسائلَهم عبر منصات التواصل الاجتماعيّ. يستوعب البرنامج 80 صانع محتوى عربيّ، يتدربون على مهارات إنتاج الفيديوهات، واختيار المواضيع طيلة 6 أشهرٍ تنتهي بمسابقة لاختيار "أفضلهم". خلال ذلك، يُمنح المتسابقون راتباً شهريّاً، وبينما تتولّى الأكاديميّة إنشاء حساباتٍ لهم على منصات التواصل وإدارتها، يتربّح ياسين من "الاستثمار" في الفائز بلقب "ناس ديلي القادم"، دون إيضاح تفاصيل ذلك.
أثارت هذه المسابقة تحركاً عربيّاً، إعلاميّاً بالذات، دعا إلى مقاطعة البرنامج التدريبيّ، وإلى مقاطعة ياسين نفسه، والتحذير من خطابه الذي يُساهم في تطبيع وجود "إسرائيل" في قلوب وعقول الملايين من متابعيه العرب وغير العرب. حركةُ مقاطعة "إسرائيل" BDS، التي قادت الحملة ضدّه، قالت إنّ ياسين "يهدف من [خلال البرنامج] لتوريط المشاركين في التطبيع مع إسرائيل والتغطية على جرائمها".
"ناس ديلي القادم".. استنساخ الدُمية
"أنا أبحث عن العرب مثلكم"، كان عنوان الفيديو الترويجيّ الذي كشف فيه ياسين عن مرحلةٍ جديدة يخوضها في تجربته على "السوشال ميديا"، أو لنقل في صناعة الدعاية، في مسارٍ شهد تطوراتٍ وقفزاتٍ سريعة، شقّه من عرّابة شمال فلسطين، مروراً بأميركا، ووصولاً إلى سنغافورة. على مدار ذلك المسار، لعب ياسين على وتر ملامحه الشرقيّة وانتمائه إلى منطقة الشرق الأوسط في محاولة لاستمالة "المُحبطين" من أبناء العرب، كأنّه يقول إنّه وإياهم في "الهمّ" سواء.
لا يُدرّب ياسين المشتركين بنفسه، بل هو مُجرّد واجهةٍ فيما يتولّى إدارة التدريب إسرائيليّ اسمه يوناتان بيليك Yonatan Belik، خدم في جيش الاحتلال الإسرائيليّ، وتولّى مهمّة تحفيز طلبة الثانويّة في "إسرائيل" على الالتحاق بالجيش. ولبيليك تاريخٌ بارز في تنسيق الأنشطة التطبيعية ضمن منظمة "بذور السلام - Seeds of Peace"، كما أدى دور سفيرٍ ثقافيّ لـ"إسرائيل" ضمن جهاز الدعاية والبروباغاندا الإسرائيليّ "هاسبارا".
يضُمّ الفريق أيضاً المدرّبة الإسرائيليّة أليا فاستمان، وهي إسرائيليّة أمريكيّة تركت الولايات المتحدة لتخدم في جيش الاحتلال، وتنشط في مجال التدوين للترويج لـ"المطبخ الإسرائيليّ". وبالطبع حبيبته الإسرائيلية ألين تامير، التي تشغل منصب رئيسة التسويق في شركته.
وهكذا فإن المشاركين في المسابقة يخضعون لإشرافٍ وتوجيهٍ مباشر من مُدرّبين إسرائيليين، لديهم سوابق في النشاطات التطبيعيّة والترويج لمفاهيم السّلام والتعايش، ويبدو أنّهم سيستغلون أحلامَ النجوميّة عند صناع المحتوى لتطويعهم وتطبيع "إسرائيل" في وجدانهم. كما أنّ إشراف الأكاديمية على حسابات المشاركين وفق إعلان ياسين، يضع علامات استفهامٍ حول مصيرها، وحول شكل القيود والخطوط الحمراء التي ستُوضع على ذلك المحتوى.
وقد تقدّم عدّة مدوّني فيديو عرب للمسابقة، ونشروا مقاطع توضح دوافعهم لذلك. ومن جولة على بعض هذه الفيديوهات، يُلاحظ صغر سنّ المتقدّمين (بعضهم لم يتجاوز 14 عاماً)، وقلّة عدد المتابعين عند معظمهم، ورؤيتهم لنُصير كقدوةٍ تُحتذى، والفرصة التي يُقدّمها كفرصةً لا تُفوّت لتحقيق مطامحهم بالنجوميّة.
على إثر حملة المقاطعة، سحب البعض تقديّمهم للمسابقة، وظهروا في مقاطع فيديو يوضحون أنّهم كانوا يجهلون حقيقة ياسين، وحثّوا آخرين على الانسحاب. ومن الملفت أن أحد المدونين اليمنيين (والذي لديه أكثر من 260 ألف مشترك في قناته على "يوتيوب") قال إنّه لم يتقدم بطلب لهذه المسابقة، إلا أن "أكاديميّة ناس" بادرت بالتواصل معه وإدراج اسمه. يُشير ذلك إلى سعي المسابقة لاستدراج مدوّنين مشهورين ومحاولة التأثير في خطابهم.
مشوار التطبيع من عرّابة إلى سنغافورة
في العشرين من عمره، غادر ياسين إلى الولايات المتحدة ليدرس بمنحةٍ دراسيّة في جامعة هارفارد. حسب ادعائه، فإنّ ما ساعده في الحصول على القبول والمنحة هو مقالة كتبَها للجامعة حول ما يُسمّيه "الصراع الذي يخوضه بصفته عربيّاً داخل إسرائيل". وقد دعمته في ذلك كاتبةٌ أميركيّةٌ يهوديّةٌ تُدعى مارثا مودي، تعرّف عليها ياسين خلال نشاطِها في منظمة Dayton Jewish الصهيونيّة، حيث عملت في تنسيق زياراتٍ لوفود يهوديّة لمدارس البلدات الفلسطينيّة في أراضي الـ1948.
في أكثر من مرّة، قال نُصير إنّ دافعه للهجرة كان ضيق الأفق أمامه لأنّه عربيّ. وضمن محتواه الذي يتراوح بين السياحة والقضايا الاجتماعيّة، والترويج لكليشهاتٍ ممجوجة عن الحياة والنجاح والعلاقات والتغيير، وأحياناً الاستشراق، يُكرر ياسين أنه لم يحتمل الحياة في بلدته الصغيرة عرابّة البطّوف في الجليل الأدنى في الأراضي المحتلة عام 1948، وسعى جاهداً لمغادرة الشرق الأوسط الذي "يكرهه بشدة".
بعد تخرّجه بشهادةٍ في الاقتصاد، عمل نُصير في فرعٍ لشركة "PayPal" في نيويورك كمهندس برمجيّات براتبٍ يتجاوز 120 ألف دولار سنويّاً. يُكرّر نُصير تفاصيل دخله المرتفع وحياته الصاخبة في نيويورك في كثيرٍ من فيديوهاته. ثمّ بابتسامة مصطنعة، وبديباجة تحاكي عرّابي "التنمية البشرية"، يحكي قصّة تخلّيه فجأة عن كل هذه الإنجازات في 2016، بحثاً عن "إرثٍ يُخلّفه بعده" حيث النجاح الأسطوريّ يقف على بُعد قرارٍ واحدٍ منك بـ"التغيير".
بدأ هذا "الإرث" بمشروع الألف فيديو، فطيلة ألف يوم انتهت مطلع 2019، سافر نُصير بين 64 دولة وأنتج ألف فيديو بطول دقيقة واحدة. تنوّع محتوى هذه الفيديوهات، فشمل تعريفاً ببعض البلدان، أو مقابلات مع شخصيّات شهيرة وهامّة، أو ترويجاً لمشاريع ما.
مثلاً، خلال هذه الفيديوهات قابل ياسين مؤسس "فيسبوك" مارك زوكربيرغ، وأعلَن بعدها عن شراكة بينهما. كما كان في إحدى هذه الفيديوهات واجهةً للترويج للمشروع الإسرائيلي "مدينة بلا عنف" الذي يدعي العمل على "محاربة العنف في القرى العربيّة". كما استضاف في إحدى هذه الفيديوهات الإسرائيلي شاي رشيف، مؤسس جامعة الشعب الإلكترونية University of the People.
وبعد الألف يوم، وبرصيد متابعين يتجاوز الـ11 مليون، أطلق ياسين شركة "The Nas Company" في سنغافورة لإنتاج الفيديوهات تحت شعار "نحن أداةٌ للخير". وبينما يدّعي ياسين على موقعه أن الشركة أسست في 2019، فإن صفحة الشركة على موقع Linkedin تشير بوضوح إلى تأسيسها في 2016، أي بالتزامن مع بداية إنتاجه الفيديوهات القصيرة.
وإمعاناً في بناء نفوذه الإعلاميّ أصدر نُصير أيضاً كتاباً، ولديه اليوم 10 صفحات على "فيسبوك" بعدة لغات، منها الإندونيسية والتايلندية. وعلى موقعه نجد صفحةً مخصصة لعرض "إنجازاته" بالأرقام، يسجّل فيها رصيداً من 6 مليار مشاهدة لأكثر من 1200 فيديو، و3 ملايين دقيقة مشاهدة يومياً، و25 مليون متابع على مختلف الحسابات تجلب له مشاهداتهم شهريّاً أرباحاً بعشرات آلاف الدولارات، وفريق عمل يضم أكثر من 10 أشخاص، وأكاديمية انطلقت في 2020 تضمّ عشرات المدرّبين، وبرنامج بودكاست.
أداة لـ"إسرائيل" وللمطبّعين معها
لم تكن الحملة ضد "ناس ديلي" كيديّة، ولا رغبةً من "العربيّ الفاشل" في استهداف "العربيّ الناجح" كما يدّعي، بل قامت للتحذير من شخصٍ قّدم منذ أيّامه الأولى خطاباً يعمل على تبييض صورة الاحتلال الإسرائيليّ، وترسيخ فكرة أن استعمار "إسرائيل" لفلسطين هي مسألةٌ تاريخيّةٌ انتهت بـ"مقتل بعض الفلسطينيين، ومغادرة آخرين"، وأنّ الواجب اليوم هو تقبّل حدود فلسطين و"إسرائيل" الحاليّة، أما ما نشهده من عنفٍ استعماريّ مُستمرّ، حسب "ناس ديلي"، فإنّ الفلسطينيّين والإسرائيليّين يُلامون فيه بالتساوي.
وفي مراجعة لهذا الخطاب، نجد فيديو له من القدس المحتلة عام 2017، يروّج للتعايش، ويعرض فيه رؤية "صديقه الإسرائيلي" للسلام، ومشاهد مسرحيّة لإسرائيليين وفلسطينيين يلعبون الطاولة ويرقصون سويّاً ويحتضنون بعضهم البعض!
في فيديو آخر، وبالحماسة المزيّفة ذاتها، روّج لـ"إسرائيل" كبلدٍ آمنٍ للسياحة، وفي ثالثٍ دعا متابعيه الإسرائيليين لزيارة بيت عائلته في عرّابة، ليُثبت أن البلدات العربيّة "آمنةٌ وترحّب باستقبالهم". يمضي ياسين قُدماً في محاولة إثبات هذا الادعاء، من خلال الاتفاق مع حاخام إسرائيليّ ليتجوّل في البلدات العربيّة بينما تلاحقه في الخفاء كاميرا "ناس"، ليرى المشاهدين كيف يقضي الحاخام يومه دون أن يتعرض له أحد.
يُثير كمّ الموارد والتنسيق ومستوى الإنتاج العالي الذي قدّمه نُصير منذ بداية ظهوره، الشكوك حول حقيقة أنه يعمل مُنفرداً ولا يحظى بدعمٍ رسميّ، وهو ما أشارت له حركة BDS بالقول إن "ناس" يحظى بدعم حكومة الاحتلال، وتأتي جهوده ضمن حملة "Brand Israel" التي تحاول فيها دولة الاحتلال إعادة تقديم نفسها وتغيير الصورة المعروفة عنها.(رغم أن هذه الحملة انتهت منذ بضعة سنوات).
ومنذ أيامه الأولى حظي نُصير باحتضان وتقدير الإعلام الإسرائيليّ، وعرضٍ للعمل في إحدى القنوات الإسرائيليّة، وتبنى توجّه دولة الاحتلال فهاجم حركة المقاطعة، وهاجم دولة الكويت لعدم تطبيعها مع الاحتلال، زاعماً أنه لم يسبق أن يتعرّض لمتاعب في الغرب بسبب كونه عربيّاً أو مسلماً، إنما يواجه مشاكل في العالم الإسلاميّ بسبب جواز "السفر الإسرائيليّ".
وأمّا علاقته مع الإمارات، فقد بدأها بشكلٍ رسميّ قبل توقيع اتفاق التطبيع بأشهر، وتحوّل الشخص الذي انتقد الديكتاتوريات العربيّة سابقاً نحو تمجيد الإمارات وشعبها والدعوة للسياحة فيها بشكلٍ مكثّف. في أحد مقاطعه، يقول ياسين إنّ الكثير من العرب في الإمارات يبدون هكذا: ويظهر شُبّاناً إماراتيين يرتدون "الكندورة والغترة" الإماراتية، ويُتابع: "بينما تُظهرهم الأفلام غير ودودين هكذا"، ونرى على الشاشة مشاهد درامية لشبان مسلّحين أحدهم يرتدي الكوفية الفلسطينية!
مع توجّه بعض دول المنطقة للتطبيع الرسميّ مع الاحتلال، ليس من المغالاة التشكيك في دوافع ياسين، فهو يقدم نفسه كنموذجٍ حيّ على إمكانية التطبيع والتعايش مع "إسرائيل"، نموذجٍ للعربيّ المسلم أسمر البشرة (كما يُحب أن يكرّر)، الذي لديه أصدقاء إسرائيليون، وحبيبة إسرائيليّة، متكئاً على ملامحه الشرقيّة ولكنته الأميركية معاً كباب للوصول إلى جماهير أكثر.
لا يقف دور "ناس ديلي" عند تجميل "إسرائيل" وطمس آثار إجرامها، بل يتجاوزه لتحميل الفلسطينيّ مسؤوليّة ما يُعانيه اليوم، مُساهماً في حملة شيطنة الفلسطينيّ ونضاله، والسعي إلى حصاره. كما أنّ خطره هذا يُنبّهنا إلى الخطر المتصاعد الذي تحمله لنا موجة "صناع المحتوى" على الإنترنت، وانتباه الحكومات والاحتلال لهم لتطويعهم واستخدامهم أدوات دعاية.
وبينما يستعد ياسين لافتتاح مكتبٍ في دبيّ، وغسل دماغ 80 شاباً عربيّاً قد يتحولون إلى مواكن تطبيعٍ جديدة، تقف حملات توعيةٍ بسيطة في مواجهة آلة دعايةٍ إسرائيليّة، تُقّدم "نجاحات" ياسين والرفاهية التي يحظى بها كوعدٍ كاذب لما يمكن أن يحظى به العربيّ الذي يقبل "إسرائيل" ويُقبل عليها. لكن ما تخفيه هذه الظاهرة هي حقيقة أن التطبيع مع "إسرائيل" علاقةٌ مصلحيّةٌ يجني فوائدها طرفٌ واحدٌ دوماً، وهو "إسرائيل"، والنظر إلى النماذج التاريخية يُثبت ذلك.
وحين يُحذّر الداعون للمقاطعة من خطر التعامل مع "ناس ديلي" ومشاريعه، فإن ذلك ليس بدافع مناصرة الفلسطينيين وقضيتهم فقط - على أهميّة هذه المناصرة-، بل تنبع ضرورة المقاطعة أيضاً من خطورة "إسرائيل" وحلفائها على البلدان التي قدم منها المشاركون أنفسهم، إذ تحرص تل أبيب على إبقاء الحروب مشتعلة في المنطقة، وتدعم الديكتاتوريات في خنق أيّ حراكٍ عربيّ صادقٍ ساعٍ للحريّة والاستقلال. واليوم المؤثر الذي يضع حساباته وقنواته تحت رحمة أكاديميّة "ناس ديلي"، يكون مساهماً دون أن يدري بتعزيز هيمنة "إسرائيل"، مع إلزامه بالصمت عن سياساتها وحرمانه من القدرة عن مناصرة قضايا شعبه، عدا عن نُصرة القضيّة الفلسطينية.