23 مارس 2023

الحَرَم.. من أيام شيخ البرّ والبحر

الحَرَم.. من أيام شيخ البرّ والبحر

كانت المَزاهرُ إذا ما دُقّت مُكمشةً بأكف أصحابها السَخيّة، جاوبها طنينُ طبل الحَضرةِ ورنين كاسات زُهّاد التكيّة. بينما خير الله الأفغاني، يجيشُ حالُ بَدنهِ قبل صوتِهِ بذكر اللهِ، لتمتلأ حُلوق المتحلقين من حوله، بشجى المديح والتواشيح، التي ظلّت مدموعةً ومسموعة من بحر أرسوف غرباً، وشرقاً حتى غابة العبّوشيين1أو غابة العبابشة نسبةً إلى قرية كفر عبوش الواقعة شرقي قرية الحرم.، إنه ليّل برّ الحَرم ودروايشهِ القادريين.

وفيما غَلقُ نوافذ تكية الحَرم، ظلَّ يجعلُ لرهو2يُقال عن موج البحر الساكن الرهو. راجع: ابن جبير، أبا الحسين محمد بن أحمد، رحلة ابن جبير، دار صادر، بيروت، ص 285. البحر هديراً في مسامع من بداخلها، كان بحّارة يافا خارجاً، يلجّون ظُلمة عَتم البحر وعباب موجِهِ ليّلاً، متشفعين من على جُروم صيدهم بابن عليم شيخ ريّاس البحر، مُنشدين له: 

كل ما يشدوا المحامل
للبحر قلبي يِهيم
واسعى وازور الحَرم
واشكيلك يا ابن عليم
وإن صابك يا ابني ضيم
نادي ع الولي:
سيدي يا علي.... سيدي يا علي

كان ذلك من ليل بحر الحَرم وبحّاريه، الذين اعتبروا أنّ حَرمهم مولودٌ في البحر جرى وصله برزخاً بأرض البلاد لا العكس. فلكلِّ مدينةٍ أو قريةٍ فلسطينيّةٍ مقامٌ أو مزارٌ فيها، إلا سيدنا علي كان "حَرماً" له قرية، مثلما له مذبحٌ وتكية ومطبخ فيه. وظلّت القرية تُعرف بالحَرم من حَرم سيدنا علي، إلى أن اُنتزِعت منه في عام النكبة، ليبقى الحَرم محروماً من أهله إلى يومه هذا.

على مرمى حجرٍ من البحر

إلى الشمال من مدينة يافا، وعلى بعد ما يقارب 17 كم على سيف البحر منها، يقعُ حَرمُ مدفن علي بن عليم (عليل).3هو علي ابن عليّل، بينما التسمية الشعبية الدارجة له كانت علي ابن عليم. تتوسط بينهما قرية إجليل، والتي مثلها كان الحَرم وما يزالُ يقوم فوق تلةٍ رمليّة يُطلّ منها على البحر غرباً مسافة مرمى الحجر. وحرفيّاً كان إذا ما رمى أحدُ زوار الحَرم حجراً إلى الغرب منه سقط في البحر. 

أما من شرقيه، فكانت قريته التي استعارت اسمها منه "حرم سيدنا علي". بينما من شماله الغربيّ، تقع خرائب مدينة أرسوف المأسوف على خرابها منذ زمن المماليك. وإلى الشمال مباشرةً، يمرُّ نهر الفالق وبصته، القرية التي كانت تبعد مسافة 8 كم عن الحَرم.4قرية بصة الفالق تُنسب لنهرِ الفالق الواقع شمالي قرية الحرم مسافة 8 كم، وتعرف أيضاً باسم بركة رمضان.

مسجد "سيدنا علي" على مرمى حجر من البحر المتوسط (Getty Images).

 ليس الحَرمُ قريةً ولا مقاماً، ولا مشهداً أو مسجداً ولا حتى موسماً أو مزاراً. إنّما هو كل ذلك، فكان وظلَّ حرماً. وعلي بن عليم أو عليل عُمَريٌ في نسبه، فالنقشُ الباقي على مدخل ضريحه يقول:

 "هذا مقامُ سلطان العارفين وريس الأولياء الكاملين شمس الوجود وبحر الفضل والجود من شهرت كرامته وعمّت الأنام بركاته، الشيخ علي بن عليم بن محمد بن يوسف بن يعقوب بن عبد الرحمن بن السيد الجليل الصحابي عبد الله بن أمير المؤمنين بن سيدنا عمر بن الخطاب الفاروق القرشي رضي الله عنه، توفي يوم السبت لأحد عشر خلت من ربيع الأول سنة أربعمائة وأربع وسبعين".

 بحسب النقش، فإنّ وفاة علي بن عليم تعود إلى سنة 474 هـ/ 1081م، أي في زمن الفاطميين قبيل الحروب الصليبيّة. وإلى تلك الفترة يعود بناءُ ضريحِهِ بوصفه "مشهداً" متصلاً بالمدّ الشيعيّ - الفاطميّ في البلاد قبل انحساره5كان صاحب كتاب الأنس الجليل قد أشار إلى ضريح علي بن عليم بلفظ "مشهد"، عن ذلك راجع: الحنبلي، مجير الدين، الأُنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، مكتبة النهضة، بغداد، 1995 ج2 ، ص 72.. وقد أقام الفاطميون المشاهدَ في فلسطين وخصوصاً على الساحل، مثل "مشهد الحسين" في عسقلان6: لمشهد الحسين في عسقلان موسم ظلّ يُقام حتى عام النكبة يُطلق عليه موسم "وادي النمل"..

 واللافت أنَّ الصليبيين الذين غزوا البلاد في سنة 490هـ/ 1096م ودمّروا مُدنها خصوصاً الساحليّة منها، قد أبقوا على ضريح علي بن عليم، لا بل وقدّسوه. فكانوا كلما رست سفنهم مقابل مرفأ أرسوف كشفوا عن رؤوسهم منكّسين إياها عند نزولهم على الشاطئ إجلالاً له، وذلك، بوصفه قديس ريّاس البحر7عرّاف، شكري، طبقات الأنبياء والأولياء الصالحين في الأرض المقدسة، مطبعة إخوان مخول، ترشيحا، 1993 ج2، ص271.. كما أنّ وجود الخشب على الضريح قبل إزالته واستبداله بالرخام على يد الشيخ أبو العون محمد الغزّي باني المقام في زمن المماليك، يُبيّن  الأثرَ الصليبيّ في تمجيد الضريح، فالخشب على الأضرحة هو تقليدٌ مسيحيٌّ في أصله8قطينة، فؤاد عبد الوهاب، مقام علي بن عليم دراسة تاريخية وأثرية ومعمارية، رسالة ماجستير منشورة، جامعة القدس، فلسطين، 2009، ص 38 - 41.. 

 واليهود أيضاً، كانوا قد ادعوا بحصةٍ لهم في ابن عليم، وتحديداً يهود السامرة في نابلس "السَمرة"، الذين اعتبروا أنّه نظراً لتشابه اسم علي بالعربيّة و"عيلي" بالعبريّة بأنه قبر "عيلي الكاهن". إلا أنّ حاخاماً من القدس دَحَض هذا الادعاء في القرن التاسع عشر بتأكيده أن "عيلي" موجود في شيلو أي سيلون9عرّاف، شكري، المرجع السابق، ج1، ص55..

 

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

إنّ تحوّل ضريح علي بن عليم من مَشهدٍ إلى مقام، يعود بحسب صاحب كتاب الأنس الجليل إلى عصر المماليك، وتحديداً في زمن السلطان المملوكيّ الظاهر بيبرس الذي مرَّ بساحل فلسطين يوم فتح يافا وأرسوف سنة 663 هـ/1265م، وأوعز للشيخ الصوفي أبو العون محمد الغزّي بعمارة المقام10الحنبلي، مجير الدين، المصدر السابق، ج2، ص 73.. ولما أضحى الضريحُ مقاماً، صار حَرما تشكّلت له معالم هويّته بشقيّها، الروحيّ والماديّ. فقد ارتبط الحَرم بالطريقةِ الصوفيّة القادريّة، وصار له موسمٌ تؤمه الناس في صيف كلِّ عام حتى عام النكبة، بكلِّ ما تضمّنه موسم الحَرم من شعائر وطقوس دينيّة واجتماعيّة.

أما عن الجانب الماديّ، فهو ذلك المتصل بالهويّة المعماريّة والأوقاف الخيريّة للحَرم. إذ عَمّر الشيخ الغزّي ضريح المقام بالرخام، وحفر فيه بئراً ظلّت مروى أهل الحَرم وزوّاره حتى القرن العشرين. إلا أنَّ بناء "البرج" في الجهة الغربيّة - الجنوبيّة من الحَرم في مواجهة البحر، هو ما مَنَحَ قيمةً للمقام في حينه. خصوصاً وأنَّ الحملات الصليبيّة وحروبها، قد تركت ثقلاً أمنيّاً، وجعلت من الحَرم رباطاً بحريّاً لمراقبة البحر والقادمين منه. إذ كانت تُرسَل الإشاراتُ من برج الحَرم على شكل سُحب دخانٍ في النهار، ومشاعل نارٍ في الليل، كان يمكن مشاهدتها من رباط مَشهد الحسين في عسقلان11قطينة، فؤاد عبد الوهاب، المرجع السابق، ص 66.. 

موسم في موسم البطيخ 

وحدهُ موسم الحَرم ظلَّ كفيلاً في الإجابة على سؤال: ما الذي يعنيه حَرم سيدنا علي بن عليم؟ فانقطاع موسِمِه واقتلاع قريته وأهلها، قد حوّلا الحَرم إلى مجرد موقعٍ أثريٍّ بعد النكبة. بينما الموسم في ظلِّ أهله هو ما جعل من الحَرمِ ملاذاً يوميّاً، ومزاراً موسميّاً، يقصده كل أهالي ساحل فلسطين ما بين قيسارية شمالاً وعسقلان جنوباً. أما عن موعد الموسم، فكل ما ظلّ يتذكره أهالي الحَرم والديار المحيطة فيه، بأنه كان يجري صيفاً مع موسم البطيخ.12القرم، محمد شعبان، الحرم - قضاء يافا، موقع فلسطين في الذاكرة - ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 8/6/2009 . وأيضا راجع : عرّاف، شكري، المرجع السابق، ج 2، ص 271. 

إنَّ قوافل جِمال رحلات الذهاب والإياب على حافة البحر محمّلة بالبطيخ والشمّام، هي من كانت تأذن بموسم زيارة المقام. والجمل هو دابة رمل ساحل فلسطين، أكثر مما هو حيوان كُثبان باديتها في الجنوب. وكثُر اقتناءُ الجِمال لدى أهالي الحَرم لأنّ في القرية مرفأ، وكان يُنقل البطيخ إليه على الجِمال، ثم يُشحن في مراكب عبر البحر إلى موانىء حيفا وعكا شمالاً ويافا جنوباً. 

كان البطيخ المقطوف من بصة نهر الفالق شمالي الحَرم، يُنقل بعد أن يصل إلى حجمٍ لا يمكن للجَمل فيه حمل أكثر من بطيختين، على ذمة ابن قرية الحَرم الحاج شعبان القرم13:القرم، محمد شعبان، المقابلة السابقة.، مما جَعلَ سير الجِمال محمّلةً تسكعاً على حافة البحر، ليشطف رذاذُ مَوجِه خفافها الموحلة بالطين والوحل قبل أن تطأ قوائمُها باب الحرم. 

بينما جِمال مضارب وقرى نهر العوجا، كانت تأتي مُثقلةً بحِمل أكياس قمح غِلال أراضي "قيبوطة وزعفرانة" الوقفيّة من يافا جنوباً14عن أراضي وقف حرم سيدنا علي في يافا، راجع:  قطينة، فؤاد عبد الوهاب، المرجع السابق، ص 46.، مروراً بقرية إجليل الشمالية لحمل عرانيس الذرة المقطوفة من بصّة قطورية15وكان يُطلق عليها أهالي الحرم اسم "مستنقع قطورية". راجع : القرم، محمد شعبان، المقابلة السابقة.، لتقطر الجِمال منها، على وقع غناء حدائيها، طريقها فوق بَرَص شاطىء البحر باتجاه ديار حَرم ابن عليم. 

 جِمَال تنقل البرتقال تصل إلى ميناء يافا (Getty Images).

كان حَط الجِمال وأحمالها في الحرم يعني بدء موسمه. فيستعدُ أهالي قرية حَرم سيدنا علي عن بكرة أبيهم لاستقبال زوار موسم شيّخ برّها وريّس بحرها ابن عليم، الذي كان يستمر لأيام. ظلت مشاهد وفود أهالي قرى العوجا وعربان النهر، من المحمودية والجرامنة والقرعان والسوالمة، نزولاً مع مجرى النهر إلى الجمّاسين والحشّاشين والخوّلة وأبو كشك، وصولاً للشيخ مونس وإجليل الشمالية منها والقِبلية قادمة من الجنوب، حيّةً في ذاكرة الموسم وأهله.

 جموعٌ، كان فيها من يسوق جَدي عنزته من أُذنيّه، وآخر يجرُّ كبش غنمه من قرنيه، ذبائح منذورة لابن عليم، ليختلط ثغاؤها بزغاريد نساء عبيد عرب النهر، المنبعثة من بين عَجاج (غبار) الخيّل المبرشمة بمناديل خضراء إجلالاً لسيدنا علي.

 بينما طَبل البرامكة (النوّر) كان دردابه (أي صوت الطبل) يدوي قادماً من غابة كفر عبوش شرقاً، ليعزم على القادمين من ديار نهر الفالق شمالاً عبر خرائب أرسوف إلى الحَرم. فمَن مِن أهل الحرم لا يذكر دفّ بهية البرمكية في أيام الموسم؟ وصوت مصطفى البرمكي16القرم، محمد شعبان، المقابلة السابقة.، الذي كان ببيت دلعونا واحد كفيل بلمّ برامكة الساحل، ودعوة دراويش قرى مغاريب قلقيلية وجلجولية للتوجه غرباً إلى يوم الحَرم:

هات ايدي بيدك سوى تنغرّب
نلحق الموسم قبل ما يخرّب.17كان مثل هذا الغناء يُغنى في مواسم فلسطين الساحليّة عموماً، مثل موسم النبي روبين وموسم أربعة أيوب وكذلك الحرم.

في الوقت الذي كان يتدافع فيه زوار الموسم على باب الحرم من شماله، كانت مراكب وجُروم قادمة من يافا بأهلها ترسو على شاطئ الحَرم. وفي اللحظة التي كانت تفسخ فيها المراكب ركابها، كُن بعض نساء بحّارة يافا يهزجن وفي أيديهن أطباق سمك الفسيخ، ليصيح بعض الزوّار ممازحين: لا، بدنا طبيخ فلّاحين18القرم، محمد شعبان، المقابلة السابقة.. فلا طاقة لزوار الحَرم على احتمال العطش الذي يؤدي إليه أكل الفسيخ (السمك المُمَلّح) في يوم صيفيّ حارّ على شاطئ بحر الحرم.

 في تكية الحرم ومطبخها

  كان احتشاد زوّار حَرم ابن عليم في موسمه يصل إلى تدافعٍ وازدحامٍ للحدّ الذي كان يصعب على الكلب تمييز صاحبه فيه. وفود وحشود وهيصة وضرب بارود، بيارق تلوح وعطورٌ تفوح، ابتهالات وغناء ومديح، وتشفّع لا يخلو من عويل عند الضريح. وبكاءُ أطفالٍ تحت مقصات شَعر إفاء نذور أمهاتهن بحلق رؤوسهم في يوم الحَرم، بينما تهزجُ إحداهن : طهّر يا مطهّر .... ليختلط هزيجُها بصراخِ ولدها المنبعث من داخل مطوى الحَرم19غرفة المَطوى، كانت تقع في الجهة الشرقية للمقام، وتستعمل لطيّ الملابس وتخزينها ولذلك سميت بهذا الاسم. راجع : قطينة، فؤاد عبد الوهاب، المرجع السابق، ص 65. في طقس إتمام الطهور (الختان). فيما خِراف وجِداء ذبائح النذور، مسموعٌ ثغاؤها من البحر، وهي مسحوبة من إحدى قوائمها تحت خوصات ذبّاحيها نحو المذبح الذي يتوسط التكية والمطبخ.

 مشهد لمدينة يافا من الساحل، ويظهر جزءاً من مينائها، في مطلع القرن العشرين. (Getty Images).


كانت تكية حرم سيدنا علي تقع في الجهة الغربيّة من داخل بناء الحرم، والتي تحوي أكثر من قاعة لتناول الزوار الطعام فيها. وتشمل التكية المطبخ والمذبح، وهذا الأخير، كان له باب خاص به يؤدي إلى ساحةٍ خارجيّة من أجل ذبح النذور فيها ثمَّ نقلها إلى المطبخ. وتكية حَرم سيدنا علي كانت الوحيدة من بين كل تكايا البلاد، التي ظلت تُطعم زوارها على مدار أيام السنة، دون أن ينقطع خُبزها يوماً. ومرد ذلك، يعود إلى كثرة أوقاف ووفرة أرزاق الحرم من أراضٍ وقطعان ماشية ودكاكين، إذ وصلت مساحات الأراضي الموقوفة للحَرم أكثر من 28 ألف دونم من الأراضي المنتشرة في أكثر من 15 قرية في الساحل.20قطينة، فؤاد عبد الوهاب، المرجع السابق، ص46. والتي صارت غلالها تُنقل بإشراف المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في القدس بعد تأسيسه في عشرينيات القرن الماضي إلى الحرم، مما جعل خير تكيته قائماً ودائماً. 

"اليخنة" بفتة الرز باللحم، كان هو طعامُ التكية المتعارف عليه في موسم الحرم وباقي أيام السنة. وقد أشارت ماري روجرز في رحلتها (1856- 1859) عندما نزلت للمبيت في تكية الحَرم إلى تحلق ونهم دراويشه ونزلائه حول تلالٍ من الرز واللحم المطبوخ في مطبخ التكية المسودة جدرانه بفعل دخان مواقد الحطب21روجرز، ماري إليزا، الحياة في بيوت فلسطين رحلات ماري إليزا روجرز في فلسطين وداخليتها (1855-1859)، ترجمة: جمال أبو غيدا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 347.. مما يقول: إن الحرم، كان أيضاً أشبه بخانٍ، لأن فيه إسطبل للخيل والدواب، يقصدهُ المسافرون وعابرو السبيل للراحة والمبيت فيه. 

ما كان لموسم الحَرم أن ينفض عنه زوّاره، إلا بوداع فيه أغانٍ وأمانٍ ورائحة خبز الرْقاق (الشراك) خبز سيدنا علي المُنبعثة من على صاجات الخَبز فوق مواقد نارٍ كانت تُزنِر محيط الحرم في موسمه. وبينما كُن نسوة الحرم يقدّمن "مَفروكة الوداع"، فطير مخبوز وممسوح بالزيت والسكر للمغادرين من الزوّار، كان كل من أحمد أبو زهرة ومعه الحاج حسن القيمين على مطبخ تكية الحرم، على ما ظل يتذكر الحاج شعبان القرم22:القرم، محمد شعبان، المقابلة السابقة.، يجمعان مع مريدي الحرم وصبيانه، الفخار من الصَواني والأواني وقدور اليخاني من أجل شطفها بماء البحر المالح. بينما ما تبقى من لحم الذبائح، يوزع على المستورين من زوّار موسم الحَرم.

 ترحموا على ما أنتم زايرين

 كان الموسم الأكبر والأشهر من تاريخ مواسم الحَرم هو في ذلك العام الذي وقعت فيه مئذنة الحرم بعد أن قصفتها طائرات الحلفاء من البحر خلال الحرب العالمية الأولى23القرم، محمد شعبان، المقابلة السابقة.)، مما جعل الموسم في سَنتها، فزعة شعبية دُعى إليها كل أهالي المدن والقرى من أجل الحَرم وحُرمة ريّس البر والبحر ابن عليم.  

 كانت جُموع الموسم المنفضة، تعود أدراجها إلى ديارها محملةً بالبطيخ والقرع الأحمر24كان القرع الأحمر مثل البطيخ والشمّام من المقاثي التي تزرع بكثرة في مناطق الحرم، وتحديداً في أراضي نهر الفالق شمالاً. راجع: القرم، محمد شعبان، المقابلة السابقة.، وسمك البحر الموهوب للزوار من الحرم وبحره عن روح شيخه وريّسه، "ترحموا على ما انتو زايرين" يصيحُ البحّارين. ثم حديثٌ يبقى ويطول عن كرامات علي ابن عليم، تناقلها الزوار لبعضهم في موسمه. فمن تحسس حَجر الحرم الأسود، يُعيد على مسامع أهله حكايا حَلفان القسم بين المتخاصمين عنده، أو تبرئة متهمٍ جرى عصب عينيه ليمشي نحو الحجر، وإذا ما استطاع لمسه ثبتت براءته25عرّاف، شكري، المرجع السابق، ج1، ص56). 

بينما يقص آخر لبعضهم، حكاية يوم أن هجم موج البحر وغمرَ الحرم وساحاته، ففرّ الناس منه!، فقيل بأن لا مكان لغير الطاهر فيه26قطينة، فؤاد عبد الوهاب، المرجع السابق، ص 44.. أما عن بعض الماشية من ماعزٍ وغنم، والتي شوهدت ترتع سائبة في محيط الحرم، يُقال بأن العنزة منها كانت تلد مرتين في العام لأنها وقفٌ لابن عليم.27راجع: التيتي، حسني عبد المنان، بنو صعب واستيطانهم في فلسطين،الطيرة 2008، ص 109. 

ما الذي تبقى من الحَرم؟... فلا قريته ظَلت عنده، ولا أهلٌ يحملون له في موسمه البطيخ والطبيخ. لم يبقَ  غير الحَجر والأثر يغسلهما رذاذ موج البحر، ومئذنة ما يزال نداؤها لصلاة العودة حيّاً. 

 



9 نوفمبر 2019
عن الهروب إلى أسطورةٍ إسرائيليّةٍ

أسطورة الحماية الإسرائيليّة للفلسطينيّين المثليّين والمثليات أو المتحوّلين والمتحوّلات جنسيّاً واستقبالهم كلاجئين ليست جديدة. إلّا أن حدثين مختلفين وقعا في…