25 مايو 2021

عنْ الأزَمنة ما بعد العادية وإمكانيَّة التغيير

عنْ الأزَمنة ما بعد العادية وإمكانيَّة التغيير

مقدّمة المترجم

برزَ مصطلحُ "الأزمنة ما بعد العادية" على يد مفكّر المستقبليات الباكستانيّ-البريطانيّ ضياء الدين سردار Ziauddin Sardar في محاضرةٍ قدّمها في جامعة سيتي في لندن عام 2009 بعنوان "مرحباً بكم في الأزمنة ما بعد العادية"، وذلك بعد سنةٍ واحدةٍ من الأزمة الماليّة العالميّة التي عصفت بالأسواق العالميّة.1كان مصطلح "ما بعد العاديّ" قد ظهر أوّل ما ظهر في حقل فلسفة العلم في عام 1993، في دراسة أعدّها فيلسوف العلم جيروم رافترز وعالم الرياضيات سيلفيو فونتفيش بعنوان "العلم في عصر ما بعد عادي"، حيث لاحظا بأنّ إدارة المخاطر في كلّ ما يتعلّق بالسياسات قد باتت أصعب من ذي قبل، بسبب ما ولّدته التقنية وتعقيد الحياة الاجتماعيّة من لا يقين. كانت الفكرة باختصار رصداً لملامح تغيّر وتيرة التغيّر في العالم الحديث، إذ أنّ عمليّة التغيّر السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ لم تعد كما كانت في السّابق، فقد أصبحت التغيّرات تتمّ بسرعةٍ أكبر وعلى نطاقٍ أوسع، كما أنّها باتت أكثر تعقيداً من ذي قبل. أراد سردار أن يؤطر هذا التحوّلَ تحت عنوان "الأزمنة ما بعد العادية"، وأن يقولَ لنا بأنّ السمة الرئيسة لهذه الأزمنة هي اللايقين وصعوبة التنبؤ بالمآلات الممكنة لأيّ حدثٍ من الأحداث.

تحوّلت محاضرةُ سردار إلى سلسلةٍ من الدراسات، ثمّ إلى مشروعٍ بحثيٍّ وإلى موقعٍ إلكترونيٍّ ومجلّةٍ للدراسات المستقبليّة والاستشرافيّة. وقد طُبِعَت بعضُ محاضراتِ سردار ودراساته ونُشرت بالعربيّة في العدد الـ28 من سلسلة "أوراق" الصّادرة عن مكتبة الإسكندرية، ومنها تعرّفتُ إلى فكرة سردار هذه. في هذه المادّة –وهي ترجمة انتقائيّة من موقع Postnormaltimes - أحاول تقديم أسسِ نظريّةِ الأزمنة ما بعد العاديّة للقارئ العربيّ، بهدف توسيع أدوات خيالنا السياسيّ، وتحرير أذهاننا من التصوّراتِ الخطيّة التبسيطيّة عن آليات التغيير.

ولأنّ سردار عالم مستقبليات، فإنّه لم يكتفِ بالإشارة إلى صعوبة التنبؤ التي تكتنفُ ظواهرَ عصرنا الحاليّ، بل أراد تطويرَ نماذج تستطيع استيعاب هذا اللايقين وتستطيع احتواءَ الفوضى التي تطبع تغيّراتِ عصرنا المعقّد. وصحيحٌ أنّ لهذا الجزء أهميّته، إلا أنني سأقتصر على مقدّمات النظريّة وما تفتحه من أفكارٍ عن إمكانية التغيير من حيث لا نحتسب. نعم، إنّ هدفي من هذه الترجمة هو توفير فسحةٍ من الأمل الواقعيّ، والتنبيه إلى ما يكتنف التحوّلات التاريخيّة من "الـلاتوقع"، فالتغيّرات التاريخية ليست بنت أسبابٍ واضحة تتجه إلى النتائج خطّياً، بل إنّ بين شبكة الأسباب والمآلات البعيدة عواملَ معقّدةً كثيرة لا يُحيط الإنسانُ بها علماً.

-----------------------------

خصائص التغيّر في الأزمنة ما بعد العاديّة

كلُّ شيءٍ يتغيّر، ولكنّ الفارق في الأزمنة ما بعد العاديّة هو أنّ طبيعة التغيّر نفسها قد تغيّرت.

إنّ الخصائص الأربعة (وكلّها تبدأ بحرف الـ S) الأساسيّة للتغيّر في الأزمنة ما بعد العاديّة هي: السّرعة Speed، النطاق Scope، المجال Scale ، التزامن Simultaneity . وهذه الخصائص هي ما جعل التغيّر في زماننا يبدو مختلفاً اختلافاً جذريّاً عن التغيّر في الأزمنة السابقة.

كلّ شيء بات أسرع من ذي قبل: السفر، الانترنت، التطوّر العمراني. وكلّما تحرّكنا بسرعة أكبر، كلّما جنينا المزيد من الأرباح. نعرف أنّ التحوّل في الميول والتوجّهات عادةً ما يحدثُ على هيئة منحنى على شكل حرف S2لـ S-curve هو منحنى يصف رحلة المشاريع أو السلع الجديدة أو حتّى الموضات الثقافيّة والفنيّة، فهي تبدأ بمرحلة من النموّ البطيء، ثمّ تشهد مرحلة من النمو المتسارع، وتصل في النهاية إلى حالة من الاستقرار والنموّ البطيء مجدّداً.، وأنّه يمرّ بمرحلة من التسارع، ولكنّ التسارع نفسه أخذَ يتسارعُ في الأزمنة ما بعد العاديّة. فما كان يحدث في سنوات، بات يحدثُ في غضون أشهر، وربّما أسابيع أو أيام. بات "الجديد" [سواء كان سلعة أو فكرة] يطيح بـ "القديم" بسرعةٍ قياسيّة. وكذلك هو الأمر في عالم المال، فالغنيّ يغتني بسرعةٍ فائقة، والفقير يصلُ إلى الحضيض في لمحةِ عين.

لم يصبح العالمُ أسرعَ من ذي قبل وحسب، بل باتَ "أصغر" من ذي قبل أيضاً. لقد بات للأحداث والقضايا تأثيرٌ عالميّ ودوليّ. فبإمكان حدثٍ صغيرٍ ومحلّيٍ أن يعبُرَ الأرضَ من أقصاها إلى أقصاها في غضون لحظات. يُمكننا أن نرى ذلك في حركة فايروس ينتقل من قرية صغيرةٍ مجهولة، ويستغلُّ حركة الطائرات ومسارات نقل البضائع والخدمات الدوليّة لينتشر في كلّ مكان، ويتحوّل بعد أيام أو أسابيع إلى وباءٍ عالميّ. إذاً، بينما كانت الأحداث في السّابق محصورةً في عشرات أو مئات من البشر، باتت اليوم تؤثر على الملايين. تُساهمُ في ذلك شبكاتُ الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعيّ التي قد تصنعُ من خبرٍ محليٍّ بؤرةً للاهتمام عالميّاً بسرعةٍ خاطفة. وليس غريباً أن تتسبّب تغريدةٌ على تويتر في بلبلةٍ واسعةِ النطاق.

اقرؤوا المزيد: "نشاطيّة الوسوم: نزع السّحر عن منصات التواصل الاجتماعيّ".

لم يعد مجالُ التأثير اليوم مقصوراً على حيّز دون آخر. باتت الأحداثُ العالميّة مؤثّرةً على مستوى الأفراد والمجموعات الاجتماعيّة. إنّ ما يحدثُ عن المستوى الدوليّ يؤثّر على حيوات الأفراد في أرجاء المعمورة؛ وأمثلة ذلك كثيرة: الأزمات الاقتصاديّة، الأوبئة الصحيّة، الهجمات الإرهابيّة، التغيّر المناخيّ، التطبيقات والبرمجيات الجديدة، أدوات المراقبة، شحّ المعدّات الطبيّة. لم يعد بوسعنا تجاهل ما يحدث في أطراف العالم البعيدة، لأنّ ذلك يُمكن أن يبتلعنا في نهاية المطاف.

أما التزامن بين الظواهر فإنّه يتضاعف. إنّ آثار الزيادة المهولة في سرعة الأحداث ونطاق حدوثها ومجال تأثيرها تزداد شراسةً بفعل التزامن. فلم تعد الأزمات تحدث في مكانٍ واحد، بل باتت تحدثُ في عدّة أمكنة في الوقت نفسه. لقد صدق علينا المثلُ الشائعُ "المصائب لا تأتي فرادى!". تترافق الأزمات: تأتي المشكلة الاقتصاديّة مصاحبةً اضطراباً سياسياً، ومتزامنةً مع جملةٍ من المشاكل المجتمعيّة في أنظمة الرعاية الصحيّة والانقسامات الهويّاتية والثقافيّة. في عام 2018، تزامن ظهور الفيروسات الفتّاكة سارس وإيبولا ونيباه.3وكذلك هو الحال مع فايروس كورونا، الذي اجتاح العالم في ذروة الحرب التجارية الأمريكية- الصينية، والبريكست، وفي تزامن مع تصاعد التوتّر العسكري في بؤر عديدة تتنازعها نفس القوى، وفي ظلّ العصر الترامبي الرهيب! (المترجم) وكذلك هو الحال مع الكشوفات العلميّة، فمعظم الكشوفات والاختراعات تتمّ على أيدي مجموعات مختلفة من العلماء في وقت متقارب. وكثيراً ما يتسبّب حدثٌ واحدٌ في سلسلة من الأحداث التي تقود إلى آثار متزامنة في أمكنة مختلفة.

يُمكن توضيح هذه الخصائص في ظاهرة مثل التغريد على تويتر. في لحظةٍ واحدةٍ تنتشر التغريدة إلى أقاصي الأرض. وتستطيع تغريدة واحدة أن تشتبك مع مجموعة متنوّعة من السّياقات والأفكار والمعاني. وبتغريدةٍ واحدة، يُمكن لحدثٍ صغير في طرف العالم أن ينتشرَ إلى طرف العالم الآخر. وبتغريدةٍ واحدةٍ يُمكن لحدثٍ تافه أن يتحوّل إلى حدثٍ وطنيٍّ ودوليٍّ في غضون ساعات. يُمكن لـ280 حرفاً أن تُدشّن في بلد من البلدان حملةً من الكراهية والعنف، أو تزيد من التضامن والوحدة، بل ويُمكن لها أن تُشعلَ حرباً أو تُطفئها!

اقرؤوا المزيد: "كورونا واليسار.. الكارثة طريقنا للخلاص؟".

القوى الفاعلة في قلب نظرية الأزمنة ما بعد العاديّة: نجد ثلاثة عناصر كلّها تبدأ بحرف الـ C: التعقيد Complexity، الفوضى Chaos، التناقضات Contradictions. ولنبدأ بالتعقيد، فحين نصفُ نظاماً بالتعقيد، فإنّنا نميّزه عن الأنظمة البسيطة. في الأنظمة البسيطة، تكون العلاقة بين الأسباب والنتائج علاقة مباشرة. أما الأنظمة المعقدّة فإنّها تتطلّب عدداً أكبر من العوامل والمتغيّرات لإدارتها والسيطرة عليها. يُمكن أن نقرّب الصّورة بأن نقول بأنّ الساعات الميكانيكية القديمة تمثّل نوعاً من الأنظمة البسيطة، أما الأعمال الهندسيّة الكبيرة، التي يدخل فيها من المتغيّرات ما يزيد عن 6 متغيّرات، فهي أنظمة معقّدة. ومثل هذه الأنظمة موجودة في شتى العلوم الطبيعيّة، وكلّ علم يُعرّفها بطريقته.

في سياق حديثنا عن التغيّر في الأزمنة ما بعد العاديّة، فإنّ التعقيد يعني وجود عددٍ كبير من الأجزاء المستقلّة التي تتفاعل مع بعضها البعض بطرائق مختلفة؛ أي أنّنا أمام عدد كبير من المدخلات والمخرجات.

للأنظمة المعقّدة سمتان اثنتان: 1) في كلّ نظام قدرٌ من اللايقين الذي لا تُمكن إدارته والسيطرة عليه، والذي يُمثّل نوعاً من "المخاطر" للنظام. 2) يُمكن النظر إلى النظام من زوايا نظر مختلفة وكلّها معتبرة ووجيهة. عندما يكون النظامُ المُعقّد مؤلّفاً من شبكات، تتصل أجزاؤها المستقلّة وتتفاعل مع بعضها البعض، يُمكن للنظام أن يولّد نتائج هائلة، تضخّم المؤثّرات الأولى بصورةٍ لافتة. إنّ الأنظمة الشبكيّة المعقّدة مليئة بمساحات اللايقين، وحافلة بوجهات النظر المختلفة، وهي عرضة للسلوكات الهائجة التي يُمكن أن تؤول إلى الفوضى. من أمثلة الأنظمة المعقّدة: الطقس، الكائنات العضويّة، الأنظمة البيئيّة، التنظيمات الاجتماعيّة والثقافات البشريّة، الدماغ البشريّ، إلخ.4 أبرز مثال لذلك – كما يشير سردار في واحدة من محاضراته- هو الأزمة المالية العالمية التي بدأت بفقاعة أسواق العقار الأمريكية، ثمّ تحوّلت إلى أزمة طالت القطاعات المالية في شتى أنحاء العالم. جعلت العولمة كلّ شيء متشابكاً، فلم يعد بالإمكان (في ظلّ الحرب التجارية الصينية-الأمريكية مثلاً) الإضرار بالخصم دون أن يكون لذلك تداعيات عميقة على الاقتصاد الوطني أيضاً (المترجم)

القوّة الثانية هي الفوضى. ونعني بالفوضى هنا المعنى الذي تحمله في نظريّة الفوضى Chaos Theory، فالفوضى لا تعني العشوائية، بل هي النتيجة المتحصّلة من العديد من المتغيّرات المستقلّة التي تتفاعل بطرائق عدّة في نظام شبكيّ معقّد. ففي مثل هذه الأنظمة يُمكن لاضطرابات صغيرة أن تؤدّي إلى نتائج كبيرة، وهذا هو ما يُعرف بـ"أثر الفراشة"5 لنفكّر مثلاً بشاب يتلقى صفعة على يد شرطية، فيضرم النار في نفسه احتجاجاً، فتسانده عائلته، ثمّ مجموعات من المجتمع المحلي المتضرّر، ثمّ تلتقف الأجسام المدنية والنقابية قضيّته، ثمّ تتحوّل إلى ثورة في العاصمة، ثمّ تشتعل نار الثورات في قرابة 9 عواصم عربيّة. هذا مثال جيد عن أثر الفراشة! (المترجم). إنّ مثل هذه الأنظمة [الشبكية المعقّدة] قادرة على إقامة توازن بين النظام والفوضى. تُسمّى نقطة التوازن هذه "حافّة الفوضى": إنّها النقطة التي يكون النظامُ عندها مُعلّقاً بين الاستقرار وبين الانحلال التام.

عند نقطة حافّة الفوضى يُمكن أن تنهار الأنظمة المعقّدة أو تُعيد تنظيم نفسها في أشكالٍ جديدةٍ من التنظيم. أما القوّة التي تُعَزِّزُ إمكانيّة انهيار النظام أو تحوّله إلى شكلٍ جديدٍ فهي درجة التناقضات وشدّتها.

هذه التناقضات هي القوّة المحرّكة الثالثة في الأزمنة ما بعد العاديّة. في كلّ نظام معقّد، ثمّة العديد من المواقف المتعارضة منطقيّاً، وهذا صحيح بدرجة أكبر في الأنظمة التي تقف على حافّة الفوضى. غالباً، لا يُمكن حلّ التناقضات العميقة في الرؤى، كلّ ما يُمكن هو تجاوزها. بعبارة أخرى، لا بدّ من التوليف بين هذه التناقضات، وصياغة مواقف جديدة تدمج المواقف القديمة المختلفة. غالباً ما تكون التناقضات هي ما يقدّم الإشارة الأولى الدالّة على أنّ نظاماً ما يسير نحو التعقيد والفوضى، أو بالأحرى نحو أن يكون لاعادياً.6 أمثلة على التناقضات البنيوية: التناقض بين التقدّم التقني الذي يسهّل الأعمال، وبين دوره في زيادة البطالة وتقليص الحاجة إلى العمالة؛ التناقض بين التقدّم الصناعي والأمن البيئي؛ التناقض بين العولمة الثقافيّة وبين ردود فعل الهويات الفرعية. (المترجم)

الجهل واللايقين

مع التعقيد والفوضى والتناقضات تظهر طبيعة الأزمنة ما بعد العاديّة، ويظهر معها - كما هو متوقّع – قدرٌ لا بأس به من الجهل واللايقين.

يظهر الشّكلُ الأبسط من أشكال اللايقين حين نكون أمام تغييرٍ نعرفُ اتجاهه، ولكنّنا لا نعرف حجمه ومقداره ولا نستطيع حساب العواقب والأحداث التي يُمكن أن يأتي بها. نطلق على هذا الشكل: "اللايقين السطحيّ"، وهو شكل تُمكن السيطرةُ عليه بدرجةٍ من الدرجات، ولكنّه كثيراً ما يُخفي بمقدار ما يُظهِر. فتحت مستوى السطح، كثيراً ما يظهر بأنّ اتجاه التغيّر نفسه غير معلوم، وأنّ معرفة مآلات الأحداث وعواقبها الممكنة متعذّرةٌ بفعل تلاقي التعقيد مع الفوضى مع التناقضات. إذاً، يُمكن حتى لللايقين السطحي أن يكون خطراً، على الرغم من أنّنا كثيراً ما نستهين به. ولكن، ثمّة نوع آخر سوى النوع السطحيّ، وهو اللايقين العميق، وهي مساحة لا نعرف فيها شيئاً ولا يُمكن أن نعرف فيها شيئاً، لأنّها تقبع خارج خريطتنا الإدراكيّة: إنّها مساحة اللامفكّر فيه، أو مساحة الأسئلة التي لم نغص للإجابة عنها. حتى يومنا هذا، نحن نعرف عن الفضاء الخارجيّ أكثر مما نعرف عن الأجزاء العميقة من المحيطات مثلاً. لا يعني هذا استحالة معرفة هذه الأمور أو التفكير فيها، ولكنّنا –إن أردنا مواجهة اللايقين- بحاجة إلى اجتراح أشكالٍ بديلةٍ من البحث والتحليل.

اقرؤوا المزيد: "حطام ومباهج.. عن شهوة الحرب الكُبرى".

في نظرية الأزمنة ما بعد العاديّة، يتشابك اللايقين مع الجهل. وأمامنا ثلاثة أنواع من الجهل: "الجهل البسيط"، حين نفتقرُ إلى المعرفة المدعّمة بالحقائق، فنسيءُ فهمَ الثقافات ونظرتها إلى العالم وما تقترحه من طرائق للعيش، الأمر الذي يؤدّي إلى إثارة الخوف والنعرات بيننا وبين الآخرين وإلى سوء فهم احتياجات الشّعوب المختلفة. من أمثلة الجهل البسيط أيضاً السعي إلى تلبية احتياجاتنا المتناقضة من موارد الكوكب. [وأحياناً نكون جاهلين بجهلنا كما يقول المؤلف].

النوع الثاني من الجهل هو "الجهل المؤقّت"، وهو جهل ينبع ضمناً من طبيعة المستقبل وما يضمره من أبعاد، فكثير من حلول المشكلات والقضايا التي نواجهها لا يُمكن أن تظهر إلا في وقت مستقبلي! وفي سبيل تخطي عقبة "الجهل المؤقّت" علينا أن نطوّر نوعاً من التعلّم الاستشرافيّ وأن نؤسّس لمسارٍ من محو الأميّة في المستقبليات.

أخيراً، على المستوى الأعمق، ثمّة نوع من "الجهل المقيم" الذي لا يُمكن علاجه، وهو نابع من الأجزاء غير المفكّر فيها (أشياء لم يسبق لنا التفكير فيها لأنّها خارجة عن خريطتنا الإدراكيّة وعن شبكة الافتراضات والمسلّمات التي ننطلق منها في كلّ تفكير). [وأحياناً ينبع كما يشير في موضع آخر من فائض المعلومات الذي نمتلكه فيحجب عنا رؤية أجزاء أخرى من الصورة]. على هذا المستوى، علينا –إن جاز القول- أن نفكّك التصوّرات التي تحبِسُنَا في ظلمة الجهل، وأن نفكّر في بدائل خلّاقة تعيد صوغ افتراضاتِنا وانحيازاتِنا وميولنا المُضمرة.

حديقة وحوش الأزمنة ما بعد العادية

1)   البجعة السوداء: البجعات السّود هي شذوذات خارجة عما اعتدنا ملاحظتَه.7 تعرفون أنّ البجع الأسود لا يوجد إلا في أستراليا، ولذلك، كان الناس وعلماء الحيوان يعتقدون ببساطة أنّ جميع البجع أبيض. ثمّ كانت المفاجأة (المترجم) قدّم نسيم طالب فكرته الشهيرة عن "البجعة السوداء"، وهي فكرة تلتقط جوهر ما نتحدّث عنه من أشكال ممكنة من المستقبل، ولكنّها أشكال لا يُمكن للخبراء تصوّرها أو إدراكها مسبقاً؛ إنّها ظواهر شاذّة تأتي بغتة من حيث لا نحتسب، وهي كما يقول طالب " حساسة جدّاً وبالغة الهشاشة أمام سوء التقدير، وغالباً ما تكون محلّ استخفاف واستهانة شديدين، تتخلّلهما أحياناً لحظات عرضيّة من المبالغة الكبيرة في التقدير".

على خلاف ظاهرة الفيلة السوداء التي سنتحدّث عنها، يمكن أن تكون لظاهرة البجعة السوداء تأثيرات إيجابية، فتؤدي إلى تبصيرنا بإمكانات وفرص لم نكن نتخيّلها، وقد تساعدنا هذه الفرص الجديدة على التعامل مع الديناميكيات المعقّدة للمستقبلات الممكنة.

كثيراً ما يُقال بأنّ الظواهر التي ندرجها تحت مسمى "البجعة السوداء" كانت مسؤولة عن كثير من التغيّرات المجتمعيّة الكبرى في التاريخ. ولكنّ هذه الظواهر يُمكن بالقدر ذاته أن تكون سيّئة الأثر، بل ربما كارثيّة الأثر، فتؤدّي إلى ما نسمّيه بالرعب ما بعد العاديّ أو الكوارث المباغتة ما بعد العادية. ولأجل ذلك كلّه، ينبغي التعامل مع هذه الظواهر بمستوى عالٍ من التحليل.

 2)   الفيل الأسود: الفيلة السوداء هي أحداث جدّ مألوفة، وواضحة أشدّ الوضوح، ويُمكن رؤيتها بجلاء، ولكنّها مع ذلك محلّ تجاهل من قبل الكثيرين، وأحياناً تكون محلّ تجاهل المجتمع ككل.

إنّ الفيلة السوداء، كما يلاحظ عالم المستقبليات فيناي غوبتا، هي أحداث "مرجّحة الحدوث، ويُمكن لمعظم الخبراء أن يتنبؤوا بها، ولكنّ المجتمعات تميل إلى غضّ النظر عنها حتى ساعة حدوثها، ولنضرب لها مثالاً بالأزمات الاقتصاديّة أو بشيوع الأوبئة. عادة ما يتمّ تهميش الخبراء الذين يتحدّثون عن "الفيلة السوداء"، ولكن، ما أن يطلّ الحدث برأسه، حتى يصبحوا محلّ اهتمام واحتفاء".

كلّنا نعلم بأنّ تركيز الكربون في الغلاف الجوّي قد بلغ مستويات قياسيّة (400 جزء في المليون)، وهي مستويات تنذر بتحوّلات مناخيّة هائلة. ولكنّنا نجدّ بأنّ شريحة هائلة من البشر، بما في ذلك غالبية الشعب الأميركي، تنكر وجود أيّ تغيّر مناخي يُمكن أن يمسّ حياة البشر؛ في المقابل، يجمع العلماء على جسامة هذه الظاهرة، ويحذّرون –منذ عام 1965، عندما تمّ تقديم أوّل تقرير للرئيس الأميركي جونسون عن خطر صعود معدّلات ثاني أكسيد الكربون – من عواقبها.

يُمكن القول بأنّ البجعة السوداء مجهولٌ مجهول، أمّا الفيل الأسود فهو مجهولٌ معلوم، بحسب تعبير دونالد رامسفيلد الشهير، ثمّ إنّ الانقسام بين نخبة الخبراء والرأي العام يُضاعف من التعقيد واللايقين في عصرنا.8فحين سئل وزير الدفاع الأميركي آنذاك دونالد رامسفيلد عن عدم وجود أدلة كافية على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل وتزويدها للمجموعات "الإرهابية" بها، أجاب: هناك أمور معروفة معلومة! ولأنّ الجملة الإنجليزية هنا ذات لذعة خاصة يعسر نقلها بكلّ إيقاعها فقد أجاب: There are known knowns (المترجم)

عادة ما نحتاج إلى تضافر الجهود العالميّة لمواجهة الأحداث ذات الإمكانات المابعد عادية العالية (وهو أمر شهدنا نظيره في أثناء مكافحة وباء الإيبولا [ونشهده اليوم –بكفاءة أقلّ- في مواجهة فايروس كورونا]). تكشف لنا الظواهر التي ندرجها تحت مسمى "الفيلة السوداء" عن الامتدادات القادمة الكامنة في الحاضر، ومن ثمّ فإنّ سياقات هذه الظواهر حاضرة معنا من الآن، ولا بدّ من موضعتها ودراستها من عدّة زوايا نظر، ومحاولة فهم التناقضات الملازمة لظهورها الوشيك.

3)   قنديل البحر الأسود: نستعمل مصطلح قنديل البحر الأسود لوصف ظواهر أو أحداث تمتلك القدرة على التحوّل إلى أحداث ما بعد عاديّة عبر التصاعد الفجائيّ أو اللحظيّ. فقنديل البحر الأسود، مثل بقيّة وحوش الأزمنة ما بعد العاديّة، ذو تأثيرٍ هائل، ولكنّه بالأساس ظاهرةٌ "عادية" تندفع صوب الما بعد عادية بفعل التغذية المستمرّة لها، فتنمو بازديادٍ حتى تؤدّي إلى تهديد استقرار النظام.

من أين جاء اسم "قنديل البحر"؟ إنّ للتغيّر المناخي آثاراً كبيرة على النظام المائيّ في العالم. فقد ازدادت حرارة المحيطات ودرجة الحمضيّة فيها، وهي ظروفٌ مثاليّة أدّت لزيادة وفيرة في أعداد قناديل البحر، وقد تسبَّبتْ الأعدادُ الكبيرة من قناديل البحر في تعطيل العديد من محطات إنتاج الطّاقة على السواحل، بما في ذلك بعض المفاعلات النوويّة في أنحاء متفرّقة من العالم. تلخّص هذه الحالةُ الغريبةُ ما نعنيه بالمستقبلات غير المُفَكّر فيها، فاليوم باتت قناديلُ البحر مُتَهمةَ بـ"الإضرار بأكبر جيوش العالم وتعزيز القلاقل السياسيّة!".9 نعم، فهذا الكائن المقاوم الصغير بات يدخل بجسمه الهلامي من أنابيب التهوية والتبريد ويسدّها مما يؤدي إلى سخونة المحرّك وتعطّل عمل حاملات الطائرات، وقد عانى الجيش الصيني وغيره من متاعب هائلة بسببه (المترجم) هكذا، يُمكن أن يكون لأصغر الأشياء تأثير هائل بفعل التغذية الإيجابية المستمرّة له، وهذه الفكرة هي ما تمثّله قناديل البحر.

إنّ قناديل البحر السوداء، بحسب تعبير رامسفيلد، هي معلوماتٌ مجهولة: أي أنّها أشياء نعتقد بأننا نعرفها ونفهمها، ثمّ نكتشف لاحقاً بأنّها أكثر تعقيداً مما نظنّ وبأنّها حافلة بفجوات من اللايقين. يُذكِّرنُا الصعود المباغت للظواهر التي ندرجها ضمن "قناديل البحر السوداء" بأهمّية فكرة "مجال التأثير"، أي أنّ علينا أن نفكّر بالأشياء الصغيرة ونتخيّل حجم تأثيرها الممكن ضمن مجال أوسع، وكيف يُمكن أن تتضاعف آثارها بمرور الوقت ضمن أنظمة متداخلة.

إنّ ما تمثّله قناديل البحر هو الانتقال من حالةٍ عادية إلى حالة ما بعد عادية؛ وكيف تتمّ هذه القفزة حتى يصبح الحدثُ متداخلاً وشبكياً ومعقّداً وحافلاً بالتناقضات.

 بهذا المعنى، يمكن القول بأنّ قناديل البحر هي "أحداث محفِّزة" تعلن عن ظهور الإمكانات غير المُفَكّر فيها، وإن لم نكن نعتقد بأنّ هذه الأحداث يجب أن تتَّبع نموذجَ التغيّر الذي يرسمه شكل منحنى S الشهير، فهذا المنحنى وإن كان مفيداً في رسم تأثيرات حدث واحد، فإنّه لا يحسّن من "قدرتنا على رصد  العناصر الجديدة سواء تلك التي ظهرت مؤخّراً على السطح، أو تلك التي كانت أصلاً في حالة حركة". فكما يُشير مفهوم الفيلسوف وعالم المستقبليات الفرنسي دي جوفينيل عن "مروحة المستقبلات الممكنة" Futuribles، "فإنّ ظواهر قنديل البحر الأسود لا يُمكن عدّها ولا إحصاؤها في أيّ وقت من الأوقات".