يقف الناس كثيراً أمام واجهة أفخم مول في قطاع غزّة أو داخل مرافقه ويلتقطون الصور.1يُطلق الناس في غزّة كلمة "مول" على كل محل تجاري ضخم، يشمل ذلك محلاً كبيراً للملابس، أو سوبرماركت ضخماً. إن صادف أحمد علي أحداً منهم في بداية يومه أو خلال عبوره من أمام المكان، يزفر غضباً، ويُسِرُّ في نفسِهِ: "ليس كل ما يلمع ذهباً".
قبل استقالته مؤخراً من عمله، كان أحمد (26 عاماً) يستيقظ صباح كلّ يوم مُثقَلاً بالحيرة، يرتدي ملابس العمل، يقف أمام المرآة ويسأل نفسه: "هل سأنقل بضائع اليوم أم سأمسح أرضية المول؟". عمل أحمد في ذلك المول لمدة 5 سنوات، لكنّه توقف الآن. يقول إنّ الجيب الفارغ أفضل بكثير من جيب ينزّ إهانةً.
200 دولار على 8 ساعات يومياً!
بدأ أحمد العمل في أشهر مول تجاريّ في غزّة عام 2018. كان المسمّى الوظيفي الذي تقدّم إليه "مراسل إداريّ"، لكنه يقول إنّه عمل مراسلاً ليومٍ واحدٍ فقط ثم تفاجئ بأمرٍ من مشرف العمل نهاية يومه الأول: "بدءاً من صباح اليوم التالي ستعمل في قسم الخدمات والتنظيف".
رفض أحمد ذلك في أول الأمر، لكنّه قَبِلَ لاحقاً مدفوعاً بحاجة عائلته الماديّة. كانت الفترة التي عمل خلالها في قسم الخدمات والتنظيف الأشدّ إرهاقاً لجسده، لكنّ إدارة العمل وجدت أنَّ عامل الخدمات يستحق مقابل كل هذا التعب أقلّ راتبٍ، كما يقول. تتراوح رواتب العمال في المول بين 700 - 1000 شيكل، أدناها لقسم الخدمات. قَبِل أحمد بهذا الوضع لأنه كان مساهماً رئيسيّاً في مصروف عائلته، ولأنّه بحاجة لموردٍ ماديّ يُعينه على متطلبات دراستهِ في الجامعة.
يقول أحمد ساخراً إنّه كان محظوظاً لأنّه يعمل في مول يراعي حقوق العمال، فمقابل ثماني ساعات وأكثر من العمل كان يتقاضى 750 شيكلاً، أي ما يعادل 207 دولارات شهريّاً، بينما يتقاضى أخوه الذي يعمل لنحو 12 ساعة يوميّاً في مول آخر معروف في غزّة، ما يقارب 600 شيكل شهريّاً (165 دولاراً)، ويعود إلى البيت وبدنه متهدم: "تطلع عليه تشوفه جلدة وعظمة والله".
عمل أحمد في قسم الخدمات والتنظيف لفترة، ثم نُقِل إلى قسمٍ آخر، يقول إنّه كان "بيدقاً" بيد المشرف على العمل، يُنقل من قسمٍ إلى آخر حسب رغبة المشرف، ويُخضعُ الأخيرُ راتبَه للزيادة أو الخصم وفقاً لذلك. ظلّ أحمد على هذه الحال لنحو 5 سنوات، يتأرجح بين الأقسام في قلق. ما يعصف به، يعصف براتبه أيضاً الذي لم يزد طوال تلك السنوات سوى 100 شيكل.
مطلع العام الجاري أراد المشرف أن يُعيد أحمداً إلى قسم الخدمات، يقول: "رفضت ولا يمكن أرجع لكل هالتعب بدون مقابل أو زيادة راتب!". هدّده المشرف: "في ألف غيرك!". ثمّ وصلَهُ تهديدٌ آخر من الفريق القانونيّ للمول، إلى أن وصلوا معه إلى تسوية تضمن دفع أتعابه مقابل التوقيع على استقالته، فوافق مدفوعاً بحاجته إلى مبلغٍ يسدّ به ديونه، وإن تبقى من تلك الأتعاب شيء فإنّه ينوي التفكير بخطوات جديّة للهجرة من غزّة.
وفي "مولات" ثانية غير التي عمل فيها أحمد، فإنّ رواتب العمال الشهريّة تتراوح فيها بين 400 لـ 600 شيكل مقابل نحو 12 ساعة عمل يوميّاً، يقضيها العامل في حرصٍ شديد من أن يتصيد أحد المدراء أخطاءَه ويستغني عنه بسهولة. منهم نبيل (23 عاماً) الذي يقضي نحو 12 ساعة يوميّاً في العمل مقابل 600 شيكل شهريّاً. يقول إنّ راتبه بالكاد يكفي لمواصلاته للعمل وبعض حاجيات عائلته: " كأني بس بهرب من البيت والله، أما تعب وجوع عالفاضي".
ظروف عمل مجحفة بلا ميثاق مهنيّ
للمولات والمتاجر الكبيرة بنية إدارة هرميّة تعكس قدراً كبيراً من التعسف بحقّ العمال. يترأس هرم الإدارة شخص يسمى الـمهندس. يأتي بعده شخص آخر وهو الوسيط بين العمال وبين المهندس ويسمّى المُشرِف. للأخير، مهام مراقبة ومتابعة العمل، وفي يده صلاحيات معاقبة ومكافأة العامل، ونقله من قسمٍ إلى آخر. يقول أحمد إنّ العلاقة بين المُشرِف والعُمّال علاقة مضطربة وأنه لا يحكمها ميثاق مهنيّ، بل إن كثيراً من إجراءات المشرف تعتمد على المحسوبية، كترقية من يعرفه، وإقصاء من لا يعرفه.
يتذكر لؤي يوسف (29 عاماً) الذي يعمل بنظامٍ جزئيّ في قسم الخدمات في مول آخر معروف في غزّة، وهو وكيل لماركة تركية معروفة، يوم خصم المشرف أجرة ثلاثة أيام له بعد أن وجده ممسكاً بهاتفه خلال العمل. يقول يوسف الذي يتقاضى 400 شيكل (110 دولار) شهريّاً مقابل العمل 8 ساعات، إنه كان بين العمال والمشرف اتفاق شفهي: "طالما ما في زحمة في المكان ولا في زبائن، ممكن نقعد ونمسك الجوال". لكن المشرف تنكر لذلك، وقرر أن يخصم الأجرة.
لم ينجح يوسف في تجاوز عتبة المشرف إلى المهندس الذي حكى له بلهجته المترفعة: "المشرف حلقة الوصل بيننا، فش حكي بيننا"، وعبثاً كانت محاولاته. اضطر يوسف لتقبل هذه المعاملة: "فش بديل يا زلمة، لو في من الصبح بترك". لكن الحادثة تركت أثراً فيه يصعب تجاوزه كما يقول: "أنا بضطر أشتغل شغلتين في اليوم عشان أقدر أوفر مصروف أهلي وعائلتي، وفي الآخر يخصم علي بكل هالسهولة؟ بكيت من القهر يومها".
ليس لدى المولات سياسة مهنيّة أو بروتوكول ناظم لعلاقة أصحاب العمل والمتنفذين بمرؤوسيهم. على سبيل المثال، يمكن لشكوى عابرة من زبون أن يُطرد على أساسها العامل دون أن يكلّف صاحب العمل أو المشرف نفسه عناءَ تشكيل لجنةٍ لبحث حقيقة الأمر. كما أنَّ مجادلة مع المشرف يُمكن أن تنتهي بطردٍ للعامل. بخيبة، يقول يوسف، إن قرار طرد العمال أبسط قرار يمكن أن يتخذه المشرف: " صدقني لما أقلك ما بياخد معاه الموضوع دقيقة تفكير! ثم، وقف شوي وشوف العمال مين هم؟ خريجين كلهم، حاجتهم إلي دفعتهم يشتغلوا هالشغلانة".
عاماً بعد آخر، يتضاعف أعداد الخريجين الذين ينضمون إلى جانب الآلاف غيرهم ممن يبحثون عن فرصة عمل. بحسب وزارة العمل في غزّة، فإنّ معدلات البطالة في قطاع غزة وصلت إلى 45%. ووفق مصادر، فإن نسبة البطالة بين الخريجين وصلت إلى 70%، في حين بلغ مجموع المتعطلين عن العمل نحو ربع مليون، والعدد مرشح للزيادة. أتاحت هذه الوفرة الهائلة في عدد المتعطلين عن العمل والباحثين عن فرص للعمل خصوصاً بين الشباب مصدراً مريحاً للعمالة متدنية الأجور بالنسبة للمولات والمتاجر الكبيرة في قطاع غزّة.
وبحسب المهندس طلعت أبو معيلق مدير عام دائرة التفتيش في وزارة العمل، فإنّ عدد العمال في المجمعات التجارية (المولات) التي تضم خدمات تسوقيّة وخدماتيّة ضخمة، والمتاجر الكبيرة (سوبر ماركت كبير) هو 681 عاملاً موزّعين على 32 متجراً كبيراً (مول) في مختلف محافظات غزّة. ويقول إنّ عدد العمال قد يكون أكبر من ذلك، لكن هذه هي النسبة المسجّلة لدى الوزارة.
عندما يخلق الحصار اقتصاداً استهلاكيّاً
خلال أكثر من عقدٍ ونصف على الحصار، عمل الاحتلال على تغيير ديناميكية الاقتصاد في غزّة من خلال منع دخول المواد الخام ومستلزمات الإنتاج المحليّ، وبذلك خلق اقتصاداً استهلاكيّاً بالدرجة الأولى يعتمد على الاستيراد والبيع. أمام ذلك، لم يجد أصحاب رؤوس الأموال، كما يقول المختص في الاقتصاد أحمد أبو قمر، سوى المشاريع الخدماتية كمنفذٍ آمن ويحتمل التقلبات في القطاع.
وهكذا بدأت منذ عام 2012 تقريباً مشاريع المولات والمتاجر الكبيرة والمشاريع السياحيّة بالظهور والتوسع شيئاً فشيئاً عبر سلاسل وأفرع حتى وصلت إلى المناطق الأكثر شعبيّة، والأكثر حيوية أيضاً، بتسهيلٍ من الجهات الرسمية المعنية بما توفره هذه المنشآت من مصادر ضريبة ثابتة.
تحتفظ هذه المنشآت على الرغم من توسعها وكبر رأس مالها وحضورها في السوق، بالسياسة ذاتها المجحفة بحقّ العمال: رواتب متدنية، عدد ساعات عمل طويلة، وتسلط وإهانة. إلى جانب ذلك، تهدّد هذه المنشآت، مستعينةً بمقدراتها المالية الضخمة، المنشآتِ الصغيرة، وتقلّص من قدرتها على المنافسة حتى في قلب المناطق الشعبيّة.
اقرؤوا المزيد: "غزّة: أهلاً بكم في تجربة التسوّق المميّزة!".
على سبيل المثال، في جولةٍ قصيرة في سوق مخيّم جباليا للاجئين شمال قطاع غزّة، وهو أكبر الأسواق الشعبيّة، يمكن ملاحظة تقلص أعداد المتسوقين، خصوصاً في ساعات المساء. في مقابل تكدّس المتسوقين في المتاجر الضخمة التي جرى افتتاحها مؤخراً قرب سوق المخيم والتي تضم مختلف السلع الغذائية والتموينية.
يقع على كاهل الجهات مسؤولية كبيرة في الأزمات التي يعاني منها العمال والخريجون. أولاً، لم تبذل حكومة غزّة جهداً في توفير فرص عمل ومفاضلة، كما يقول أبو قمر، عدا عن فشلها في تثبيت حدٍّ أدنى للأجور يُلزِم أصحاب المنشآت، وخصوصاً المنشآت التي تنمو بصورةٍ ملحوظةٍ على حساب استغلال العمال وحالة البطالة في غزّة.
تُبرّر الحكومة ذلك بعدم قدرتها على تحديد حدٍّ أدنى للأجور في "ظلِّ حالةٍ اقتصاديّة غير مستقرة خلقها الحصار الإسرائيلي"، وفق تصريحٍ لوكيل وزارة العمل في غزة إيهاب الغصين، الذي قال أيضاً: "لا يمكن لحكومة غزة تحديد الحد الأدنى للأجور بـ 1400 شيكل، كما هو الحال في الضفة الغربية، فغزة لها خصوصيتها".
مؤخرًا، أعلن الغصين، أنّ وزارة العمل ستشكّل لجنة لبحثّ التوصل إلى ما أسماه "اتفاق عمل مع أصحاب العمل" يقضي بتوفير حدٍّ أدنى للأجور وفق حال كل منشأة بشكل منفصل. غير أن هذه الخطوة تحمل تبعات إشكالية، كما يقول أبو قمر، الذي يجد أن وزارة العمل أمسكت السلم بالعكس، مشيراً إلى أنَّ تثبيت حدٍّ أدنى إجباري "يعني أننا سنرى أثراً معاكساً، وهو زيادة البطالة. إذا وضع صاحب العمل تحت ضغط تثبيت حد أدنى بما يتجاوز المعدل الحالي، سيضطر للتخلي عن عدد من العمال في سبيل تحقيق ذلك".
اقرؤوا المزيد: "المول ضد البسطة.. هذا الطريق آخرته لحن حزين".
بحسب أبو قمر، فإن الخطوة الأولى التي يجب أن تفكّكها الحكومة في غزّة، هي معالجة المؤشرات التي تحدّد الحد الأدنى للأجور، مثل: "رفع الناتج المحلي، ورفع كفاءة القطاعات الإنتاجيّة والصناعيّة في غزّة، ومعالجة البطالة، وتخفيض الضرائب والتعليات الجمركيّة على كثير من البضائع".
لكن من الناحية المقابلة، يرى الخبير والمحلّل الاقتصادي ماهر الطباع أنّ مقومات تحسين متوسط الرواتب الدارج في المولات والمنشآت التجارية، أمرٌ ممكن، دون أن توضع المنشآت أمام قرار التخلي عن العمال لتحقيق ذلك أو أن يؤثر ذلك على أرباحها.
بحسب الطباع، فإنّ تشكيل وزارة العمل لجنة لتحديد صيغة يتُفق عليها في الأجور، خطوة يمكن أن يبنى عليها بجديّة، شرط أن تتوافق الجهات الثلاثة، وهي القطاع الخاص والحكومة، والعمال أو النقابة باعتبارها الممثل، على حدٍّ أدنى يُحسّن من وضع العمال. ويضيف أنّ المطلوب هو ضبط الحالة، والاتفاق على صيغة ليست فقط في الحدّ الأدنى للأجور، بل أيضاً في الحقيبة الحقوقية الكاملة للعامل بما يضمن أن تكون بيئة العمل أكثر عدالةً مما هي عليه الآن.
*أسماء العمال الواردة في المقال جميعها أسماء مستعارة بناءً على طلبهم.