لم تسبق لي تجربة مع الممارسة الجنسية المثلية رغم أنني ولدت ونشأت في نابلس. وأغلب ظني أن هذا الشيء موجود في نابلس بقدر ما هو موجود في غيرها، إلا أن مؤلفي النكت يحتاجون دائماً إلى عنوان ثابت لكل خصلة بشرية.
على أن هناك قوالب جاهزة أخرى يمكنني التحدث عنها حديث العارف.
نسيت اسم ذلك النابلسي الذي كان إذا أكل أوقية كنافة في السوق عاد إلى بيته ودفع لزوجته ثمانية قروش حتى لا يكون استأثر دونها بمتعة من متع الحياة.
القصة تمثل الرجل النابلسي جيداً، فهو أنيس وودود وبيتوتي، وله في المطبخ باع، وله في بيته عيشة ولا يتخذ منه فندقاً.
عاش النابلسي بضع مئات من السنين صاحب دكان أو تاجراً أو إقطاعياً أو وسيطاً بين أهالي القرى المحيطة بالمدينة وبين أهل المدينة، أو معلماً أو فقيهاً متوسط العلم، أو عاملاً يحمل على كتفه قصعة يترجرج فيها سائل يغلي وتنبعث منه رائحة مؤذية ويحاول أن يصير صابوناً، أو خادماً يسعى في حاجات أهل الثروة ويعيش من فتات موائدهم، أو مزارعاً يستنبت الخضار من البساتين التي كانت حتى عهد قريب تملأ الوادي بين جبلي نابلس الشهيرين عيبال وجرزيم وترتوي بمياه الأمطار ومجاري البلد.
لم يعرف النابلسي الوظيفة الحكومية ولا دخل عالم السياسة إلا متأخراً. وما نشهده اليوم من قلة واضحة في الساسة ورجال الحل والعقد النابلسيين يعود جزئياً إلى هذا الماضي. فقد كانت نابلس دائماً مدينة ثانية أو ثالثة، فالقدس عاصمة سياسية تاريخياً، ويافا جعلها البحر كبيرة ومهمة، وغزة جعلتها النكبات حاضرة إقليمها. لذا ظلت الابن الثاني الذي لا يرث وجاهة أبيه.
قل في نابلس من اشتغل بسياسة البلاد، لكن تكونت فيها زعامات محلية تدافع عن مصالحها المحدودة. وذابت هذه الزعامات بذوبان الإقطاع. وظل المجتمع النابلسي مجتمع عائلات قليلة العزوة، فلم تتماسك العائلات في تشكيلات واسعة على هيئة عشائر يتزعمها أفراد يتحولون إلى زعماء مرموقين ذوي أتباع كثر كما شهدنا ونشهد حتى اليوم في الخليل مثلاً. ونابلس كانت دائماً بعيدة عن البداوة في الجغرافيا والطبائع.
أتحدث هنا عن مجتمع نابلس المدينة. ولا بأس قبل استئناف هذا الحديث من أن نلم إلماماً بأثر نكبة 1948 التي جاءت إلى المجتمع النابلسي بآلاف اللاجئين الذين لم يستوعبهم النظام الاجتماعي- الاقتصادي للبلاد فظلوا مجتمعاً هامشياً يتمتع بعلاقة غيظ متبادلة مع سكان المدينة. ولم تزد نكسة 1967 من هذا الاحتقان، بل ربما خففته قليلاً لأن سكان المخيمات استفادوا من العمل في إسرائيل مالاً حسنوا به حياتهم ووفروا لأبنائهم تعليماً أفضل.
ربما تكون نابلس قد شهدت في الأربعين سنة الماضية هجرة من الريف ومن المخيم أكثر مما شهدته في قرون كثيرة. وقد بدأنا نرى اختلاطاً بالتزاوج فيما بين أبناء الجيل الثاني والثالث من وافدي القرى والمخيمات من جهة، وبين أهل المدينة من جهة أخرى.
لكن هذا الاختلاط يظل أقل بكثير مما نشهده في مدن أخرى في الضفة الغربية. ومن هنا جاء الوصف النمطي –ولعله صحيح– بأن نابلس المدينة تبغض أهل الريف والمخيم. وهم يبادلونها صاعاً بصاع.
نعود إلى أهل نابلس التي كانت؛ نابلس ما قبل الانقلابات الاجتماعية الأخيرة.
أسلفنا الحديث عن الرجل النابلسي. أما المرأة النابلسية فهي حكاية.
تفحصت عمة أبي الخضراوات التي ابتاعها من السوق رجل البيت، واكتشفت حبات تالفة فقالت له: أصحاب الدكاكين في "سوق البصل" يروْنك قادما من بعيد، فيقول بعضهم لبعض ها قد جاء أبو زياد فهلم نستعد "لنضحك" عليه ونغبُنه. وصار قولها طرفة من ميراث العائلة. وقد سمعت منها، ربما مئات المرات، تلك الدعوات المنمقة من قبيل "سبعين عين تطرقك".
المرأة النابلسية قوية الشخصية، ولها يد طولى في سوس بيتها واتخاذ القرارات في شؤون أهله، وإن أدى ذلك إلى مناكفة رجلها الوديع. وهي ذات فصاحة ولَسَن، ولها معجم مستقل من الكلمات والتعابير والشتائم والأمثال والدعوات للآخرين وعليهم لا يستخدمها الرجال.
وأنصح لكل من يفكر في الزواج بامرأة نابلسية أن يتأهب، فهي ليست سهلة. لن يستطيع أن يشكمها بعد الزواج بحجة أنه الذكر وكفى. هذه الحجة تعرفها النابلسية وهي طفلة وقد دحضتها أمها وجداتها من زمان. المرأة النابلسية رمال متحركة، فلا يدخلن فيها إلا من رضي بالاستقرار في داخلها والسير على قانونها.
هذه على الأقل حصيلة مشاهداتي.
ليس النابلسي مادة صالحة للتحول إلى قبضاي. إنه بالأحرى شخصية مفاوضة تسعى إلى التفاهم. وهو يميل إلى التنفيس عن غضبه بالكلام، وبتعزية الذات، وبقبول الوضع القائم.
ونابلس قد أسبغ عليها لقبها الشهير "جبل النار" ما لا تملك. هي بالأحرى طفل وديع يغفو بين ثديي أمه. ولئن صحت أقوال بعض الأنثروبولوجيين عن وعورة أخلاق أهالي الجبال وسهولة أخلاق أهالي السهول فإن نابلس كانت دائما وادياً، ولم تتسلق عماراتها سفوح جبليها إلا في العقود الأخيرة. وأما ثورة عام 1936 التي جاء في خضمها اللقب فقد كان الفاعل فيها ريف نابلس، وأما المدينة نفسها فاكتفت بنـزع الطربوش ولبس الكوفية بعض الوقت لتمويه تحركات الثوار على القوات البريطانية المحتلة.
نابلس جالسة في قاع زبدية كبيرة. ومن أي مكان من المدينة تستطيع رؤية أربعة أخماسها بيتاً بيتاً. وإذا سألك أحدهم عن بيت أبي فلان فما عليك إلا أن تصحبه إلى الشرفة وتشير بيدك.
لم يكن للقلة من الأزهريين الذين عادوا إلى مدينتهم أثر بارز في رفع شأن العلوم الدينية في البلد. على أن نابلس أحبت المعرفة. ربما كان اكتساب التعليم ترفاً تمتع به أبناء وبنات الأغنياء لعدم وجود وجوه استثمار أخرى في النصف الأول من القرن العشرين. وصار المتعلمون الأوائل ذكوراً وإناثاً قدوة. وبالعدوى تعلم كثيرون تعليماً عالياً.
وكانت المكتبة البلدية التي أنشئت عام 1961 أكبر مكتبة في الأردن لعدة سنوات، وما زالت مكتبة مهمة. وكان يرتادها كثيرون من غير الطلبة. وأمثالي ممن تجاوزوا الخمسين يصرون على أن عصر الانحطاط الحالي جعل رواد المكتبة يقتصرون على الصبية الذين يأتون إما للتسلية، أو لاجترار كتب مدرسية يحضرونها معهم ليساعدهم هدوء المكتبة على حفظ ما فيها.
رأيت رئيس بلدية نابلس حمدي كنعان يزور المكتبة في أواخر الستينات وكان معه لفيف من كبار الزوار. وبعد أن تجول مع ضيوفه بين الرفوف برفقة أمين المكتبة، اتجه نحو الباب وبيده كتاب إنجليزي اختاره أثناء جولته. عند الباب تصدّت له موظفة درج الإعارة، وألزمته أن يقدم لها الكتاب لكي تسجله. ودار بينها وبينه حديث، وقال لها رئيس البلدية إنه بالتأكيد سيعيد الكتاب فأين المشكلة؟ وأفهمته الموظفة بابتسامة عذبة أن القانون هو القانون. هذا موقف شهدته بعيني وترك في نفسي شيئاً.
وصلت نابلس ومعها أجزاء كثيرة من فلسطين إلى لحظة الإحساس بلذة أن يكون هناك قانون. لكنه كان حلم ليلة صيف.
من مكتبة بلدية نابلس استعرت كتب كثيرين من أبنائها: عادل زعيتر، مترجم مونتيسكيو وفولتير، وأحد أساطين التراجمة في العصر الحديث؛ وأكرم زعيتر المؤرخ والخطيب؛ وفدوى وإبراهيم وقدري طوقان وثلاثتهم عاشوا وماتوا في نابلس وأثروا في أهلها وفيما أبعد من ذلك بكثير؛ وسحر خليفة الروائية المهمة.
يدهشني التناقض بين شخصيتي فدوى طوقان وسحر خليفة. فالأولى كانت غاية في الوداعة والرقة، وكانت شاعرة بكل معنى الكلمة، والثانية امرأة نابلسية بحسب النموذج الذي رسمته – محقاً أم مفترياً -، مقدامة وذات شخصية قوية وصاحبة رؤية أدبية جريئة وأصيلة.
وقد عرفت فدوى طوقان بعض المعرفة، وقصّت علي قصتها المشهورة عن أبيها المتجبر الذي حرمها التعليم الرسمي. ولكنني أميل إلى تصديق عجائز نابلس اللائي يقلن إن الأمر لم يكن كذلك، وإن فدوى كانت تبالغ لتستدر العطف. من يدري! فقد عاشت فدوى طوقان حتى خنقت الثمانين ونيفت، وصارت روايتها عما حدث المصدر الوحيد. لذا رأيت أن أسجل رأي عجائز نابلس لأنهن محرومات من وسائل الإعلام.
للهجة النابلسية من يتذوقها. وأكثر الناس غراماً بها مثقفو القرى المجاورة، الذين يرونها مخلوقاً عجيباً لأنه شديد التميز. فلهجات القرى في طول فلسطين وعرضها تفقد التميز لاشتراكها مع بعضها البعض في كثير من المفردات وطريقة النطق. ولهجات العديد من المدن تلونت بفعل الاختلاط. وبقيت في الضفة – وربما في فلسطين - لهجتان شديدتا التميز: لهجة الخليل ولهجة نابلس.
اللهجة النابلسية فيما رأيت وسمعت أعصى على التقليد من أختها الخليلية. ربما لأن اللهجة الخليلية اشتهرت أكثر، واتخذت مادة للتندر في منطقة واسعة بسبب الهجرة الخليلية المبكرة للقدس ورام الله.
أبرز ما يطرق الأذن في لهجة نابلس توزيع النبر على مختلف مقاطع الكلمة بما يقرب من التساوي. وهذه الميزة تجعل وقع اللهجة يوحي بالبلادة والبطء. لا بل إن اللهجة العتيقة تجعل كل مقطع من الكلمة ينطق مع بعض الانفصال الصوتي عن المقاطع الأخرى. ومما يلاحظه المرء بسرعة الإمالة في أواخر الكلمات بحسب نظام معين. فأنت تقول شرقَه بفتح القاف إشارة إلى الحي الشرقي من المدينة، فإذا أردت أن تشير إلى الحي الغربي قلت (غربِه) بكسر الباء. وتصف ألوان شنطتك فتقول إنها شنطة صفرَة بفتح الراء، وسودِه بكسر الدال. والنون والهاء مكسورتان، ومن هنا فضيحتنا الكبرى، فالحرفان زبونان كثيرا التردد على أواخر الكلمات في هيئة ضمائر لا مهرب منها: (إحنِه عِنّهِ لهجِة ما إلهِه مسيل) والمسيل هو المثيل. فلا وجود للثاء ولا للذال ولا للظاء ولا للقاف في لهجة نابلس العتيقة التي تجدها الآن على ألسنة قليلين في البلدة القديمة وبين أبناء الطائفة السامرية الذين حفظوا اللهجة في أصفى صورها.
ونزيد همزة في أوائل بعض الكلمات: (أبدوش ييجي؟ إِوين راح؟) (بمعنى: ألا يريد أن يأتي؟ أين ذهب؟). ونقول مخاطباً الرجل (بدكيش تروح)، ونخاطب البنت بنفس الصيغة: (بدكيش تروحي). فبدكيش للمذكر والمؤنث سواء بسواء ولو كره الآخرون.
ولنا غرام -من بين الحركات الثلاث- بالضمة: فالفُلفُل عندنا مضموم الفاءين. والأفعال تتزين بالضمة في المواضع التي لا يتوقعها أحد.
عندما وقفتُ أمام شباك مكتب التسجيل في جامعة بيرزيت قبل خمس وثلاثين سنة قالت لي الموظفة: إيش بدك؟ فقلت لها: بدي أحجُز (بضم الجيم)، فانفجرت ضاحكة، وأدركت أن الذي تراه من فتحة اللوح الزجاجي رأس نابلسي طازج.
انتقلت عن نابلس بعد أن بلغت الثامنة عشرة، وصرت أزورها بعد ذلك مرة في السنة أو مرتين، لذلك فإن كلامي إنما يصور انطباعاتي عن تلك المدينة في زمن معين. أما ما جرى عليها في العقود الأخيرة فلم أرصده بما يكفي لوصفه.