7 مارس 2020

مواصلات بدل الأرض.. فلسطينيّات الداخل في سوق العمل

مواصلات بدل الأرض.. فلسطينيّات الداخل في سوق العمل

رغم ارتفاعها في السنوات القليلة الأخيرة، لا زالت نِسَبُ انخراطِ النساء الفلسطينيّات داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 في سوق العمل منخفضةً. في العام 2018، انخرطت 38% فقط من النساء الفلسطينيّات في سوق العمل في "إسرائيل"، مقابل نسبة 34.9% في العام 2017. وهي نسبة تبقى ضئيلة جداً مقارنةً مع المعدّل العام في "إسرائيل" الذي بلغ 74% من النساء، أو حتّى مقارنةً بالنساء اليهوديّات المتديّنات (حريديم) اللواتي انخرطت 76% منهنّ في سوق العمل في العام ذاته.

حظيت هذه الفجوة في السنوات الأخيرة باهتمامٍ رسميٍّ إسرائيليٍّ، ورأت المؤسساتُ الإسرائيليّة حاجةً لرفع هذه النسب و-"دمج" النساء الفلسطينيّات من الداخل في سوق العمل. ينطلق هذا الاهتمامُ الإسرائيليّ من عدّة دوافع مُعلنةٍ وأُخرى غير مُعلنة. أوّلها المُعلن، وهو انضمام "إسرائيل" إلى منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية (OECD)، والتي تُجري مراجعاتٍ سنويّةً حول "الفجوات الاقتصاديّة-الاجتماعيّة"، وتشترط على الدولة العضو العملَ على سدِّ هذه الفجوات. أما الدوافع الأقلّ وضوحاً فهي تلك المتعلّقة باستغلال اليد العاملة الرخيصة للنساء الفلسطينيّات، وبالسياسات الديمغرافيّة التي تسعى لتقليص نسب الولادة في المجتمع الفلسطينيّ.

وفي سعيها من أجل رفع نسب الفلسطينيّات العاملات، تهتمُ سلطاتُ الاحتلال بقطاع المواصلات العامّة وتطويره، إذ تعتبره عائقاً مركزيّاً أمام انضمامهن لسوق العمل. إلا أنّ التشديد الإسرائيليّ على هذا القطاع يهدف إلى رفع نسبة العاملات دون أن يعود ذلك بمنفعةٍ على اقتصاد القرى والمدن الفلسطينيّة وتطوّر مناطقها الصناعيّة والتجاريّة وتوسيع أراضيها، بل على العكس، يُبقي على ارتباط المجتمع الفلسطينيّ بالاقتصاد وسوق العمل الإسرائيليّ.

نسبة النساء المنخرطات في سوق العمل، وفقاً لإحصائيات عام 2018.

عمل أرخص، ولادات أقل

تُجمِع التقارير على الانتهاكات الصارخة لحقوق النساء الفلسطينيّات العاملات في الداخل، والتي تعني خفض تكلفة تشغيلهن. بحسب التقارير الحكوميّة الإسرائيليّة للعام 2019، تتقاضى النساء الفلسطينيّات أقلّ من 50% من معدّل الدخل الشهريّ في "إسرائيل". كما تُحرم غالبيّة النساء من مستحقّات النقاهة والتقاعد. وتعمل شرائح واسعة منهنّ دون قسائم رواتب تنظّم وتثبت عملهن، وهو ما يصعّب إثبات انتهاك المشغّل لحقوقهن أمام المحاكم، أو يَحولُ دون أخذهن مستحقّاتِ البطالة في حال تركن مكان العمل. كذلك رصدت التقاريرُ إجبار النساء على العمل لساعاتٍ إضافيّةٍ وفي أيّام العطل دون أجرٍ إضافيّ، عدا عن التأخر في دفع الأجور وغيرها من الظروف غير العادلة.

أما في جانب السياسات الديمغرافيّة، فقد أوضحت دراساتٌ إسرائيليّةٌ أنَّ ارتفاع نسبة العاملات بين النساء الفلسطينيّات يُقـابِلُه انخفاضٌ في نسب الولادة بينهنّ. وذلك بعكس النساء الإسرائيليّات اللواتي ترتفع لديهن نسبُ الولادة في علاقةٍ طرديّة مع ارتفاع نسبة انخراطهن في العمل. بحسب دائرة الإحصاء المركزيّة الإسرائيليّة، فإن معدّلات الولادة عند النساء الفلسطينيّات العاملات أقل بـ50% من معدّلاتها بين النساء الفلسطينيّات غير العاملات.

اقرأ/ي أيضاً: "هكذا قلصت "إسرائيل" معدلات الولادة الفلسطينية".

يعود هذا إلى عوامل موضوعيّة تتعلّق بالأوضاع المتدنيّة لجهاز التربية والتعليم لدى الفلسطينيّين في الداخل، بينما يحظى الأطفالُ الإسرائيليون بظروفٍ تربويّةٍ تُتِيح لذويهم العملَ بحريّةٍ خلال ساعات النهار. ومن ذلك الحضانات المرخّصة للأطفال في سن 0-3 سنوات، وأطر التعليم الإجباريّ للطفولة المبكّرة (قبل الصفّ الأوّل)، ثم برامج "يوم التعليم الطويل" التي تُبقي الطلّاب في مدارسهم لوقتٍ أطول.

في المقابل، تفتقر القرى والمدن الفلسطينيّة في الداخل إلى الأطر التربويّة لحضانة الأطفال تحت سن 3 سنوات، وهي أطر ضروريّة حتّى تتمكّن الأمّهات من الخروج إلى سوق العمل. مقابل حضانة واحدة لكل 250 طفلاً في التجمّعات الإسرائيليّة، لا تحظى البلدات الفلسطينيّة إلا بحضانةٍ واحدةٍ لكلّ 2,000 طفل. على سبيل المثال، في النقب، تتجاوز نسبةُ الأطفال في سن 3-4 سنوات دون إطارٍ تربويٍّ حدّ الـ75%، مقابل 5% فقط بين الأطفال الإسرائيليين.

بسبب هذه الظروف، تضطر المرأة الفلسطينيّة للاختيار بين العمل والإنجاب، ويتحوّل دخولها إلى سوق العمل عاملاً يُساهم في تقليل الولادات في العائلات الفلسطينيّة.

انعدام فرص العمل

إنّ الأزمةَ الحقيقيّةَ التي تُوَاجِهُ النساءَ الفلسطينيّات في الداخل هي النقصُ الشديدُ في أماكن العمل، وتحديداً نقص فرص العمل في القرى والمدن الفلسطينيّة. في العام 2013 مثلاً، كان معدّل مساحة المناطق الصناعيّة 0.9 متراً مربّعاً في التجمّعات الفلسطينيّة، مقابل 6.5 متراً مربّعاً في التجمّعات الإسرائيليّة. ومعدّل مساحة المناطق التجاريّة 1.7 متراً مربّعاً في التجمّعات الفلسطينيّة، مقابل 5.1 في التجمّعات الإسرائيليّة. ويعود هذا بالأساس إلى رفض توسيع مسطّحات التجمّعات الفلسطينيّة وسلبها أراضيها. إثر هذا النقص، تعمل الأغلبيّة الساحقة من الفلسطينيين في الداخل خارج تجمّعات سكنهم وفي التجمعات الإسرائيليّة.

أحد أسباب النقص الشديد في فرص العمل للنساء هو سلب الأراضي من البلدات الفلسطينية، وبالتالي صعوبة إقامة مناطق صناعيّة فيها.

يؤدي هذا الواقع إلى ارتفاعٍ في عمل النساء في مجالاتٍ خدماتيّةٍ وصناعيّةٍ وزراعيّةٍ في المناطق الإسرائيليّة، وتُوّفّر بذلك لهذه المناطق شريحةٌ اجتماعيّةٌ من العاملات هي أكثر عرضةً للاستغلال، وبالتالي توفّر يد عاملة رخيصة للمصالح الإسرائيليّة. تتصاعد هذه النسبة بين النساء غير المتعلّمات والمتوجّهات إلى "مكتب العمل" (تابع لوزارة التشغيل الإسرائيليّة)، الذي يرسلهن للعمل في خطوط الإنتاج والمناطق الصناعيّة التابعة للكيبوتسات والمستوطنات الإسرائيليّة، خاصةً في الجليل والنقب، كما لأداء المهام الزراعيّة في الحقول الإسرائيليّة.

ارتفاع نسبة النساء الفلسطينيّات العاملات يعود، بحسب تقريرٍ صادرٍ عام 2018، إلى أمرين اثنين. الأول: ارتفاع في عدد النساء غير المتعلّمات العاملات في وظائف لا تتطلّب معرفة متخصّصة، وخاصةً النساء من شريحة الجيل 45-54 عاماً. والثاني: تدفّق النساء الفلسطينيّات إلى التعليم الأكاديميّ. مع هذا، يُذكر أنّ 70% من النساء المتعلّمات العاملات، لا يجدن وظائف في تخصصاتهن ويضطررن للعمل في وظائف غير ملائمة، كما تُشير معطيات مكتب الإحصاء المركزيّ الإسرائيليّ لعام 2017 أنّ الفترةَ التي تحتاجها المرأة الفلسطينيّة لإيجاد وظيفة ملائمة لمؤهّلاتها تزيد عن عام.  

ظروف المواصلات العامّة

في مواجهة النقص الحادّ في أماكن العمل في التجمّعات الفلسطينيّة، فإنّ الحلَّ الذي تقترحُه السلطاتُ الإسرائيليّة يرتكز أساساً على إيجاد طريقةٍ لتوصيل النساء إلى أماكن العمل في التجمّعات الإسرائيليّة. منذ التسعينيات، تعزو التقارير الإسرائيلية النسبَ المنخفضة لعمل النساء إلى عدم توفر شبكةِ مواصلاتٍ ملائمة في التجمّعات الفلسطينية، وتعتبره عائقاً مركزياً.

وفي الواقع تعاني البلدات الفلسطينية من تدنّي أوضاع هذه الشبكة فعلاً. بحسب دراسة "بنك إسرائيل" من العام 2019، فإنّ عددَ سفريّات المواصلات العامّة من التجمّعات الفلسطينيّة إلى مناطق أماكن العمل لا تزيد عن 23% من عدد السفريّات من التجمّعات الإسرائيليّة إلى أماكن العمل.

إحدى الأمثلة التي تعرِضُها تلك الدراسة هي مقارنة بين بلدة كفر قاسم (21,000 نسمة) وكيبوتس "شوهام" (19,500 نسمة) حيث يكاد يتساوى عدد سكّان المنطقتين، بينما تحظى كفر قاسم بخطِّ مواصلاتٍ واحد يصل 62 مرّة يوميّاً، مقابل كيبوتس "شوهام" الذي يحظى بــ27 خطّاً مختلفاً للمواصلات يَصِلُه 232 مرّة يوميّاً. بينما أظهرت دراسة سابقة للبنك أن معدل عدد السفرات 13.2 سفرة لكلّ 1,000 إنسان في البلدات الفلسطينيّة، مقابل 25.9 سفرة لكلّ 1,000 إنسان في التجمّعات الإسرائيليّة.

قدّرت وزارة الماليّة الإسرائيليّة أن شبكة المواصلات تحتاج ما يزيد عن 400 مليون شيكل لإغلاق الفجوات في البنى التحتيّة بحسب متطلّبات منظّمة OECD، إلا أنّ تقارير المنظّمة نفسها تؤكّد على فشل "إسرائيل" في 45% من مشاريع تحسين البنى التحتيّة، بما في ذلك شبكة المواصلات العامّة، وذلك بسبب استثمارها الموارد الماليّة والإداريّة في المجال الأمنيّ والتكنولوجيّ.

إلا الحلول الجذريّة

رغم الأزمة الجديّة التي تعاني منها بلدات الداخل فيما يتعلق المواصلات العامّة، إلا أن صبّ "إسرائيل" جلّ اهتمامها في هذا القطاع تحديداً يدعو إلى التساؤل عن حقيقة النوايا الإسرائيليّة. يُلَمّح هذا الوضع إلى أنّ الهدف الرئيس من السياسات الإسرائيليّة هو توفيرُ حلولٍ التفافيّة تحَقِّقُ هدفَ رفع نسبة العاملات دون توفير حلولٍ جذريّةٍ من قبيل تطوير القرى والمدن الفلسطينيّة من خلال توسيع أراضيها وتخطيطها وإقامة مناطق تجاريّة وصناعيّة جديدة فيها. وهذه كلّها مشاريع من شأنها لو نُفِّذت أن تحقق مكاسب ضخمة للسلطات المحليّة من عائدات الضرائب.

لذلك، يبدو أنَّ التركيز الإسرائيليّ على أزمة المواصلات، وغيرها من الحلول الالتفافيّة، يهدفُ إلى رفع نسبةِ عمل النساء الفلسطينيّات دون أن يجني المجتمعُ الفلسطينيّ ثمرةَ هكذا تغييرٍ إيجابيٍّ، ودون أن تضطر "إسرائيل" إلى تعزيز اقتصاد القرى والمدن الفلسطينيّة بشكلٍ جذريّ، ودون أن تسمح للتجمّعات الفلسطينيّة بأن تتحلّى باستقلالٍ اقتصاديٍّ نسبيّ. تسعى هذه السياسة إلى تعميق اعتماد الفلسطينيّين على سوق العمل الإسرائيليّ، وبالتالي تعميق خضوعنا لشروطه الاقتصاديّة والسياسيّة.  

تنشر هذه المادّة ضمن برنامج الزمالة لتدريب الكتاب والصحافيين، والذي بدأته متراس منذ ديسمبر/ كانون الأول 2019.



25 يناير 2022
هذا المقال غائمٌ جزئيّاً

صيفاً شتاءً، يتساءل النّاسُ عن أحوال الطقس. المزارعون لأجل الاطمئنان على محاصيلهم ومعرفة مصير المواسم التي ينتظرون، والمُسافرون حتّى يُحدّدوا…